أعلن حزب العمال الكردستاني في الأول من حزيران 2004 إستئناف العمليات العسكرية ضد الجيش التركي وقوات الشرطة والإستخبارات العاملة في مناطق وولايات كردستان( الحزب أعلن في أعوام 1993 و 1995 و1997 و1998 و2006 عن وقف إحادي لإطلاق النار من أجل تمهيد الطريق للحوار والحل السلمي). قرار إستئناف العمليات العسكرية الهجومية جاء بعد إلتزام الحزب بهدنة طويلة الأمد بدأت عام 1999 بعيد المؤامرة الدولية على زعيمه عبدالله أوجلان والتي إنتهت بإختطافه من كينيا وتسليمه للدولة التركية، وإلى 2004، حيث لم تعترف قوات الجيش التركي بهذه الهدنة وتابعت شن حملات التمشيط والحرب الرامية للنيل من قوات الكردستاني. خسائر الكردستاني في الفترة الممتدة مابين 1999ـ 2004 بلغت حوالي 500 مقاتل، بحسب مراد قره يلان احد قادة الحزب الكبار. ورغم إن الحزب إستطاع إحتواء الهجمات العسكرية التركية( بل وسدد ضربات موجعة إلى الآلة العسكرية التركية)، كما وحافظ على وضعية الدفاع المشروع عن النفس، إلا ان الجانب التركي مضى في رهانه على سياسة الحرب والحسم العسكري. في عام 1999 ارسل حزب العمال الكردستاني مجموعتين الى تركيا بغية الحوار والتفاوض. واحدة مدنية من اوروبا والأخرى عسكرية من الجبال. لكن تركيا القت القبض على افراد المجموعتين واودعتهم السجن...
حكومة حزب العدالة والتنمية رأت بانه من الأفضل اشغال الجيش بمحاربة قوات حزب العمال الكردستاني، وعملت مع الأميركيين، الذين دخلوا العراق في نيسان 2003، وبعض الأطراف الكردية هناك، على إحداث إنشقاق في بنية الحزب بغية تفتيته من الداخل والقضاء عليه. أما حزب العمال الكردستاني فقد إستفاد من وجوده في المناطق الجبلية الشاسعة في المثلث الحدودي الدولي بين كل من إيران، العراق وتركيا، فأنشأ القواعد العسكرية ومعسكرات التدريب المتطورة والتي إستقطبت آلاف الشابات والشبان الكرد من كردستان والشرق الأوسط وأوروبا. لم يبدد الكردستاني أي دقيقة من وقته، حيث نجح بشكل كبير، كماً ونوعاً، في رفد تشكيلاته العسكرية داخل وخارج تركيا بالمقاتلات والمقاتلين الشباب الذين تقاطروا على معسكراته من جميع مناطق وأمصار كردستان الكبرى.
فهم حزب العمال الكردستاني بان سياسة حزب العدالة والتنمية تقوم من جهة على المراوغة والخداع وتقديم الوعود المعسولة حول quot;حل القضية الكرديةquot; بغية الإستحواذ على أصوات الكرد وإبعادهم عن مؤسسات الكردستاني، ومن جهة أخرى تجهد سياسة الحزب الحاكم لدفع الجيش لكي يشن أشرس الحملات العسكرية ضد المقاتلين الكرد. ونتيجة لذلك قرر الكردستاني الرد على سياسة الحزب الحاكم بشكل رادع، بعد حالة الإقتدار العسكري التي تمتع بها نتيجة تطوع آلاف المقاتلين الجدد الشباب في صفوفه، والإنتعاش الذي حدث في تنظيماته العاملة على الخارطة السياسية في كردستان. فكانت الضربة الأولى في 21/10/2007 حينما حاولت وحدة عسكرية تركية التوغل في أراضي اقليم كردستان العراق من جهة منطقة ( أورامار)، وقد كانت مجموعات كردية مقاتلة تكمن لها في التحصينات التي اقامتها هناك، وقد دارت مواجهات عنيفة بين جنود الجيش التركي والمقاتلين الكرد أسفرت عن مقتل العشرات من الجنود الأتراك، وأسر