طلب إلي أحدهم أن أكتب عما يجري في إيران؛ وحيث أنني أعزف عن الكتابة في السياسة بصورة عامة، وهي أدب الصراع الطبقي، والسياسة المحلية والآنية بصورة خاصة، فأعتقد أنني لن ألبي فضول السيد ورغبته في أن يعرف الرأي الذي يتوقعه مني فيما يخص الصراع بين من يسمون بالمحافظين وخصومهم الإصلاحيين وما سيخلص إليه مثل هذا الصراع بانتصار أحد الطرفين وما يمكن أن يأتي به المنتصر للشعوب الإيرانية. لا، لن أغوص في مستنقع السياسات المحلية الآنية كما يفعل المعلقون السياسيون المأجورون في التلفزة. لكن هذا لا ينفي حقيقة لا لبس فيها وهي أن ما يجري في إيران إنما هو أخيراً ظاهرة سياسية ذات علاقة وثيقة quot; بالنظام quot; العالمي القائم اليوم، الأمر الذي يرتّب عليّ أن أكشف عن طبيعة مثل هذه العلاقة، علاقة الجزء بالكل طالما أن لهما ذات الخصوصية وذات الدينامية. وعليه فإن أحداً لن يدرك ما يجري في إيران وإلى أي بحر أو سبخة سينتهي هذا المجرى ما لم يتعرّف قبلئذٍ على طبيعة quot; النظام quot; الدولي القائم، وعلى القوى الفاعلة فيه وعلاقاتها بالقوى الأخرى.
ما هو مسلّم به بصورة عامة هو أن quot; النظام quot; الدولي الماثل اليوم بُني أساساً على واقعة انهيار المشروع اللينيني في المعسكر الإشتراكي. وما هو غير مسلّم به بصورة عامة أيضاً هو أن مشروع لينين بدأ بالانهيار منذ وصول خروشتشوف إلى قمة السلطة في الإتحاد السوفياتي في العام 1954 وليس في العام 91 كما يعتقد العامة حين تكامل الانهيار ؛ فدولة عظمى بحجم الاتحاد السوفياتي وعشرون قمراً تدور في فلكها لا يمكن أن تنهار كلياً بين ليلة وضحاها مهما كانت الأسباب. وليس أدل على ذلك من إعلان خروشتشوف رسمياً في المؤتمر الثاني والعشرين للحزب الشيوعي السوفياتي في العام 61، أي قبل ثلاثين عاماً من الإنهيار، إعلانه الاستغناء التام عن دولة دكتاتورية البروليتاريا واستبدالها بدولة هجين اسمها quot; دولة الشعب كله quot; التي تعني علمياً، تبعاً لماركس ولينين، أنها دولة اللاإشتراكية أو الرجوع عن الإشتراكية ؛ ودلالة أخرى وهي سلسلة الانقلابات العسكرية الرجعية في الستينيات في العديد من الدول المصطفة وراء الاتحاد السوفياتي مثل أندونيسيا والعراق وسوريا والجزائر وغانا ومالي والكونغو والسودان والبرازيل وصولاً إلى الهزيمة التي لحقت بالمشروع الناصري جراء العدوان الإسرائيلي الأميركي في حزيران 67 والتي أعتبرت هزيمة مهينة وفاضحة للإتحاد السوفياتي. عندما قتل شخص واحد واعتلى بوريس يلتسن إحدى الدبابات ليخطب خطاباً كاذباً ويعلن انتصاره على quot; الشيوعيين quot;، غورباتشوف وشفرنادزه، في العام 91 لم يكن الاتحاد السوفياتي، الدولة الأعظم خلال العقود الأربعة الأولى من عمره، أكثر من خط على الخارطة.
