بداية أستميح رفاقي العذر لكتابة الأسطر القليلة التالية عن ldquo;القول الفصل فيما يسمى بالعلمانيةldquo; وهم الذين طالما نبهوني إلى أنني أكرر نفسي دونما طائل، وقد كنت قد كتبت في مطالع يونيو قبل عامين تحت عنوان quot;لا علمانية ولا إكليركية، الدولة هي الدولة quot;، لكن ما الحيلة ومعظم العرب لا يقرؤون وإن قرأوا ينسون. أعود لكتابة هذه الأسطر وها نحن نرى طيفاً عريضاً من الكتاب المتثاقفين والموصوفين quot; باليساريين quot; ينشغل تماماً في الكتابة مؤيداً ما يسمى بالعلمانية ويعارضها قبالتهم مجاميع من المتأسلمين منادين بالدولة الدينية الموهومة.
أعود إلى الكتابة في الموضوع لأوكد لهؤلاء quot;اليساريينquot; مؤيدي العلمانية أنهم عندما ينتصرون لما يسمى بالعلمانية فإنما هم بذلك يؤكدون، دون وعي منهم، حقيقة وجود ما يسمى بالدولة الدينية، الدولة التي يحكمها quot; الله quot; بواسطة المشايخ ورجال الإكليروس لصالحه دون سواه، وهذا أمر مضحك ومستهجن حقاً!! ناهيك عن أنه انتصار حاسم للمشايخ والملالي وعامة رجال الإكليروس. يقوم إدّعاء رجال الإكليروس على التسليم بوجود الله، الذي حرصاً منه على ألا يراه بنو صنيعته آدم، أناب عنه مهدي عاكف في مصر واسماعيل هنيه في فلسطين وحسن نصرالله في لبنان وعلي الخامئني في إيران، أنابهم في أن يحكموا شعوب هذه البلدان وفقاً لشريعته التي لا تتحيز لطبقة دون أخرى أو لفرد دون آخر ؛ يسوسون الناس بالقسطاس مثلما أمرهم ربهم ؛ ودولتهم ليست طبقية حيث أن إلههم الذي يحكمون نيابة عنه لا ينتمي لطبقة اجتماعية معينه، لا هو رأسمالي ولا هو بروليتاري أو من الطبقة الوسطى ؛ إنه نسيج وحده وليس من هذا العالم، وشريعته لا تتماثل مع أية قوانين وضعية!! تلك هي الافتراضات التي تقوم عليها وحدها ما يسمّى بالدولة الدينية.
السؤال الفيصل هنا الموجه لمن يوصفون بالعلمانيين هو.. هل افتراضات أخصامكم من رجال الإكليروس والمتأسلمين، معارضي علمانيتكم، لها نصيب من الصحة؟ لئن كان الجواب بالإيجاب حقاً، فأنا الماركسي اللينيني الذي يقول بأن الديالكتيك المادي وما قبل المادي هو أصل الوجود بل كل الوجود، سأعلن حالتئذٍ أنني أحد الصغار من رعايا الأئمة سالفي الذكر و (طز) بوطني وبشعبي مثلما يقول إمامهم الأكبر محمد مهدي عاكف وهو العالِم بشريعة الله.
