مانقوله هنا عن سؤال الحوار العربي - الكردي، ربما ليس بجديد، فقد وقفنا على هذا الموضوع أكثر من مرة، و لكن في كل مرة وجدنا أنفسنا أمام مُبَرِرات موضوعية تتعلق بالزمان و الزمان و تحثنا على التطرق اليها و أثارتها، وذلك محاولةً منا، أو من غيرنا، لإستقطاب النخبة المؤمنة من العرب و الكُرد بأهمية القضية و أستثمارها لمواجهة التحديات السياسية و الأمنية و الإستراتجية التي تواجه شعوب منطقتنا، منطقة الشرق الأوسط، لاسيما الشعبين العربي ndash; الكُردي. و ربما هنا لانردد سوى ما قلناه و كتَبناه سابقاً حول الموضوع في صحف و مجلات عربية و كردية خدمةً لفتح النوافذ المغلقة بوجه مثل هذه القضايا.
وقد يبدو لنا في الوهلة الأولى أن الحديث عن مسألة الحوار العربي ــ الكُردي ليس أمراً بسيطاً كما نظن. والسبب هو أن هذه المسألة، بل القضية الكُردية برمتها، كما يقول السوسيولوجي العربي د. برهان غليون، غير مطروحة أساساً في العالم العربي أو في أجندة أية دول عربية سوي العراق وسوريا ولا تشكل هاجساً أو هماً قوياً لديها، وذلك ربما لكثرة الأزمات والتحديات السياسية والأقتصادية والإمنية الداخلية والخارجية الساخنة التي يعاني منها العالم العربي، أو لسبب آخر هو أن أغلب الدول العربية، كما يقول المفكر الليبرالي د. شاكر النابلسي في مقال له، لاتعترف حتي الآن بشكل واضح بوجود الكُرد كمجتمع مختلف ومتميز ثقافياً وعرقياَ وسياسياً عن مجتمعاتها ولاتريد أن تتفوه بذلك.
وربما لانجد أصلاً، من بين العواصم العربية، أو من بين من تعاطت منها، بشكل من الأشكال، مع القضية الكُردية والشعب الكُردي سوي القاهرة التي يُمكن للمتتبع أن يشهد لها بأنها تعاملت فعلاً مع الكُرد بمنطق سلمي وأخوي وبمنتهي المسؤولية. ولا مراء هنا من أن لمصر أفضال كثيرة علي الشعب الكُردي، وهي الدولة العربية الوحيدة حتي الآن، التي سمحت لنفسها، منذ مرحلة حكم جمال عبدالناصر الي اليوم، أن تؤمن بحقوق هذا الشعب وعدالة قضيته وضرورة إيجاد الحلول السلمية لمشاكله السياسية في العراق وسوريا، وذلك من خلال تفهمها العميق لمشكلة هذا الشعب وإستثمار علاقاتها التاريخية مع الحركة الكُردية التحررية لأهداف سياسية ومصالح مشتركة بين الشعبين، فضلاً عن أخذ مصر، دور الكُرد البطولي في التاريخ العربي والإسلامي دوماً، بنظر الإعتبار، والذي يتمثل هذا الدور، علي سبيل المثال لا الحصر، في حكم الكُرد التاريخي لست حكومات حكمت المنطقة الإسلامية، كانت أبرزها الدولة الأيوبية في القرن الثاني عشر الميلادي، ودور الكُرد أيضاً في محاربة أعداء الإسلام والمجتمعات الإسلامية، والذي كان يتمثل، في إحدي محطاته التاريخية الأخري، في تحرير القائد الإسلامي الكبير صلاح الدين الأيوبي، الكُردي الأصل، للقدس بعد أن أنتصر في معركة حطين علي الصليبيين عام 1187 والتي كانت محتلة منذ عام 1099.