ما كانت حركة التحرر الوطني العالمية لتنطلق بقوة في العام 1946 لو لم يخرج الاتحاد السوفياتي من الحرب العالمية الكبرى عام 1945 كاقوى قوة في الأرض. كافة الدول المستعمرة والتابعة نهضت تطالب بالاستقلال التام وتفك الروابط مع مراكز الامبريالية معتمدة على جبروت الدولة السوفياتية في النصف الشرقي من الكرة الأرضية بشكل خاص. الشرط الأولي من شروط الاستقلال هو ربط إقتصاد الدولة المستقلة بسوق عالمية أخرى غير السوق الرأسمالية الإمبريالية، وكانت في تلك الحالة quot; السوق quot; الاشتراكية. النتيجة الحتمية لفقدان مراكز النظام الرأسمالي محيطاتها في الدول التابعة لها حيث كانت تطرح فضلاتها وهي تحديداً فائض الإنتاج المجسّد لمعظم فائض القيمة، النتيجة الحتمية والمباشرة لذلك كانت انهيار النظام الرأسمالي في العالم كله وقد تبدّى ذلك في الأزمة القاتلة التي أمسكت بخناق النظام الرأسمالي 1971 1975، وانتهت إلى فصل نقود مراكز الرأسمالية الغنية وخاصة الولايات المتحدة الأميركية (الدولار)، فصلها عن قيمتها البضاعية، أي قيمتها في السوق الحرة، وهو ما قررته الدول الخمس الرأسمالية الغنية (G5) في مؤتمر رامبوييه/باريس 1975 وشكل الضربة القاصمة لنظام الإننتاج الرأسمالي. ويذكر في هذا السياق ارتفاع الفوائد المصرفية على ودائع الدولار الأميركي فيما بين 1975 و 1982 وقد بلغت 22% وهو ما يعني مباشرة انهيار نظام الانتاج الرأسمالي حيث لا يمكن لأي مؤسسة رأسمالية أن تحقق أرباحاً تقترب من نسبة 22% من توظيفاتها فما بالك أن تزيد عنها !
الطامة الكبرى عند هذا المفصل التاريخي الهام جداً هو ما إن اكتمل عقد الدول المستقلة حديثاً، وآخرها فيتنام عام 1974، حتى بدا الخَوَر بادياً للعيان على الدولة السوفياتية وقصرت إذّاك عن أن تكون شريكا حيوياً للدول المستقلة حديثاً والتي توجّب عليها آنذاك أن تدعّم استقلالها ببناء إقتصاد وطني يستجيب لطموحات شعوبها. القيادة السوفياتية منذ خروشتشوف وما بعده لم تعد قادرة على أن تقوم بدور الشريك الحيوي للدول المستقلة حديثاً، ناهيك عن أنها لم تعد راغبة في القيام بهذا الدور الحيوي والتقدمي على مستوى العالم وهي التي ارتدت على مشروع لينين الإشتراكي الثوري، فكان أن طالب خروشتشوف في المؤتمر العام الاستثنائي للحزب الشيوعي عام 59 بالاحتفاظ بخط فاصل بين المعسكر الاشتراكي من جهة وبين الدول المستقلة حديثاً من جهة أخرى، معارضاً بذلك المبدأ اللينيني القائل بالوحدة العضوية بين الثورة الاشتراكية وثورة التحرر الوطني.
مع انهيار الثورة الاشتراكية والدولة السوفياتية، وهي المفترض فيها أن تكون الشريك الحيوي الوحيد للدول المستقلة حديثاً، لم يكن من الممكن أبداً أن تقوم هذه الدول الفقيرة على ذاتها، فالفقير لا يعاون الفقير، مما رتّب انسداد الطريق أمام قوى التحرر الوطني بقيادة البورجوازية الكبيرة التي كانت تطمح إلى بناء اقتصاد وطني يراعي مصالحها الطبقية. في مثل هذا المأزق المغلق تحللت الطبقة البورجوازية الكبيرة ذات المصالح الحقيقية والإمكانيات المناسبة لتتهيأ الفرصة للبورجوازية الوضيعة المفلسة أبداً لأن تنقض على السلطة عن طريق تشكيل عصابات من زمر المغامرين التي لا هدف لها سوى تحويل المجهود الوطني إلى امتيازات لها ولأزلامها. وهكذا فإن انهيار الثورة الإشتراكية انعكس مباشرة في ظهور عصابات حاكمة في العديد من البلدان المستقلة (Closed Circle) لا تنتمي لأي طبقة من طبقات المجتمع وليس لها من وظيفة وطنية أو اجتماعية سوى قمع الحريات بمختلف أشكالها لتأمين سلطتها وتوزيع الثروة على أزلامها من المخابرات و العسكريين من قادة الأمن. هكذا ظهر بومدين في الجزائر في الستينيات وحافظ الأسد في سوريا وصدام حسين في العراق في السبعينيات. يزعم البعض أن البورجوازية الكبيرة لم تشأ أن تفك الروابط نهائياً مع النظام الرأسمالي العالمي، لكن هذا ليس صحيحاً بصورة عامة فالبورجوازية الكبيرة هي نفسها التي حرّضت على الثورة، وهي نفسها التي قادت الثورة حتى الاستقلال السياسي الذي لم تستطع تدعيمه بالاستقلال الإقتصادي نظراً لانهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الاشتراكية. كثيراً ما يجري الحديث عن أخطاء اقترفتها الفصائل الوطنية من مختلف الأطياف في مجرى الثورة الوطنية وتسببت في فشلها غير أن ما هو مؤكد هو أن أياً من ثورات التحرر الوطني ما كانت لتفشل وما كان لرؤساء العصابات المتسلطة من مثل بومدين والأسد وصدام أي فرصة في اعتلاء سدة السلطة لو أن الثورة الاشتراكية في مركزها موسكو واصلت مسيرتها الناجحة واستمرت الأساس الراسخ والشريك الحيوي لثورة التحرر الوطني العالمية.
