يقول التاريخ الثابت والمتفق عليه إن الإمام علي لم يكن شيعيا، ولا الإمام الحسين ولا ولده الإمام علي زين العابدين. كما أن الخليفة عمر بن الخطاب لم يكن سنيا، ولا عثمان ولا معاوية. ومن يعرف أصل التشيع في التاريخ الإسلامي يتذكر هذه الحكاية.

تصادف وجود الإمام علي كان في مجلس الخليفة عمر بن الخطاب، وكانا صديقين ونسيبين حميمين، ساعة وصول سبايا حرب الفتح الإسلامي لبلاد فارس، ومنهن ثلاث من بنات كسرى يزدجر، آخر ملوك فارس. وعندما أمر الخليفة بتوزيع السبايا على قادة الجيش الفاتح أبدى الإمام علي عطفه على بنات كسرى، واعترض على شمولهن بالسبي، وطلب من الخليفة الرحمة بهن احتراما لكونهن بنات ملك. فأمر الخليفة بفرزهن من السبايا، وكلف الإمام علي بالتصرف بهن، فزوج إحداهن لابنه الإمام الحسين، فولدت له الإمام عليا زين العابدين.

ورغم أن الإسلام دخل بلاد فارس وجعل ملايين الفرس مسلمين إلا أنه لم يتمكن من نزع الحس القومي العنصري الفارسي من كثيرين منهم، بل كان يقوى، أحيانا كثيرة، على الدين، ويحرك النفوس الفارسية في معاداة العرب الفاتحين، واغتنام الفرص للثأر منهم، إرضاء لكبرياء القومية الفارسية المهضومة بالنبي العربي وبدينه الجديد.

ويشهد التاريخ بأن الفرس أحبوا الإمام علي لعطفه على بنات كسرى، وكان هذا الحب هو الدافع الأول والقوي لوقوف بلاد فارس، بكاملها، مع حق الإمام في الخلافة التي اغتصبت منه عنوة. ومن هنا بدأ التشيع للإمام ولولديه ولحفيده زين العابدين، الأمير الفارسي من جهة الأم.

كما سجل التاريخ المديد أن العرب، والعراقيين منهم على وجه التخصيص، ظلوا يدفعون ثمن باهضا ودما زكيا غزيرا كان وما زال يسيل ثمنا لجوارهم مع إيران حين يحكمها أناس لم يتمكن الدين الإسلامي من تخفيف الحقد القومي الفارسي في قلوبهم.

والمحزن أن جماهير عربية عريقة في عروبتها، في العراق وبعض دول الخليج العربية ولبنان، تجهل أو تتجاهل أنها تستخدم أحيانا وقودا لحرب غير عادلة وغير مشروعة وغير لازمة تخوضها القوميون الفرس ضد العرب، جيرانهم وإخوتهم في الدين. وهم، وحتى مجيء الإسلام، شركاؤهم في هذا الإقليم الهام والحيوي الذي لا يمكن طردهم منه أو الفصل بين المصالح المتشابكة بين سكانه. كما لا يمكن لأحدهما أن يتنازل للآخر عن وجوده ومصيره وسيادته وكرامته وحقوقه الثابتة في الإقليم، أرضا ومياها وثروات.

وليس مفهوما ولا معقولا ولا مبررا هذا الصراع الدامي بين الطرفين من أجل الهيمنة المستحيلة التي كلفت وتكلف كليهما أثمانا باهضة دون جدوى. إذ لم يقل لنا التاريخ إن أحد الجارين ألغى أحدهما أو أذابه أو عرَّبه أو فرَّسه. وفي كل مرة كانت إيران تفرض سطوتها على جزء من الأرض العربية كان القدر يقلب عليها المجن ويمكن الطرف المغلوب من رقبة سجانه، فيبطش به وينتقم ويسفك الكثير من دماء أبنائه ونسائه. وكأن الله يريد أن يقول لهؤلاء وأؤلئك إن الدم لا يمحوه غير الدم، والحرب لا تلد غير الحروب.

والعقلاء والحكاء والمثقفون وحدهم، من الأمتين العربية والفارسية، كانوا أول من يدرك هذه الحقيقة أكثر من غيرهم، وقبل حكامهم، فيجاهرون بها ويدعون إلى التفاهم والتعاون والتعايش بين الأمتين، رغبة في حقن دماء مواطنيهم وحماية أوطانهم من الخارب، قبل دماء جيرانهم وبلادهم، ودعون إلى وقف هذا الاحتراب الأحمق المحكوم بالفشل الأكيد في النهاية.