كما أن رعاية مصر المخلصة لأول مرة لمؤتمر موسع للحوار العربي الكُردي في القاهرة عام 1998 وتخصيصه لمناقشة القضية الكُردية وتفعيل العلاقات التاريخية بين الشعبين، تعتبر من المبادرات النادرة والتاريخية التي لمسناها من العالم العربي تجاه القضية الكُردية ونشهد لها بإستمرار. عدا تلك المواقف المصرية البحتة أو مواقف بعض من الجمعيات العربية التي شُكلت في السنوات الأخيرة لتوطيد العلاقات العربية ــ الكُردية كجمعية الصداقة الأردنية ــ الكردية مثلاَ، لا نجد حتي الآن أية بوادر أخرى أخوية من جانب الدول العربية تجاه الكُرد وقضيته، هذا في الوقت الذي لاتزال تُراهن فيه، أبناء الشعب الكُردي، من حسهم بالرابطة الحضارية التي تُربطهم مع العرب أو ربما من طيبة قلبهم، على أن ينفتح العالم العربي بوجه قضيتهم وأن يساهم بشكل عقلاني وديمقراطي في إبعادها عن أي لجوء إضطراري للكُرد، الي الغرب والإعتماد الكلي عليه لمعالجتها، وذلك كموقف منه، أي من العالم العربي، لمنع التدخلات الأجنبية المغرضة في المنطقة، وكمبدأ قائم علي الإعتراف بحق الكُرد في تقرير مصيره، وكعمل وقائي أيضاً من أن تُستغل هذه القضيه المشروعة ضده وضد مصالحه الإستراتيجية. من جانب آخر، علينا أن نذكر أن الوقوف علي مسألة الحوار العربي الكُردي بحاجة دوماً الي أخذ عدة شروط مسبقة بعين الإعتبار وتوفيرها حتي يكون الأمر قابلاً للنقاش أصلاً. أبرز هذه الشروط، في نظري، يتمثل في وجود نخب سياسية وثقافية متحضرة في الطرفين تكون بعيدة كل البعد عن أية تعصبات قومية وعنصرية أو آيديولوجيات وعقائد شمولية/ وحدوية/ قسرية تعيق التواصل والتفاعل بين الشعبين، وأن تكون مستعدة أيضاً لأن تناقش القضايا والتحديات التي تواجه الشعبين برؤي موضوعية وعلمية وإنطلاقاً من المصالح الأستراتيجية التي تهم الأمتين في المنطقة والعالم وأمنهما القومي ومستقبلهما في المدي القريب والبعيد. كما وأن الحوار العربي الكُردي يستدعي من الطرفين إستحضار رؤي ومفاهيم واقعية تساعد الشعبين العربي والكُردي سيما أولئك الذين يريدون تمثيلهما في تشيد وبناء مثل هذا الحوار علي تجاوز النزاعات والخلافات النابعة من النزعات العنصرية واللاإنسانية التي لم تجلب للشعبين في العراق وسوريا، منذ أن قُسَم الكُرد علي الخارطة الجيوسياسية الجديدة التي وضعها الإستعمار الغربي للمنطقة بعد إتفاقية سايكس ــ بيكو، سوي الفتن والأحقاد والإتهامات المتبادلة وسوء التفاهم. وكذلك يستدعي حوار من هذا القبيل تشبث العرب والكُرد معاً بأفكاروطروحات قابلة للترجمة وحاثة علي تقرب بعضهما من البعض علي الصعيدين النظري والعملي.