القوات الكردية لثمانية جنود. وكانت لفضائية Roj tv السبق في التغطية وبث مشاهد المواجهات، كما بثت مشاهد جنود الجيش التركي الأسرى وهم يشربون الشاي ويلعبون بالشطرنج في إحدى مواقع المقاتلين الكرد. رئاسة أركان الجيش التركي أنكرت في البداية مقتل هذا العدد الكبير من جنودها، كما انكرت واقعة أسر المقاتلين الكرد لثمانية افراد من القوات الخاصة التي كٌلفت بالتوغل في ( أورامار)، ولكنها مالبثت أن اعترفت بالحادثة مضطرة، بعد أن رأى الناس مشاهد الجنود الأتراك وهم في أسر القوات الكردية. ولكن الجيش التركي إعترف على طريقته، حيث أشار البيان الذي اصدره حول الحادثة إلى quot; فقدان الإتصال بثمانية جنود، يرجح أنهم توغلوا في أرض دولة اجنبيةquot;!. وكان هذا البيان العجيب الأساس في قرار الجيش التركي ايداع جنوده الثمانية السجن بعد أن سلمهم الكردستاني لوفد مشترك من حزب المجتمع الديمقراطي وحكومة اقليم كردستان، حيث كانت التهمةquot; إجتياز الحدود والتوغل في أرض دولة أجنبية دون الحصول على إذن مسبقquot;!.
كما وشنت قوات حماية الشعب( HPG)، وهي الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني، هجوماً واسعاً على نقطة عسكرية تركية في منطقة ( بي زيلي) الواقعة في عمق أراضي كردستان تركيا في 03/11/2008، مما اسفر عن تدمير الموقع وقتل وجرح العشرات من الجنود الأتراك المتحصنين فيه. وقد اصاب ذلك الهجوم الجيش التركي بالهلع وأحدث زلزالاً في تركيا، فقد اطلع الرأي العام على دقة العملية وعرف عدد المقاتلين الكرد المشاركين فيها( حوالي 400 مقاتل) والفترة التي استغرقتها تلك العملية وكيفية الإعداد لها. وقد بثت فضائية ROJ tv تسجيلين مطولين حول الهجوم، تضمنا مراحل التخطيط والعبور والهجوم ومن ثم العودة إلى المواقع.
وكان لعمليتي ( أورامار) و(بي زيلي) النوعيتين أكبر الأثر في إفهام الجيش التركي وحكومة حزب العدالة والتنمية بان القضاء على قوات حزب العمال الكردستاني امر صعب للغاية. ولكن الضربة الكبرى كانت في مواجهات( زاب) شهر شباط 2008 حيث تكبدت قوات الجيش التركي خسائراً كبيرة( أكثر من مائة جندي) حينما حاولت التوغل في اقليم كردستان العراق، تنفيذاً لمذكرة التدخل التي وافقت عليها حكومة حزب العدالة والتنمية.
الجزء الأول |
الجنرال إلكر باشبوغ والذي تولى منصبه رئيساً لهيئة أركان الجيش التركي في 03/08/2008 خلفاً للجنرال يشار بويوكانيت، قد فهم من خلال تجارب الحرب والمواجهات مع قوات الكردستاني بأن هذه الأخيرة لن تنتهي بالسلاح والحملات العسكرية. لذلك فقد منح باشبوغ الضوء الأخضر للحكومة بتفعيل الحرب على جبهات أخرى. قائد الجيش قال في خطاب له بان quot; الإرهاب له عدة أسباب ولايمكن أن يٌقضى عليه بالحرب. هناك حاجة لمحاربته ثقافياً وإجتماعياً وإقتصادياًquot;. وكانت هذه هي الإشارة بإطلاق فضائية ( TRT 6) الناطقة باللغة الكردية، والتي افتتحها رجب طيب أردوغان بكلمة( Hucirc;n bi xecirc;r becirc;n) الكردية والتي تعني quot; أهلاً وسهلاً بكمquot;. ومضى العدالة والتنمية في تنفيذ أوامر الجيش وأعلن عن نيته تنفيذ quot;حزمة من الإصلاحاتquot; فيما يخص حل القضية الكردية.
