تتناول بعض الأقلام من حين لآخر قضية ما تسميه مأزق الثقافة العربية او ركودها، وذلك بسبب ما ابدته من تقاعس ملحوظ عندما عجزت مؤخراً عن التعامل مع المستجدات التى طرأت عليها!!

هذه الحالة في رأي ليست طارئة ولكنها مزمنة نتيجة تراكمات امتدت لعقود طويلة بسبب تركيبة ثقافتنا التى لا زالت منذ طرح العميد طه حُسين ( 1889 ndash; 1973 ) كتابه الرائع quot; مستقبل الثقافة في مصر quot; عام 1938، بعيدة بمسافات شاسعة عن:

1 ndash; المدار الإنساني الرحب، الذي تتأثر به وتؤثر فيه

2 ndash; العقلانية التى تستضئ بنور العقل، وترفض الجمود والتعصب

3 ndash; حرية الاختلاف التى تعترف بالآخر، وتراه ندا مشارك في صنع الثقافة الكونية

4 ndash; الاحتكام إلي عدالة المنطق، الذي يسع الجميع بلا تمييز او اقصاء او ازدراء

الثقافة..

خاصية يتميز بها الجنس البشري وبفضلها تفوق علي غيره من مخلوقات الله لأنها تقوم علي مجموعة متداخلة من المعتقدات والعادات والمعلومات والصفات المكتسبة، التى تتجدد مع الأيام بفضل ممارسة أبناء المجتمع لدورهم حراكه علي كافة المستويات، لذلك نقول ان الثقافة في مجالها التطبيقي هي ممارسة الواقع المُعَاش من خلال التفكير في المستقبل الذي يُمكن المجتمع من تطوير مهارات ومجالات الابداع والتنوير.

وهناك فرق شاسع بين ثقافة السلطة وسلطة الثقافة.. الأولي ليست مفروضة من أعلي، ولكنها ممهورة بتوقيع الأدوار التى تقوم بها داخل البنية الاجتماعية سواء كانت ايجابية أو سلبية، quot; هي السلطة الناعمة quot; القادرة علي طرح الحجة والبرهان quot; بالتي هي أحسن quot; مما يجعل تأثيرها فعالاً دون كثير مقاومة، وإذا ما لجأت هذه السلطة في اي مرحلة إلي سياسة الإجبار التى يصحبها القهر والتسلط إنقلبت إلي quot; ثقافة السلطة quot; التى تَنزع إلي الإستبداد والإقصاء والتخوين والإستقطاب..

من هنا جاء التوافق علي مستوى العالم بدرجة أو بأخري، أن ثقافة أي مجتمع هي خلاصة نتاج مؤسسات التنشئة القائمة فيه والتى تقدم لأبناءه أنساق المعرفة والأفكار والتصورات والمعتقدات والقيم والمبادئ.. إلخ.. التى تؤسس البنية التحتية لمكونات تفكيرهم ومن ثم نظرتهم للأمور وكيفية تعاملهم مع ما يطرأ عليهم من تحولات مجتمعية وما يتعرضون له من تحولات داخلية و ضغوط خارجية..

تعاني quot; ثقافة quot; المجتمعات العربية من إنكار لحق الإختلاف وتقليص لحق التعبير والإتكال علي الماضي، وتنفض يديها من عبأ التغيير وتستسلم للسائد والمتوارث..

لذلك تُكبل نفسها بمستويات رقابية عدة تفرضها علي مبدعيها ونخبها ومفكريها، فتكون النتيجة مصادرة مستميتة للرأي المخالف وتجريم مقنن للابتكار وتحريم متعاقب للفنون.. مما يساعد علي تنامي ضيق الافق المعرفي وانكار كل ما هو جديد وفق اكلاشيهات جاهزة لخنق اي ضوء وسحق كل أمل..

