الشيخ سعيد الكوردي ـ أو النورسي ـ هو عالم دين شهير وصاحب الطريقة الدينية الكبيرة في تركيا والتي تعرف بـالنورجية، من كلمة نور، وهو كردي الأصل جاء الى الدنيا في عام 1876 في نورس quot;Nursquot; التابعة لولاية بدليس الكردية. في مقتبل شبابه لقب بالكردي وذلك بسبب فكره القومي، وكان يلقب أيصاً بـالمللا المشهور في محيطه. ثم أطلق عليه لقب quot;بديع الزمانquot; في إستانبول وذلك لتضلعه وإجتهاداته في شؤون الدين. في سنواته الأخيرة صارت الكثرة تناديه بلقب quot;نورسيquot; دون بقية الألقاب خوفاً من بطش الدولة التركية.

حياته التي دامت حوالي تسعين عاماً هي تراجيديا تدمى لها القلوب، قضاها كلها في المحاكم والسجون والمنافي. والسبب في ذلك هو كونه كردياً وفي نفس الوقت عالم وفيلسوف في الدين الإسلامي وشيخ طريقة. إشتهربكتابه quot;رسالة النورquot;.

أمضى النورسي العمر كله في مقارعة الحكم العثماني وبعدها ضد الجمهورية الكمالية دون أية دعوة أو ممارسة للعنف، حتى أنه لم يجد وقتاً للزواج وبناء بيت وتكوين أسرة. فرضت عليه الإقامة الجبرية في محيط قريته quot;نورسquot; في عهد السلطان عبد الحميد حتى عام 1908 حيث تمكن بعدها من الوصول الى استانبول وهناك بدأ في الكتابة في جريدةquot;Volkanquot;أي البركان ووقتها كان يستعمل لقبquot;سعيد الكرديquot;.

قضى النورسي معظم سنين حياته في المنافي التركية غرب الأناضول على أيدي الدولة التركية التي كانت تخشى عودته الى موطنه الأصلي في كردستان. بعد ثورة الشيخ سعيد بيران في آمد {دياربكر} تم إبعاده الى المنفى في غرب تركيا أولاً منطقة quot;Burdurquot; ثم إسبارتا quot;Ispartaquot; {موطن سليمان ديمريل} ولمدة ثماني سنوات حيث قضى في السجون والمنافي الأخرى التي لا تحصى على هذا الشكل حتى عام 1960. الشيء المثير والمدهش حقاً هو تقاطر المريدين عليه أينما حل وتجمعهم حوله وكأنه كشعلة من نور. المريدون كلهم تقريباً كانوا من الأتراك وعددهم تجاوزعشرات أضعاف مريديه من الكرد، ولا يزال الأمر كذلك.

أنا لست هنا بصدد البحث في تاريخ ومآثرهذا الشيخ الجليل، وكما قال الصحفي والشخصية القومية المرحوم موسى عنتر في مذكراته: البحث والكتابة عن العلامة سعيد نورسي يحتاج الى المجلدات. الذي أنا بصدده هو المأساة التي حلت به بعد وفاته لما فيه من عبرة ومأساة. في آذار عام 1960{ قبل الإنقلاب العسكري بشهرين والذي حدث في ايار} كان النورسي منفياً في استانبول، وشعر أن وضعه الصحي ليس على ما يرام. أخبر الذين من حوله أنه يريد أن يدفن في كردستان. وقتها كان مندرس رئيس الحكومة وزعيم الحزب اليمقراطي. الكثير من مريدي الشيخ كانوا متنفذين كبار في البرلمان والحكومة. هؤلاء جهزوا سيارة خاصة لتتجه بالشيخ نحو كردستان حيث وصل الى مدينة أورفا {كان ممنوعاً من السفر} والعملية كلها كانت سرية. في نفس الليلة تدهورت صحته بشكل مفاجئ وهو في الفندق. وصل الخبر الى المحامي المرحوم فايق بوجاق {أغتيل من قبل الدولة فيما بعد} وهو مقيم في أورفا ورفاقه من الشباب القومي المثقف. هؤلاء جاؤوا بكل الأطباء الذائعي الصيت وبالرغم من كل الجهود توفي الشيخ الجليل في 23 آذار1960 في فندق يتيم ولكن بين أحضان الشهيد الشاب بوجاق وكوكبة أخرى من الشباب المثقف. يقول المرحوم موسى عنترنقلاً عن المحامي بوجاق أن كل تركة الشيخ من بعده كان ما يلي: سلة من القش بداخلها منديلان وجوز من الجوارب وعددين من الكلاسين والفانيلات وإبريق للوضوء وسبعة ليرات ونصف الليرة من العملة التركية داخل خرقة صغيرة من القماش {لوكان سعى الى المال لكان بإمكانه الحصول على ملايين ذلك الزمن، وهذا ما أدهش الكثيرين من بعده}. أمنية الشيخ كانت أن يزور آمد، سيرت، بدليس، موش، هكاري. الأمنية تلك لم تتحقق، إلا أن جزءاً من وصيته قد تحققت وهو الدفن في كردستان. فايق بوجاق قام بواجبات الجنازة ووري الجثمان الطاهر في الجامع الشهير في اورفا وهو جامع خليل الرحمن. أصبح ضريح الشيخ مزاراً يؤمه مئات الآلاف من مريديه وجلهم من الأتراك ومن غرب الأناضول {منافي الشيخ} قادمين بالباصات ومتحملين كل مشقات السفرفي ذلك الزمن. المريدون الكرد أيضاً كانوا ينضمون الى هؤلاء.