الزعيم الكردي الأسير عبدالله أوجلان أعلن قبل ذلك بمدة طويلة عن quot;حاجة تركيا إلى خارطة طريق من أجل دمقرطة البلاد وحل القضية الكرديةquot;. أوجلان ذكرّ الأتراك بأن مؤسس الجمهورية مصطفى كمال quot; أتاتوركquot; قد أستعان بالأكراد في quot; حرب التحريرquot; ووعدهم بالحكم الذاتي، وكان يلفظ مراراً كلمة quot; كردستانquot; كمصطلح سياسي/إجتماعي لمناطق تواجد الشعب الكردي. كما أشار أوجلان إلى دستور عام 1921 والذي أقرّ بحقوق الشعب الكردي، وقال quot;يمكن البناء على هذا الدستور كأساس للحل الديمقراطي العادل ووقف الكفاح المسلح الذي يقوده العمال الكردستاني منذ 1984quot;. وكان للقاء الذي اجراه الصحفي التركي حسن جمال مع مراد قره يلان، المسؤول الأول في العمال الكردستاني، في شهر أيار الماضي، الأثر الكبير في إطلاق شرارة النقاش حول فرص حل القضية الكردية. الأوساط الإعلامية والثقافية التركية قالت بأن مطاليب الأكراد والتي جاءت على لسان قره يلان بدت معقولة وممكنة التطبيق. فتلقف العدالة والتنمية القضية وحاول أن يجيّرها لمصلحته ليقول إنه quot;يعتكف ومنذ زمن طويلquot; على إعداد خطة لحل القضية الكردية.
التطورات تسارعت بعد ذلك. إلتقى أردوغان بالنائب أحمد ترك رئيس حزب المجتمع الديمقراطي، كما كلف وزير الداخلية بشير أتالاي بالإتصال بالجهات السياسية والثقافية والإجتماعية المختلفة للتباحث حول سبل حل القضية بشكل سلمي. وبدت الأجواء صافية وساد جو من التفاؤل الكبير بامكانية حل هذه القضية ووقف إراقة الدماء التركية والكردية. لكن تصريحين أطلقهما كل من رئيس الجمهورية عبدالله غول والذي تحدث عن quot;إستبعاد أوجلان وحزب العمال الكردستاني من أية عملية حوار قادمةquot;، وآخر أطلقه قائد الجيش الجنرال إلكر باشبوغ، دعى فيه المقاتلين الكرد إلى الإستسلام، كما أكد على ضرورة تقيّد الحكومة بالثالوث التركي المقدس( علم واحد، شعب واحد، لغة واحدة) بالإضافة الى الرفض العلني لإعتبار اللغة الكردية لغة رسمية في المناطق الكردية، كبح حالة التفاؤل وأعاد بالأمور إلى المربع الأول...
حزب العمال الكردستاني رد على الفور ببيان شديد اللهجة أدان فيه تصريحات غول حول اوجلان، وأوضح بأن quot;الحكومة التركية تراوغ وليست جادة في حل القضية الكرديةquot;، وماتحركاتها هذه إلا quot;محاولة أخرى من محاولات ضرب حركة التحرر الكردستانية والحصول على مكاسب من خلال شق الصف الكردي وخلق أتباع للعدالة والتنمية بين صفوف الأكرادquot;. كما ادان البيان منع السلطات التركية لمحامي أوجلان من اللقاء بموكلهم مراراً بحجج واهية، وفهم الموضوع بأنه quot;محاولة لمنع تسليم أوجلان مشروع خارطة الطريق لمحاميه لطرحه على الرأي العامquot;. كذلك ندد البيان بتصريحات قائد الجيش التركي، مؤكداً بان quot;قوات الحزب لن تتنازل عن حق الكفاح المسلح المشروع حتى يتم الإعتراف بهوية وحقوق الشعب الكردي في تركياquot;. كما سخر البيان من دعوة باشبوغ المقاتلين الكرد للإستسلام، مذكراً بان العديد من قادة الجيش السابقين قد كرروا مثل هذه الدعوات مع العمال الكردستاني، وكان الفشل نصيبهم دائماً.