المدار المغلق للحركة الفكرية كما يقول الدكتور جابر عصفور فرض علي المجتمعات العربية الركون إلي الشواطئ الآمنة التى تتسم بالتقليد، وترفض التجديد.. وتعاقب من يفكر في إستنباط سبل لإستمكال المسيرة من حيث أنتهي السابقون.. وتجرم الإختلاف وتُعلي من شأن الإتفاق والإجماع، وتُغري بالطاعة وتُزين الإلتزام وتكفأ عليه؟؟..

هذه الثقافة التي لا تدرك حقيقة ما يتنافس العالم من حولها علي انتاجه سلميا لخدمة البشرية وما يعزز قيمة الانسان كأعظم المخلوقات، ساهمت ولا زالت تساهم في حرمان مجتمعاتها من فرص التنمية والنهضة.. لأنها تصر علي انها هي وحدها التى تملك الحقيقة، بينما زاد المعرفة يسع الجميع وتتجه في كل تطبيقاتها للماضي للكشف عن حلول لكل ما يعترضها من مشاكل آنية ومستقبلية..

والإعلام..

بكل اشكاله ووسائله، هو أحد ركائز التنشئة في أي مجتمع.. لكنه لا يملك وحده مقومات بناء مجتمع النهضة، بالرغم من أن أدواته تستطيع الفعل والتأثير إذا امتلكت قدرات التفاهم والتنسيق والتزاوج بينها وبين سلطة الثقافة !! فثقافة المجتمع التى ترسخ التخلف، تجر الاعلام إلي ساحتها.. والثقافة التى تعلي من كعب التبعية، تلون الاعلام بلونها القاتم.. وثقافة الماضي التليد الذي يقيس الخروج عن عباءته بمقياس الخروج عن الملة، تُقيد الإعلام بسلاسل من التخويف والعقاب.. والثقافة التى ترفض الآخر وتكفر الاختلاف، يساهم اعلامها في خفض السقوف وتضيق الافق وتوسيع هامش الازدراء..

وبينما تزداد بعض أوجه سياستنا العربية إنكماشاً، ينموالإعلام العربي ويتوسع ويتنوع بشكل ملحوظ.. وفي حين تعاني إدارة بعض انظمة الحكم من سوء توليفة ما تنتجه داخلياً، يعمل الإعلام العربي علي تحسين منتجه قدر الإستطاعة.. لذلك لاحظت بعض الدارسات ان الأداء اليومي لبعض الواجهات السياسية اصاب الملايين من مواطنيها بالهم وانسداد الافق، في حين احتل الاعلام صدارة التسلية وفتح الأبواب للنقاش وسمح لتعدد الآراء أن يجد لنفسه منبراً.. ومن جانبي ازعم ان الكثير من المجتمعات العربية التى صامت منذ سنوات طوال عن تعاطي سياسات حكوماتها، وجدت ضالتها ( وزيادة ) في الإعلام..

المواطن في العديد من الأقطار حتى القريبة من منطقتنا اصبح قادراً وفق منظمومة مجتمعه الثقافية علي مواكبه الحدث لحظة وقوعه وعلي التعرف علي ابعاد مكوناته وخلفياته، ناهيك عن اقطار أخري يملك مواطنوها عن إقتدار أحقية التأثير في الحدث سلباً وإيجاباً !!.. ذلك بينما بقيت الغالبية العظمي من المواطنين العرب بسبب أميتها المزدوجة ndash; أمية القراءة والكتابة، أمية الفكر والثقافة ) أسري للمراوحة بين ثقافتها الراكدة وما يُفرج عنه الآخرون من تغطيات إخبارية وتحليل كمي وكيفي لما يدور في اركان الدنيا الأربعة، وما قد يدس في عسلهم من سم أو جنس و فضائح..

المدقق بين حظوظ غالبيتهم ومأزق غالبيتنا، سيجد ضالته عندما يرصد عملياً عدم الاستقرار والتخبط والإنجذاب المتعصب للماضي يفرزها ضيق الفكرة الواحدة وجهالة النظرية الثابتة.. وما تعكسه رحابة معطيات التعدد السياسي والتنوع الثقافي من توجه نهضوي مستقر ومتنامي دائم التطلع للمستقبل..

