أفهم أن النظام الجمهوري الذي عززته الثورة الفرنسية، يعني التحرر من قيد سلطة الحكم الفرد، الذي تفرَّد بالحكم باعتباره مخولا من الرب في تدبير شؤون الحكم، ورعاية مصالح الناس بالصورة التي يراها هوَ، بتلك النظرة حكم معظم الحكام الفرديين في العالم شرقا وغربا، وبذلك الفهم توسد الاستبداد الذهني والسياسي والاجتماعي على أروقة كل المجتمعات المغلوبة على أمرها، حتى جاءت الثورة الفرنسية لتغير من ذلك السياق، ولتقرر أصالة نظام العقد الاجتماعي، الذي طالما نادى به المفكرون الغربيون ابتداء من جون لوك، مرورا بمنتسكيو، وصولا إلى جان جاك روسو وزملائه، ذلك العقد الذي أزاح صفة القداسة الربانية عن الحاكم، ونظم العلاقة بينه وبين المحكومين، لتصبح علاقة بشرية إنسانية محكومة برغبة رعيته وإرادتهم، وليس برغبة ممثلي الرب على الأرض وإرادتهم.

جاء النظام الجمهوري ليعزز تحويل كامل السلطات من قبضة الإله الحاكم الفرد، إلى حيز أروقة المجتمعات البشرية دون تمييز، التي تشكلت وفقا لذلك، في إطار مؤسساتي، ليصبح الحاكم بشريا في صورته الجماعية، مؤمنا بفكرة تداول السلطة، باعتبارها عقدا اجتماعيا إنسانيا، وليست رباطا كاثوليكيا مقدسا، وحينها تحققت ملامح ما نادت به الثورة الفرنسية من حرية وعدالة ومساواة، وانساق المجتمع الأوربي بعد ذلك في إكمال مسيرته وفقا لتلك الأسس، حتى أصبح بما عليه الآن من تطور ديمقراطي، ووعي سياسي، ونضج فكري، بمختلف القواعد السياسية والاجتماعية المنظمة لطبيعة العلاقة بين مؤسسات السلطة والمجتمع.

أفهم كل ذلك التطور الحادث في أوربا على وجه الخصوص، غير أن ما استصعب عليَّ فهمه وإدراكه، كامن في طبيعة الشكل الجمهوري للأنظمة العربية بوجه عام، التي تبنت في خطاباتها السياسية العامة مضمون وجوهر أفكار الجمهورية الفرنسية، وهذا لا إشكال فيه، لكن الإشكال جاء بعد ذلك، حيث أن جُلَّ جمهورياتنا المبجلة قد استبدلت سلطة فردية، بسلطة أخرى فردية، وشكلا مقدسا أحاديا، بآخر أكثر قداسة اجتماعيا، وقامت بشرعنة مفهوم التداول السلمي للسلطة وفق ما يحلوا لها، فالتداول الذاتي للسلطة قائم وفق الشروط التي يحددها النظام والدستور، وأصبحنا نعيش تداولا ذاتيا للسلطة في مختلف جمهورياتنا منذ عقود طويلة ؛ وكل ذلك ضمن نطاق ما تقرره قواعد العقد الاجتماعي، الذي تقوم عليه فكرة النظام الجمهوري، ووفق ما تتبناه من شعار التداول السلمي للسلطة، بل لا يكتفي الأمر عند ذلك، حيث أن الجميع قد أصبح مسكونا بفكرة توريث السلطة إلى أبنائهم، ووفقا لما يتطلبه الدستور والقانون من شروط كذلك، فمن المهم من وجهة نظرهم، ألا يخرج الترشيح عن إطار الدستور والقانون، حفاظا على قدسية وعدالة وحرية ومساواة النظام الجمهوري.

سألت نفسي وأنا أراقب تطور الحالتين العربية والأوربية، أين هو الإشكال ؟ هل يكمن في سدة السلطة ؟ أم في ذهنية المجتمعات والشعوب ؟ ألسنا قد تبنينا منذ الثورة المصرية المجيدة سنة 1952م فكرة القضاء على قيد سلطة الحكم الفرد ؟ فكيف رجعنا من جديد إلى قيد أشد، وحكم أعتا، وجبروت أقسا، وفردية أظل، في مختلف جمهورياتنا العربية المبجلة ؟ وكل ذلك باسم الدستور والقانون ! والأدهى والأمر حين تتحول تلك الشخصيات الجمهورية البشرية بحسب ما تقرره فكرة النظام الجمهوري، إلى شخصيات مقدسة، نورانية، ملهمة، تختزل في ذاتها الرمز الوطني الكبير، لتصبح بقدرة قادر شخوصا فرعونية، تمشي على الأرض، لا ترينا إلا ما ترى، وتهدينا إلى سبيل الرشاد، ليس على الناس إلا أن تتمسح بها، وتسير بأمرها، وترى برأيها، وتفكر وفق ما يحلو لها.

لقد كان من أكبر أخطائنا الذهنية (كباحثين ومفكرين وشعوب) أننا تصورنا بأن مجرد تغيير الشعار، وإعلان تأسيس نظام جمهوري، سيكون كفيلا بتغيير سمات نظام الحكم، هكذا بجرة قلم، وكأنه خاتم سليمان، فكنا كالذي أغلق بابا وفتح آخر، ظنا منه أنه قد قام بتغيير هيكلي لمكانه، وما درى أن الإشكال ليس في الباب بقدر ما هو في طبيعة وشكل محتوى المكان من أساسه.

لقد استبدل النظام الجمهوري العربي حاكما بآخر، وسلطة بسلطة، وزعيما ملهما بآخر، وبقيت الذهنية الجبرية التي شكلت خارطة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، التي تكرست منذ نهاية حقبة الخلفاء الراشدين، هي المسيطرة على وعي الناس وأفهامهم، وهو ما يتوجب البدء بتوضيحه، وتحطيم تلك الأغلال بداية، وتحرير النفس من قيودها، والعودة بها فعليا إلى النموذج العدلي الجمهوري الحقيقي، الذي كان سائدا في عهد الخلفاء الراشدين بوجه عام، حتى نتمكن من مناهضة النموذج الفرعوني السياسي، الهادف إلى تسخير خلق الله لخدمته وتلبية احتياجاته. مستعيدين بوعي كامل، وروح حية، ذلك البيان السياسي الأول للدولة الإسلامية، الذي اختزل كل ملامح ما نريده من حرية وعدالة ومساواة، حين قال أبو بكر رضي الله عنه، لحظة مبايعته بالخلافة : أما بعد، أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوى فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكمquot;.

د. زيد بن علي الفضيل

كاتب وباحث