الناقد علي أبو شادي لإيلاف
مهرجان طنجة للسينما القصيرة ناجح ومتميز

قصي صالح الدرويش:حين تسأل الناقد الكبير علي أبو شادي عن رأيه في مهرجان طنجة الخامس للفيلم القصير المتوسطي يقول: quot;أعتقد بحكم خبرتي المتواضعة في المهرجانات أننا إزاء مهرجان متميز من حيث الهدف في إقامة علاقات ثقافية وحوار بين دول المتوسط. وهناك تحد لا يستهان به بالنسبة لاختيار الأفلام من حيث نوعيتها وجنسياتها، فالمهرجان متخصص في الأفلام الروائية القصيرة التي تنتج أعداد كبيرة منها حاليا على المستوى العالمي. ومن اللافت في هذا المهرجان التنظيم الجيد للعروض وكذلك الجهد الذي بذلته إدارة المهرجان من أجل توفير عروض مميزة في سينما روكسي. أما التميز الواضح للجمهور سواء على مستوى نوعيته أو ثقافته فكان عاملا مهما في إضفاء روح متوهجة لفعاليات المهرجانquot;.

وعن مآخذه على المهرجان، يضيف أبو شادي: quot;هناك ملاحظة أعتقد من وجهة نظري أن على إدارة المهرجان مراجعتها وهي تتعلق بترتيب برنامج العروض. حيث حرصت على عرض أفلام كل دولة بشكل متلاحق، الأمر الذي جعل المتلقي وكأن خاضع للجغرافيا أكثر منه لفكرة التنوع، ليصبح الحكم على سينما بلد بعينه وليس على فكرة كل فيلم وقيمته في المسابقةquot;.

وعن سؤال يتعلق بالجوائز، أجاب على أبو شادي في حواره مع إيلاف: quot;ربما جاءت الجوائز مخالفة لكل التوقعات. هذه مسألة قد تخضع لذوق لجنة التحكيم التي أرى أنها أفسدت بنتائجها الغريبة مهمة المهرجان. اختيار أعضاء اللجنة مشكلة تعاني منها معظم المهرجانات، وربما تعلمنا الدرس في مهرجان الإسماعيلية السينمائي الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة الذي ينظم سنويا في شهر سبتمبر. ففي إحدى الدورات التي جرى فيها اختيار الأعضاء بناء على شهرتهم، خذلتنا لجنة التحكيم وجاءت النتائج مخيبة لكل التوقعات. وهو ما تداركناه بعد ذلك مما أكسب المهرجان ونتائجه احتراما متزايدا في الأوساط السينمائية وتأكد ذلك من كم الأفلام الهائل التي رغب صناعها بالمشاركة في المهرجان، إذ تجاوز عددها هذا العام الألف فيلم علينا أن نختار منها خمسين فقط.

وتجدر الإشارة إلى أن مهرجان الإسماعيلية يشكل حلقة مكملة لمهرجان طنجة من حيث الدور الذي يلعبه في تبادل التجارب المختلفة وتطويرها ونقدها، خصوصا أن غالبية المخرجين المشاركين ينتمون إلى جيل الشباب المتحمس لإبداعه. ويرأس علي أبو شادي مهرجان الإسماعيلية كما يتابع عمله كمدير للمركز القومي للسينما في مصر إلى جانب مهمته الجديدة كأمين عام للمجلس الأعلى للثقافة والآداب.

سوداوية طغت على معظم أفلام أوروبا

بغض النظر عن درجات النجاح المتفاوتة للأفلام، تميزت عروض مهرجان طنجة بدرجة رفيعة من التقنية التي تستحق الإعجاب، ناهيك عن حماس المخرجين الشباب وموهبتهم. هناك مخرجين لهم تجارب سابقة طبعا، لكن أغلب المشاركين ما يزال في بداية العشرينات من العمر وبعض الأفلام هي مشاريع تخرج من الجامعة.

العرض المتلاحق للأفلام وفق الدول، فرض مشاهدتها وكأنها مسابقات رياضية بين الدول بشكل أثر إلى حد ما على المقاييس الفنية. وهو ما سيدفعنا إلى تناول كل فيلم وفق مواصفاته الخاصة وأيضا قياسا ببقية أفلام نفس الدولة.

على هذا المستوى نتلمس تفاوتا كبيرا بين فيلمي قبرص، quot;مطار للبيعquot; للمخرج سيمون فارماكاس الذي يصور بنجاح وحشة مطار نيقوسيا القاسية، الذي كان مطارا دوليا حيويا قبل أن يتحول إلى بناء فارغ بارد تحرسه قبعات الأمم المتحدة الزرقاء. ونتابع عددا من الصبية ينجحون في اختراق الأسلاك الشائكة ودخول المطار باحثين عن أي شيء ما زال قابلا للحياة فيه، إلى أن يعثروا على بقايا ساعة كبيرة محطمة يهربون بها رغم ملاحقة القبعات الزرقاء ويحملونها إلى تقني عله يصلحها فتتحرك لحياة جديدة. آفاق الأطفال وبقايا أحلام ذات يوم مضى، فيلم جميل بسيط خال من أية ادعاءات تضخيمية.

على النقيض جاء الفيلم القبرصي الآخر quot;فارماكومquot; للمخرج لواكيم ميلوناس الذي يتناول حالة امرأة مريضة مهووسة في أجواء أقرب ما تكون إلى السريالية وعبثها. عنوان الفيلم له عدة معان منها quot;الدواءquot; لكن أيضا نوع من السم وكذلك السحر أو الافتتان، لكنه خال من أية فتنة فهو كئيب بشع في صوره ولا يقدم أية رؤية ملموسة. يشار إلى أن لجنة التحكيم أعجبت بهذا الفيلم ومنحته جائزتها الخاصة، ربما لزاوية التصوير والله أعلم.