أما إذا كان (الله) الجالس على العرش على سطح السماء السابعة مجرد خرافة ابتدعها اليهود في القرن السادس قبل الميلاد كي يحتفظوا بفلسطين وطناً لهم بعد أن خصصها لهم امبراطور الفرس كوروش ـ وليس الله ـ وأعاد لهم بناء الهيكل في العام 537 قبل الميلاد، لئن كان وجود الله مجرد خرافة، فإن إدعاء المتأسلمين وأئمتهم بأنهم ينوبون عن الله في إقامة دولته على الأرض إنما هو إدعاء كاذب يستوجب المحاكمة. يزعمون أن الله هو من خلق كل الأكوان فلماذا يحتاج مع ذلك دولة بعينها على الأرض؟ الأكوان كلها دولته وحتى دول الكفر على الأرض إنما هي جزء صغير جداً من دولته، فما حاجته لإنابة مهدي عاكف وأسامه بن لادن وأضرابهما من جهلاء الطبقة البورجوازية الوضيعة ليقيموا دولة له على الأرض التي لا تساوي مثقال ذريرة في دولته الأعظم التي تتشكل من أكوان لا تعد ولا تحصى؟ ألا يعلم هؤلاء القوم أنهم إنما يكفرون بـquot; الله quot; وهم يزعمون أنه في حاجة إليهم ليقيم دولته على الأرض!؟ ثم لئن وجد الله نفسه مضطراً لأن ينيب عنه أناساً في إقامة دولته على الأرض فإنه لن ينيب حينذاك سوى الرأسماليين الكبار أو الثوريين العظام أو نفراً من الملوك ورؤساء الجمهوريات!! لماذا ينيب نفراً من البورجوازية الوضيعة التي لا تملك من أمرها شيئاً!؟
هؤلاء الأئمة ومن وراءهم من المتأسلمين يزيفون توكيلات لم يوقعها أحد سواهم، وليس من سبب لذلك سوى كون الموكل مجهولُ الهوية جهةً مشبوهة حرص الوكيل ألا يفتضح أمرها فغيّب توقيعها. أباطرة الخلافة الاسلامية لم يخفوا هوية موكليهم فقالوا quot; الخلافة في قريش quot; أي أن الخلفاء إنما هم وكلاء قبيلتهم قريش ؛ أما الرأسماليون في بريطانيا والولايات المتحدة فكانوا يرسلون البعثات التبشيرية إلى المستعمرات، تحمل الإنجيل وتبشر بالله وبالرضوخ لإله الإمبريالية ؛ أما الملالي في إيران فيخفون موكلهم البازار ويدّعون أن موكلهم هو الله وليس البازار وكبار التجار. الأئمة والمتأسلمون اليوم إنما هم وكلاء الطبقة الوسطى، طبقة البورجوازية الوضيعه ؛ لذلك هم quot;علمانيونquot; طالما أنهم يمثلون جهة دنيوية سواء كانت البورجوازية الوضيعة كما حالهم اليوم أو كما كانوا وكلاءَ للإقطاعيين أو وكلاء بطاركة القبائل في الخلافات الإسلامية. إنهم لا يعترفون بهذه الحقيقة إذ أن من شأن إعترافهم أن يفضح زيف دعواهم ويكشف هوية موكليهم الحقيقيين غير المشرّفة.
لا يساعد هؤلاء الأفاقين الأفاكين في شرعنة دعواهم سوى أنصار ما يسمى بالعلمانية والمدافعين عنها. فبمجرد أن ينادوا بالعلمانية فذلك يقتضي آلياً أن يستحضر النقيض وهو الدولة الدينية المزعومة التي يحكمها الذين جعلوا انفسهم نواب الله لمصلحة ما لم يوجد ولا يوجد ولن يوجد. إن quot; نواب الله quot; هؤلاء هم نواب جهة أخرى، جهة دنيوية لا علاقة لها إطلاقاً بالله الذي يدّعونه. دولتهم بما في ذلك دولة الخلافة الراشدة دولة علمانية بل أكثر علمانية من العلمانية الموصوفة. لا يمكن لأحدهم أن يدعو لدولة علمانية قبل أن يعترف بنقيض الدولة العلمانية وهو الدولة الدينية، وإلاّ لما دعا.
