من المعلوم أن القوى التي ساهمت في الإنقلاب على الزعيم عبد الكريم قاسم صبيحة الرابع عشر من رمضان (الثامن من شباط) عام 1963 ألصقت به شتى التهم ، فرُمي الرجل بالدكتاتورية والتفرّد بالسلطة تارةً وبالسذاجة والسطحية والافتقار إلى العمق السياسي تارةً ثانية وبالغرور والنرجسية وعبادة الذات تارةً أخرى. ومثل هذه التهم وغيرها، مما يطول سرده وتفصيله، لايصعب أمر الإتيان بها على من يريد إلصاقها بخصمه للنيل من مكانته وسمعته.

ويبقى المحك الحقيقي الذي يثبت دوماً، بما لا يدع مجالاً للشك، مصداقية ما قيل وما يقال أو عدم مصداقيته هو التأريخ. ذلك الضمير الحي المتجسّد في تتابع مطرد لليل والنهار والأيام والأسابيع والشهور والسنين والعقود والقرون. ذلك الشاهد العدل الذي لايفتىء يمنح المتخاصمين، وخاصة الطبقات الحاكمة منهم، فرصاً ذهبية وظروفاً موضوعيةً للعمل على أرض الواقع والنزول من علياء الشعارات الرنانة والخطب الجوفاء والرؤى المجردة والوعود الكاذبه إلى ميدان الواقع الملموس والتجربة العملية. فيحكم على أساس الأفعال والمعطيات وعلى أساسهما فقط يمجّد من يستحق المجد ويسبغ عليه صفة الخلود بكلمات ذهبية على صفحاته البيضاء ويرمي الخونة والأفاقين والجبناء في مزبلةِ له غصت بهم وبأمثالهم على مداه الطويل {وأما الزبدُ فيذهبُ جُفاءً وأما ما ينفعُ الناسَ فيمكثُ في الأرض} (الرعدrlm;:17).

وكم حاول أرباب السلطة في الكثير من الأحايين أن يحتالوا على ذلك الشاهد فيزوّروا شهادته، ولم يعدموا في سعيهم ذلك الوسيلة فما أكثر المستعدين للقيام بهذه المهمة على الرغم من قذارة أدواتها وخسة أهدافها، لكن التاريخ لا يعدم مَن يكتبه بشرف فيفرض دائماً منطقه هو ومن بين سطوره تسطع الحقائق جليةً واضحة كشمس لا يمكن حجبها بغربال.

إن الأثر العميق الذي تركه الزعيم عبد الكريم قاسم في وجدان الفقراء والمظلومين من أبناء الطبقات المسحوقة من الشعب العراقي، والحب الكبير والعواطف النبيلة والسيرة العطرة التي خلفها في قلوبهم التي فُجعت بمقتله، والأيادي البيضاء التي يذكرونها له لأكبر دليل على خلود ذلك الرجل على صفحات تاريخ العراق الحديث.

ولعل كل التهم التي ألصقها ويلصقها خصومه به يمكن أن توضع في كفة والتهمة التي قالوا فيها عنه أنه طائفي منحاز للشيعة في كفة أخرى. وقد استندوا في اتهامهم ذلك على احترامه الكبير للمرجع الديني آنذاك السيد محسن الحكيم الذي كان الزعيم عبد الكريم قاسم يحسب له ألف حساب، والذي ظهرمعه في صورة وهو جالس عند حافة سريره في إحد مستشفيات بغداد، والذي كان يحتفظ دائماً بصورة له في أحد أدراج مكتبه. كما واستندوا في اتهامهم ذلك على اهتمام الزعيم عبد الكريم قاسم بالفقراء من قاطني الصرائف القصبية في ضواحي بغداد القادمين من محافظات العراق الجنوبية الشيعية أملاً في الانعتاق من ربقة الإقطاع والعبودية التي كانوا يرزحون تحته، حيث شرع بتحسين ظروفهم المعيشية والصحية البائسة وأمر ببناء ألآلاف من البيوت لهم في مدينة أطلق عليها مدينة الثورة (مدينة صدام فيما بعد ومدينة الصدر حالياً).

والحق أن الزعيم عبد الكريم قاسم لم يكن في يوم من الأيام طائفياً فهو كما وصفه حنا بطاطو quot;نسيجٌ وحدهquot; ولد من أبٍ عربي سني وأمٍ شيعية كردية من الكرد الفيليّة. إنه بكلمة أخرى العراق بأطيافه المختلفة كأن الله سبحانه وتعالى خلقه ليقف بحق على مسافة واحدة من الجميع.

ولم يعرف العراق وشعبه الطائفية المقيتة إلا عندما تسنًّم خصومه السلطة في حكوماتهم المتعاقبة وانقلاباتهم الدموية. حينها ذاق الشعب العراقي طعم الظلم والتمييز الطائفي والقومي، وعانى الأمرين من سياسات الكيل بمكيالين وإقصاء الآخر وتهميشه بل وسحقة إذا اقتضى الأمر وليس من سبب سوى كونه من طائفة أو قومية أخرى أو من عرق أخر.

رحم الله الزعيم عبد الكريم قاسم وبيَّض وجهه في آخرته كما بيَّض هو في دنياه أياديه على الفقراء والمساكين بقلبه الكبير وإنسانيته الرائعة وتواضعه الجم فأحبه الشعب العراقي بكل طوائفه وقومياته، أحبه من عاصره في حياته و أحبه من قرأ تأريخه بعد وفاته فصار عن استحقاقٍ الزعيم الأكثر شعبية في تاريخ العراق الحديث.