وهناك شرط آخر لهذا الحوار، هو وجود إرادات حرة داخل الأمتين، عنيت هنا إرادات متجاوة لعهود الخلافات والنزاعات الماضية، ومؤمنةً في الوقت ذاته بقيم معاصرة، قيم تعيد اليهما الثقة بعد أن تزعزعت بفعل الصراعات والتناحرات، وتُبني القناعة بجدوي الحوار بينهما والمصالح التي يُمكن أن تُحَقَّق من ورائه. وقد يكون أهم تلك القيم هنا هي، قبل كل شيء، الإعتراف بفضيلة الإختلاف، علي أي مستوي كان، وإحترامه والتمسك به كوسيلة لإيصال الشعبين الي القواسم المشتركة التي هي ليست بقليلة، وبالتالي توظيف الإختلافات الفكرية والنظرية أو السياسية والثقافية الموجودة بين الطرفين لا كغايات لنفسها، أي للإنغلاق علي الذات والتقوقع في أهداف ومرام ذاتية أو الإبتعاد عن إدني الشروط الكفيلة بالإتصال والتفاعل والتعاقد علي المصالح المشتركة كما هو متوقع دائماً مع أية هيمنة للقيم العنصرية والإصطفائية العدائية، وإنما التعاطي معها كسبل نظرية وآليات ديمقراطية مثمرة لفهم حقيقة البعض والطموحات والمشاريع المُتطلع اليها والمُتَعَذر تحقيقها بسبب الخلافات والنزاعات السياسية التي حصلت في الحقب التاريخية المختلفة بين الكُرد والأنظمة العربية وأدت في النتيجة، بوعي أو بدونه، الى وقوع حالات من العداوة وروح العدوانية بين العرب والكُرد: حالات كانت بالنسبة لنا جميعاً مؤلمة ومؤسفة: تمثلت، من جهة، في ممارسة النظام العربي السياسي للعنف والقمع المادي والرمزي بحق الشعب الكُردي ومطاليبه الديمقراطية المشروعة في أكثر من مرحلة تاريخية، ومن جهة أخري، في تمرد هذا الأخير، من جانبه، إثر ذلك، عن الدولة العربية وإلحاق أضرار كبيرة بها مادياً وبشرياً فضلاً عن تهديده للأمن القومي العربي وإنعكاس ذلك كله علي قدرات النظام العربي السياسي في مواجهة المخططات الخارجية أو مقاومة المشاريع الصهيونية في المنطقة وبالتالي تأثيراته السلبية علي بناء أي إجماع داخلي وطني يُستَمَد منه القوة. أما الشرط الثالث للولوج في أي حوار ممكن بين الشعبين فهو، برأيي، يكمن في ضرورة التمييز بين الدول العربية والأنظمة العربية المعينة التي لم تُحسن معاملة الشعب الكُردي بطرق ديمقراطية وبروح أخوية لا بل أسوء من ذلك لجأت، في أحيان كثيرة، الى أستخدام أو دعم وتأييد أستخدام لغة الحديد والنار لقمع الكرد وإضطهاده وإرغامه علي التراجع عن مطالبة حقوقه السياسية الي أن وصل الأمر الي ما هو أفضع وأشد ألا وهو نفي وجود الكُرد كقومية متميزة عن القومية العربية. علينا أن نشير أيضاً الى أهمية التمييز بين المجتمعات العربية والأنظمة العربية من حيث موقفهم من القضية الكُردية، لأننا نعلم تماماً أن ثمة أختلافاً حقيقياً بين ما مارستها الدولة العربية في العراق وسوريا من سياسيات قمعية وشوفينية بحق الكُرد، وبين ما أبدتها في الماضي وما تزال، قطاعات مجتمعية وتيارات سياسية تقدمية من المجتمعات العربية، من تعاطف حقيقي تجاه أبناء وأحفاد صلاح الدين الأيوبي، وتفهمهم للروابط الدينية والحضارية التي تربطهم بالكُرد. وقد يكون هذا التمييز هو بمثابة المفتاح الأساسي لنا ولكل راغب في فتح القنوات المختلفة للحوار بين الشعبين أو بين الفاعلين الأجتماعيين فيهما سيما أولئك الذين لم يؤيدوا جرائم صدام بحق الكُرد في العراق ولم يصفقوا للسياسات العنصرية التي أنتهجها وما يزال للأسف النظام السوري بحق الأكراد السوريين، وكذلك أولئك الكُرد الذين يؤمنون بمد يد الأخوة الى العرب ونسيان الماضي وفتح صفحات جديدة من أجل الحفاظ علي المصالح المشتركة.
* رئيس تحرير مجلة ( والابريس ) ndash; كُردستان العراق
التعليقات