على العلمانيين أن يتعظوا بدرس الراهب روجر بيكون (1214 ndash; 1294) الذي منع عليه راعي الرهبنة الفرنسيسكانية في أكسفورد الورق والحبر لأجل أن يدوّن أفكاره. في العام 1266 كتب الراهب روجر بيكون كتابه quot;العمل الكبيرquot; (Opus sMaju) بعد أن لبى بابا روما طلبه وأمر بتوفير الورق والحبر له. في quot; العمل الكبير quot; كتب الراهب روجر بيكون ينتقد الباباوية ويكشف المستور. فالباباوية كانت تجمع كل ريوع الأراضي الزراعية في أوروبا الغربية لكن توزيع تلك الريوع لم يكن يتم وفقاً لحاجة الناس وكما تقول شريعة السماء. لقاء أول نقد جريء وجّه للكنيسة الكاثوليكية وللبابا، وهو الحاكم المطلق لجميع ممالك أوروبا الغربية، حوكم الراهب روجر بيكون وصدر الحكم عليه بالسجن مدى الحياة. أدخل السجن في العام 1266 ولم يخرج منه قبل العام 1293، قبل أن يتوفى ببضعة أشهر فقط. كشف الراهب روجر بيكون عن خرافة الدولة الدينية ومثالها الأمثل في القرون الوسيطة كانت الدولة البابوية. ما يتوجب ذكره في هذا السياق هو أن أفكار بيكون لم تذهب في الفراغ فتشكلت في القرن التالي حركة الرهبان اللولارد (Lollard) في انجلترا وضمت عشرات الألوف من الرهبان الذين سخروا من كل الأفكار التي كانت تبشر بها الكنيسة الكاثوليكية التي كانت تستغلهم بصورة صارخة ولاإنسانية. مع بداية القرن الخامس عشر أخذت حركة اللولارد تهدد الوجود البابوي في انجلترا فقامت الكنيسة الكاثوليكية في العام 1401 بإحراق مئات الرهبان وهم أحياء، وفي العام 1414 أصدر البابا أمره إلى ملك بريطانيا، هنري الرابع، لأن يسحق بالقوة حركة اللولارد وتم ذلك بمنتهى الوحشية وقتل إذّاك ألوف الرهبان. رغم كل ذلك القمع الدموي فإن تأثير اللولارد لم ينته فظهر المصلح الديني جون ويكلف (John Wycliff) وانتهى الأمر إلى تحرر بريطانيا من كل سلطة للباباوية.
وهكذا يترتب على quot;العلمانيينquot; ألا يدعوا إلى ما يسمى اعتباطاً بالدولة العلمانية، من باب أفضليتها على الدولة الدينية، بل عليهم أن يكشفوا الستر الزائف للدولة الدينية المدّعاة والتي لم تظهر يوماً على الأرض ولن تظهر، وأن سائر الدول التي صنّفت نفسها كدول دينية إنما كانت دولاً علمانية بالمعنى المتعارف عليه، ولم يكن انتحالها للصفة الدينية إلا ذرّاً للرماد في العيون حيث أن كل السياسات المعتمدة في تلك الدول إنما هي سياسات دنيوية ولا علاقة لها بالله من قريب أو بعيد، وليس أدل على ذلك من أن جميع الدول الموصوفة زوراً بالدينية كانت هي الأشد قمعاً والأكثر فتكاً بشعوبها فالخليفة أبو بكر مثلاً قتل عشرات الألوف من قبائل شرق الجزيرة فيما يسمى بحروب الردة، ويزيد بن معاوية صفّى الهاشميين رجالاً ونساءً وأطفالاً بمن فيهم آل البيت، وعبدالله السفاح، أول الخلفاء العباسيين، أباد بني أمية قاطبة ـ هذا فيما خصّ أبناء عمومتهم في قريش، فما بالك بالقبائل والشعوب الأخرى!؟. أما الحروب الباباوية ومنها الحروب الصليبية فلم تكن أقل بطشاً من الغزوات الإسلامية.
علوم الماركسية تؤكد أن الدولة بمختلف أشكالها وفي مختلف العصور إنما هي هيئة تتوظف فقط عن طريق أدوات القمع في حماية وسائل الإنتاج السائدة وعلاقات الإنتاج المرافقة، ولذلك هي دولة طبقية تحرس مصالح الطبقة السائدة في المجتمع. مختلف أصناف الدول تنكر هويتها وتطلق شعارات لا تهدف إلا لتضليل شعوبها باستثناء دولة دكتاتورية البروليتاريا التي لا تنكر هويتها ولا تخفي أهدافها ولذلك هي الأكثر ديموقراطية. الدولة هي الدولة، لا علمانية ولا إكليركية دينية، في جيع الأحوال وفي كل العصور.
التعليقات