مع مطالع خمسينيات القرن الماضي قامت البورجوازية الكبيرة الإيرانية بقيادة الدكتور محمد مصدق بثورة تحرر وطني واستطاعت بقواها الذاتية أن تستولي على السلطة وتطرد الشاه. وسرعان ما اتخذت حكومة مصدق ووزير خارجيته الدكتور حسين فاطمي قراراً بتأميم شركات النفط الأميركية والبريطانية الأمر الذي أثار حفيظة إدارة ايزنهاور وكان يقودها الأخوان النازيان جون فوستر دالاس وزير الخارجية وشقيقه ألن دالاس مدير المخابرات المركزية. أعد ألن دالاس فريقاً من رجاله بقيادة رجل المخابرات المشهور كيرمت روزفلت (Kermit Roosevelt) ودخلوا إيران محملين بأكياس مليئة بالدولارات واستطاعوا أن يدبروا انقلاباً دموياً بالتعاون مع أحد جنرالات الجيش، فضل الله زاهدي، بعد أن رشوه بمبلغ خمسين ألف دولارا. استعاد الشاه عرشه ولحق بالبورجوازية الوطنية هزيمة كبرى. في السبعينيات وبعد أن تغيرت موازين القوى الدولية بفعل الهزائم المتلاحقة لقوى الامبريالية أخذ الشاه يقوم بدور البورجوازية الوطنية ويتجه إلى إقامة المشاريع الصناعية والإنتاجية ويتعاون مع الاتحاد السوفياتي بالحدود الضرورية. في نهاية السبعينيات نهضت البورجوازية مرة أخرى بعد أن تنامت على هوامش اصلاحات الشاه وطردت الشاه وأعلنت الجمهورية الإسلامية.
لماذا الإسلامية !؟
في السبعينيات كان لهيب الثورة الاشتراكية قد خبا تماماً وبدت علائم الانهيار واضحة على البنيان السوفياتي وهو ما سد الطريق سداً محكماً أمام الدول المستقلة حديثاً وحال دون استكمال استقلالها ببناء إقتصاد وطني يفي باحتياجات الشعب. وما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق وذي دلالة على اختلال موازين القوى هو الإنتقال الدراماتيكي لأنور السادات من تحت المظلة السوفياتية إلى تحت المظلة الأمريكية. لم تعد الدولة السوفياتية قادرة، وراغبة بنفس الوقت، على مساعدة الدول المستقلة الأمر الذي سد الطريق أمام البورجوازية الكبيرة نحو تحقيق مشروعها الكبير في بناء اقتصاد تشغيلي يراعي مصالحها. إفلاس مشروع لينين في الثورة الإشتراكية العالمية في السبعينيات انعكس مباشرة في تفكيك وتفتيت طبقة البورجوازية الكبيرة في جميع بلدان العالم الثالث. بانحلال طبقة البورجوازية الكبيرة التي كان لها قصب السبق في قيادة ثورة التحرر الوطني وما رافق ذلك من تراجع كبير للعمل الشيوعي نشأ فراغ كبير أتاح الفرصة للبورجوازية الوضيعة بكل لدانتها وجموع حشكها في أن تملأه. من هنا أُعلنت الجمهورية الإيرانية جمهورية إسلامية. في البلدان المتقدمة أقامت البورجوازية الوضيعة المفلسة مشروعها الإجتماعي الزائف تحت عنوان quot; المعرفة quot; و quot; المعلوماتية quot;، وهو ما لا تستطيع إدعاءه نظيرتها في البلدان المتخلفة مثل إيران فاستعاضت عن المعرفة والمعلوماتية بالأسلمة والطريق إلى الجنة.