ومرجعية هذه التفرقة تقاس وفق ثلاثية محددة الملامح:

وضوح الرسالة الثقافية / الإعلامية ومرونة الإستجابة للمتغيرات والتفاعل معها
الإدارة التى تتميز بالكفاءة والتجدد
الحرية المستقلة، الملتزمة بحق المواطن الأصيل في المعرفة
لهذا نقول..

النهضة المجتمعية التى نتطلع إليها لن تتحقق إلا إذا توفرت لمجتمعاتنا القدرة علي مواجهة السلبيات بمنطق العلم الذي يتصف بالشفافية وبالمشاركة الجماعية من كافة القوي المجتمعية، بهدف إيجاد الحلول الواقعية والعملية لتغييرها جذرياً بالتدريج ولخلق بديل عملي يحل محلها ويملأ فراغها بالتدريج أيضا..

وهذا يتطلب منا التلاقي معاً لأجل ترسيخ حزمة من التوجهات القادرة علي:

أولاً.. منح الأفق العربي الفرصة المتكافئة لتعزيز بيئة التواصل الأيجابي مع مؤشرات النهضة والتنمية والتحديث..

وثانيا.. افساح المجال أمام كافة القوي المجتمعية علي حمايتها من الإعتداء والإرتداد..

نحن لسنا في حاجة إلي معجزة تهبط علينا من خارج الحدود ولا إلي نماذج مستوردة لكي نقوم بإستنساخها.. نحتاج فقط لشجاعة الإعتراف بحتمية التزاوج بين الثقافة والإعلام القادرة ضمن انساق أخري علي أن تحدد أبعاد إستراتيجية النصر علي ثقافة الركون والإنطلاق نحو ما هو كائن، من خلال..

بناء وتوسيع مدارك الإهتمام المجتمعي بالقضايا والشئون المحلية، التى تساعد المواطن علي القيام ضمن شريحته المجتمعية بالتعبير بصدق وإيمان ودون وجل عن أتجاهاته وآرائه..
التعريف بقواعد الشفافية والنزاهة وحق المواطن في المساءلة، ووضع صياغات مجتمعية لتفعيلها وفق القيم الثقافية التى يساهم الإعلام في بلورتها..
تأكيد إستقلال التوجهات الثقافية والمحتوى الإعلامي عن مركزية الدولة، مما يساعد في تعظيم قيم التنافس بين وسائل الإعلام من ناحية وعدم تهميش أي قوة إجتماعية في المجتمع مهما صغر شأنها أو درجة اختلافها من ناحية أخري..
الحرص علي توفير مناخ المجتمع المعرفي وحماية متطلباته وما يؤدي إليه من تعزيز حقوق المواطنة ويوفر المشاركة المجتمعية في التطوير والتحديث..
أن يكون الحراك الثقافي المجتمعي متوائماً مع إحتياجات نهضة المجتمع، وليس مجملاً لأفكار النخب أو سالبا لحقوق الغير أو داعما لمطالب الاستهلاك..
أن تعبر المنابر الثقافية / الإعلامية عن مطالب شرائح المجتمع الحقيقية، وتكون قادرة علي مساعدة أبنائها لوضع أولوياتها بنفسها دون تجاوز للآخرين..
أن يتوافر للمجتمع ككل دون إستثناء أو إقصاء، الحق في الرقابة الجماهيرية التى تقوي من دور المؤسسات التشريعية وتمدها برؤية اضافية..
* ورقة مشاركة في ورشة عمل حول quot; آفاق نهضة ثقافية عربية quot; دعت إليها ونظمتها مجموعة من المنظمات العربية في المملكة المتحدة..

** استشاري اعلامي مقيم في بريطانيا [email protected]