والغريب والعصي على الفهم أن جماهير العراق العربية الشيعية التي خبرت عواقب التطرف القومي والطائفي في زمن الديكتاتور، على امتداد ثلاث وخمسين سنة، ما زالت تنخدع بنفس السلوك والفكر العنصري الأحمق الذي يعمي قادة أحزابهم، ويسهل على حكام إيران اليوم بسط هيمنتهم العنصرية والطائفية على العراقيين العرب، شيعة وسنة. والأكثر ألما أن هذا السلوك أغرى السنة العرب العراقيين بالاستقواء بالخارج السني، وبرر لهم أن يفتحوا قلوبهم وجيوبهم لهذا أو ذاك من الأخوة الأشاوس، ليصبح العراق ساحة اقتتال طائفي أحمق وغبي وعقيم.

ومن العجيب، والشيعة العراقيون أكثر من غيرهم فطنة وأغناهم بالمثقفين والعلماء والمبدعين، ما زالوا يتوهمون أن جهود إيران لبسط نفوذها في العراق دوافعها الوحيدة دينية حقيقية، ولخدمة الطائفة الشيعية العربية بصدق ونزاهة، وخالية من الأهداف السياسية القومية العنصرية المغلقة.

وأمامهم ما يمر به المواطن الإيراني في ظل الحكم الحالي من تجهيل وإفقار واستغلال وقمع وإرهاب. ووأمامهم أيضا ما حاول الملالي أن ينشروه في جنوب العراق من رجعية وتخلف واستغلال ومتاجرة بكل المحرمات من أجل الكسب والابتزاز لتمويل الإرهاب والمليشيات والأحزاب الدينية الظلامية التي ثبت فشلها وقصر نظرها وتشبثها بالمصالح الحزبية والشخصية على حساب الطائفة العربيية الشيعية العراقية ذاتها.

وما يروج له أنصار إيران والمدافعون عن تدخل مخابراتها في العراق ولبنان وفلسطين والخليج العربي من مزاعم الرغبة في إعادة العزة والكرامة إلى الشيعي العربي الذي عاش مضطهدا من قبل سنة العرب على امتداد الأزمنة الماضية كلام حق يراد به الباطل. فلم يكن العربي المسلم يعرف أساسا من من جيرانه السني ومن منهم الشيعي لولا النفخ الدعائي السياسي الإيراني وخبث الأحزاب والتنظيمات العربية الممولة من إيران. نعم، لقد لحق بعض الشيعة العرب بعض الغبن أو القسوة من أجهزة الأمن السلطوية، في بعض البلدان العربية، لكن دوافعه احترازية خوفا من إقدام إيران على توظيف المغرر به منهم، أو المسيسين من قادتهم ليكونوا طابورا خامسا لها هدفه زعزة أمن تلك الأنظمة. وعلى العموم فالعربي الآخر، سنيا كان أو مسيحيا، يتعرض كل يوم وكل ساعة لعسف الأنظمة ومخابراتها وأجهزة أمنها على امتداد الوطن العربي والإسلامي. تماما كما يحدث للعرب المغتربين في أمريكا وبعض دول أوربا في أعقاب كل عمل إرهلبي يكون مصدره إخوة لنا مجاهدون أشاوس.

إن كل ما نحلم به اليوم، ونحن على أبواب انتخابات جديدة في العراق أن يقلب عرب العراق الشيعة، قبل عربه السنة، طاولة الاقتراع، فيمنعون أصواتهم عن جميع الأحزاب الظلامية المملوكة للمخابرات الإيرانية، ويطردوا زعماءها الذين ثبت أنهم بلا ضمائر ولا قيم ولا وطنية، باعوا الوطن والمواطن، وعبثوا ما شاء لهم العبث بحياة العراقيين. وأول من سقوه المر وأذاقوه العذاب وخدعوه وكذبوا عليه هو مواطنهم العربي الشيعي البريء أكثر من سواه، والشواهد لا تعد ولا تحصى.

إن ولادة الوطن العادل العاقل لن تتم إلا حين تتحرك الجماهير العربية الشيعية قبل السنية، فتنتقي لنا حكاما جددا بنفوس نقية ونزيهة ومتحضرة تؤمن بأننا في القرن الحادي والعشرين، ولابد أن نقيم وطن القرن الحادي والعشرين، لا وطن القرون السود الماضية. وتقف بشجاعة ومروءة ورجولة لتطرد من الوطن جحافل الجواسيس والعملاء والسماسرة واللصوص، فالوطن ليس لإيران ولا لأية جارة أخرى، عربية أو مسلمة، عدوة أو صديقة، بل هو لأهله العراقيين، الذين يؤمنون بأنهم عراقيون أولا، وقبل أي شيء آخر. فهل هذا على شعبنا كثير؟