مابين 1946 و 1972 استقلت جميع الدول المستعمرة والتابعة غير أن البورجوازية الكبيرة ذات المصالح الحقيقية سرعان ما وصلت إلى الطريق المسدود، بفعل انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الاشتراكية، وتحللت وأخلت المكان للبورجوازية الوضيعة. في إيران لم تُفك الروابط نهائياً مع مراكز الرأسمالية سوى في العام 1979 بعد أن وصل الإتحاد السوفياتي حد الإفلاس التام وبذلك غابت الفرصة تماماً لأية قوى لاستلام السلطة غير البورجوازية الوضيعة حالها حال كل دول العالم الثالث. ضعة البورجوازية الوضيعة تتأتّى من أنها مفلسة تماماً ولا تمتلك أي مشروع تنموي أو إنتاجي مهما كانت طبيعته بسبب وسيلة إنتاجها الفردية والخدمية. نظراً للإفلاس التام لدى البورجوازية الوضيعة الإيرانية فإنها لم تجد ما تقترحه على الشعب الإيراني سوى الأسلمة وتمهيد طريق الهداية إلى الحياة الأخرى غير الحياة الدنيا. لذلك تقدم الملالي صفوف طبقتهم البورجوازية الوضيعة المفلسة واستولوا على السلطة وأكدوا للشعوب الإيرانية بأنهم سيوردونها الجنة مهما اعترض طريقها الشيطان الأكبر. ولما لم تطعم الملالي شريعتهم الإسلامية خبزاً مدّوا أيديهم لتتشابك مع أيدي أغنياء تجار البازار وليكونوا الوكلاء الأمناء لهم رغم كونهم حيثما حلوا لصوص المجتمع. نعم، ملالي إيران ليسوا هم بالطبع وكلاء الله، كما يدعون، بل وكلاء اللصوص في المجتمع الإيراني.
ما يجري في إيران هو بكل بساطة إنقسام الملالي لفريقين فريق يرى أن السياسات النافذة في إيران من شأنها أن تطيح بحكم الملالي وبولاية الفقيه وكل مشروع الأسلمة بالتالي، وهذا هو الفريق الموصوف بالإصلاحيين، وفريق آخر يعارضهم ويؤكد أن سياسات الإصلاحيين إذا ما طبقت فمن شأنها أن تسمح للعناصر غير الإسلامية أن تتسرب إلى صفوف الإدارة وتحكم سيطرتها بالتالي على السلطة منهية بذلك حكم الملالي ومشروع الأسلمة، وهذا هو الفريق الموصوف بالمحافظين. يتنازع الفريقان حول كيف يمكن إدامة حكم الملالي، وولاية الفقيه وإنجاح مشروع الأسلمة، لكن أحداً منهم لا يفطن إلى أن الشعوب الإيرانية بمختلف قومياتها ومعتقداتها بحاجة ماسة ومستعجلة لتمهيد الطريق نحو الحياة الدنيا قبل الحياة الأخرى. جموع الفقراء والمستضعفين تفضل من يأتي إليها بالخبز حتى لو لبس ألف ربطة عنق من مختلف الألوان ولبس القبعة بدل العمامة.
سواء انتصر المحافظون أم الإصلاحيون فلن يأتوا لشعوب إيران الجائعة بالخبز. تلك هي الحقيقة التي يجب أن يعيها كافة المعنيين والمتابعين لما يجري في إيران. بل إن الحقيقة العامة الكبرى هي أن أي طيف من أطياف البورجوازية الوضيعة كثيرة الأطياف لا يمتلك أي مشروع تنموي حقيقي وسيكون لذلك من الصعب أن تتقدم أي شريحة بورجوازية أخرى وتغتصب السلطة من الملالي ؛ ولذلك أيضاً فإن عمر سلطة الملالي سيطول حتى وإن افتضحت مزاعم الملالي في تعبيد الطريق إلى الجنة وبانت أكاذيبهم إبانة كبرى. ثمة عطل تاريخي قائم في العالم بعد انهيار النظامين الرأسمالي والاشتراكي خلال الربع الأخير من القرن المنصرم ؛ العطل التاريخي لا يخص إيران فقط بل يشمل العال كله دون استثناء. كل خطوة سيخطوها العالم بقيادة الطبقة الوسطى والبورجوازية الوضيعة، ومنها الملالي وعامة الإكليروس، ستكون رجوعاً إلى الخلف وليس تقدماً إلى الأمام.
التعليقات