بعد الإنقلاب العسكري في ايار 1960 جاء العنصريون الفاشيست في ظلمة الليل وفتحوا الضريح وسرقوا الجثمان الطاهر ويقال أن الدولة ألقت بالجثمان الذي كان داخل صندوق حديدي من الطائرة الى البحر المتوسط في مكان ما بين مدينة ميرسين وجزيرة قبرص. وظل الأمر ولايزال سراً من أسرار الدولة التركية. ومع ذلك ظل مكان الدفن وحتى يومنا هذا محافظاً على قدسيته ويزوره المريدون الذين يطلق عليهم إسمquot;النورجيينquot; وهم يشكلون قوة كبيرة في تركيا، ويقال أن السيد رئيس الجمهورية عبدالله غول ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان وكثيرين ينتمون الى هذه الطريقة وهم كثرة بشكل خاص في مدينة إزميرفي أقصى الغرب التركي.

أدناه تجدون بعض السطورللكاتب السيد ويسي آتيشquot;Veysi Ateshquot; في 2009/8/30وأظن أنه ينحدر من أسرة من مريدي الشيخ: quot; الذين فتحوا ضريح سعيد نورسي في 12 تموز 1960 ليسوا من المدنيين. بل هم إنقلابيوا 1960. الطائرة التي حملت النعش لم تكن طائرة الخطوط الجوية التركية بل كانت طائرة عائدة للجيش التركي. الطيار الذي هشم التابوت { الذي كان كبير الحجم بالنسبة للطائرة} لم يكن طياراً مدنياً، بل كان طياراً عسكرياً. الأشخاص الذين جاؤوا بالجثمان الى إسبارتا quot;Ispartaquot; ودفنوه فيها لم يكونوا من محبي الشيخ، بل كانوا من البوليس والجيش.سعيد نورسي الآن يرقد في قاع البحرالابيض المتوسط، أنا أيضاً كنت في نفس تلك الطائرة، قالها أحد الأشخاص لواحد من معارفه المقربين. هذا الشخص ليس بسائح، بل إنه عسكري وبرتبة لواء ويدعى نصرة قاياquot;Nusret Kayaquot;. ماذا تريد الدولة من جسد هذا الإنسان الذي قضى العمرفي السجون ومتنقلاً من منفىً الى آخر. هذا لا أستطيع إدراكه....


الدولة وحدها هي المسؤولة عن هذا العار وعليها بالذات أن تغسله وذلك بالكشف عن كل ما حصل. هذا ليس من واجب النورجيين إنه أولاً وأخيراً عبئ يقع على عاتق الدول وعليها أن تعترفquot;.

الدولة التركية حاربت الكرد حتى في قبورهم ولجأت الى أحط وأخس الوسائل كما رأينا في سيرة هذا الشيخ الجليل. والآن تعود هذه الدولة عن غيها لتتصالح مع تاريخها وكردها لتعيد الأمورالى نصابها. هل لدى النظام السوري القدرة على إستخلاص العبر والدروس من جيرانه ليعود الى رشده قبل الغوص أكثرفي مستنقع العنصرية ضد الكرد؟.لا أعتقد ذلك....النظام وقبل كل شيء لا يمثل الشعب السوري، والأخوة العرب بشكل خاص براء من حكام اليوم وما يرتكبونه من جرائم بحق عموم الشعب السوري.

بنكي حاجو
طبيب كردي ــ السويد
[email protected]
المصادر: مذكرات السيد موسى عنتر.