قرار تجميد العمليات العسكرية الهجومية الذي اعلن عنه الكردستاني في نيسان الماضي لمنح فرصة للمساعي المبذولة من أجل السلام وحل القضية الكردية، سينتهي العمل به في الأول من أيلول القادم، اي بعد بضعة أيام. بينما الأوساط الكردية والتركية ماتزال تترقب تصريحات أوجلان ومشروع quot; خارطة الطريقquot; الذي من المحتمل أن يٌكشف عنه في الأول من أيلول، والذي يصادف يوم السلام العالمي، في إحتفال جماهيري كبير يقيمه حزب المجتمع المدني في مدينة آمد/دياربكر.
الرئيس التركي الأسبق توركوت أوزال كان أشجع من أردوغان وحزبه. أوزال خاطب أوجلان مباشرة عام 1993، عن طريق وسيط هو جلال الطالباني( الرئيس العراقي الحالي) وعرض صيغة الفيدرالية كإطار لحل القضية الكردية. وأوزال نفسه خبر الحرب وكان مهندسها. كان رئيساً للوزراء عند إعلان العمال الكردستاني الكفاح المسلح، وقاد أعنف حملات الحرب ضد المقاتلين الكرد. عمل على تشكيل ( ميليشيات حماة القرى) المرتزقة لمحاربة الكردستاني، وأعطى الأوامر للجيش باحراق القرى وتهجير المواطنين الكرد منها. لكنه مع ذلك فطن الى الحقيقة وعرف بان حرباً اهلية عبثية كهذه يمكن لها ان تستمر اعواماً طويلة وتودي بتركيا إلى المهالك، فإختار السلام، ولكن قوى الحرب قتلته، كما قتلت من قبله الجنرال أشرف بتليس، قائد قوات الجندرمة، والذي أيقن بان حرب العصابات التي يشنها الكردستاني ضد الجيش والدولة لايمكن وضع حد لها، وفضل السلام والحوار وفكر بصوت عال، فكانت نهايته.
حزب العمال الكردستاني لن يلقي السلاح دون الحصول على اعتراف دستوري بهوية وحقوق الشعب الكردي. دون إطلاق سراح أوجلان. دون عودة قادة الحزب، المقاتلين والكوادر إلى البلاج للمشاركة في العملية السياسية بهويتهم القومية. إذ لايوجد هناك ضمان في ألا تعود قوات الجيش التركي للحرب، وتعمد مجدداً الى قتل الكرد ومصادرة حرياتهم في كل مناطق وولايات كردستان. وإعتراف الدولة التركية بوجود قضية كردية في البلاد قد quot;كلفت الدولة غالياً وبات حلها اليوم أفضل من حلها غداًquot; كما قال غول قبل مدة، يعني الإعتراف بالطرف الكردي الذي أوصل هذه القضية إلى هذا المستوى المتطور. هناك قضية كردية، أحياها وصدرّها ودافع عنها حزب العمال الكردستاني منذ أكثر من ربع قرن، إذن فهي لن تٌحل سوى بالحوار معه. حوار بين الحكومة وحزب العمال الكردستاني لحل القضية الكردية الشائكة والمعقدة. هذه هي المعادلة الصحيحة. أي كلام آخر هو تضييع للوقت ليس إلا.
بقي أن نعرف ماهية مشروع quot; خارطة الطريقquot; الذي سيطرحه أوجلان، ورد فعل الحكومة والجيش التركيين. وقتها نستطيع أن نحكم على الأمر: هل ستنجح المساعي المبذولة لحل القضية الكردية، ام ان تركيا ستخسر هذه الفرصة الذهبية أيضاً، وتعود إلى سابق عهدها: تمارس القتل وتتوقع الرد الأكيد. وهكذا تمضي في الدوامة...
التعليقات