اليونان شاركت بثلاثة أفلام طغى عليها، وخصوصا على اثنين منها، مستوى حاد من السوداوية. quot;الانتظارquot; للمخرج ستيف كريكوس يصور موزعا لشركة أدوية يحمل إلى قريبة نائبة عقار الأنسولين الذي تحتاجه طفلة تصارع الموت، لكن سيارته تتعطل ليجد نفسه في سباق مع الزمن لتجنب المأساة. الفيلم موحش لكنه محكم ومهم ومصور بشكل جيد . كذا الأمر بالنسبة لفيلم quot;سيرك الحياةquot; للمخرج ماريا لافي والذي يحكي عن قسوة ورتابة وصمت حياة زوجين عجوزين يعيش كل منهما حياته بإيقاع واهتمام مختلف بينما تتجمع أكياس القمامة في الشارع لتصبح قمة من الأكياس.

الصورة مختلفة في الفيلم اليوناني الثالث quot;بيت أشجار الزيتونquot; للمخرجة طولي دوسيوس والذي يعالج مسألة الحب والفراق عبر الشابة الجملية آنا المتمسكة باستقلاليتها والتي تلتقي بالحب ممثلا بماركوس الذي تعيش معه أياما سعيدة في قرية يونانية جميلة.. إلى أن يحصل الفراق. هذا الفيلم على ما فيه من جمال وإثارة لم يوفق في تقديم إجابات مقنعة للإشكالية التي يطرحها.

مستوى الأفلام الإيطالية المشاركة جاء متباينا، أهمها كان للمخرجة سيلفيا اينوشانزي وحمل عنوان quot;الضفدعة الصغيرةquot;. وهو يتناول مسألة الحرمان والفقر، إذ تجد الصغيرة مارتا 11 سنة التي تتعلم على آلة موسيقية نفسها أمام مشكلة أن رجلا على دراجة نارية سرق آلتها الموسيقية، فتعمد بدورها وبعد محاولات يائسة للعثور عليها إلى سرقة آلة موسيقية مناسبة لتستعيد إيقاع حياتها. الفيلم رغم مستوى التصوير الجيد فيه يظل قطعة من حكاية صغيرة لنهاية فقيرة خلاصتها أن المسروق يصبح سارقا. أما الفيلمان الإيطاليان الآخران فيضيعان في متاهات لا نهاية لها دون تقديم فكرة جديرة بالتوقف عندها، كذلك الأمر بالنسبة للأفلام البرتغالية المتداخلة في مواضيع مكتئبة ومعقدة وغير مقنعة.

في المقابل تميز الفيلمان السلوفينيان بحيوية ومهارة فنية ناجحة، على الرغم من سوداوية موضوع كل منهما. هذا ما تبدى في فيلم يتناول الشيخوخة حمل عنوان quot;واحد على اثنينquot; quot;2/1quot; للمخرج سلوبودان مكسيموفيتش. يحكي الفيلم قصة خلاف مستحكم بين جارين عجوزين رجل وامرأة سببه أن المرأة تستيقظ مبكرا وتقلق راحة الرجل الذي ينتقم منها عبر قتل النباتات التي ترعاها في شرفة منزلها. وينتهي الصراع بموت الجارة العجوز، موت يكسر إيقاع حياة الجار إلى غير رجعة، خاصة وأن السكان الجدد من الشبان الذين لا يتوقفون عن الضجيج. وفي هذا الفيلم المتقن حيوية وبهجة نادرة على رغم المأساوية التي انتهى بها.

أما الفيلم السلوفيني الآخر quot;حظ سعيد نديمquot; فيمكن تصنيفه في إطار السينما السياسية، وهو يصور شابا يقل صديقة المريض بسيارة لنقله من بلد مجاور إلى سلوفينيا، لكن رجل الشرطة يرفض السماح لهما بالعودة لأن أوراق الصديق المريض غير نظامية. فيلم محكم ببراعة ومهارة وينبئ مخرجه ماركو سانيتش بمستقبل كبير وقد فاز البطل بجائزة أفضل ممثل في المهرجان.

درجة موفقة من النجاح تمتع بها الفيلم التركي quot;المصيرquot; الذي يصور فتاة تبحث عن الحب ولا تجد لنفسها عريسا أفضل من مهرج سارق يتسلل إلى منزلها أثناء هروبه والفليم لمخرجتين شابتين. الشيخوخة وقسوتها كانت موضوع الفيلم التركي الآخر quot;آخر لعبةquot; للمخرجة مويدي أرسلان. وهو يصور رجلين عجوزين تتمحور حياتهما حول نزهة مشي ولقاء حول رقعة شطرنج، لكن موت أحدهما يترك رفيقه بالانتظار، انتظار الموت.

في الفيلم الفرنسي quot;ارفع السماعةquot; يتناول المخرج مانييل شابيرا مشكلة الوحدة والتواصل في الزمن المعاصر، فنحن أمام شابة تتصل من منزلها بالهاتف العام الواقع على ناصية الشارع وتتحاور مع كل من يتبادر لذهنه الرد على رنين هاتف عمومي إلى أن تلتقي بمن يثير اهتمامها فتكشف عن هويتها عبر النافذة. فيلم رشيق ساخر ومهم.

الفيلم الفرنسي الثاني للمخرج مارك فيتوسي والذي حمل عنوان quot;حلوى بالفلفلquot; يعالج من زاوية أخرى مشكلة التواصل. عبر خلاف في أسلوب العمل بين امرأة شابة متدربة وأخرى أكبر سنا ومسؤولة تقوم بفصلها. لكن تجتمع الاثنتان لاحقا في منزل الشابة التي تعطي المسنين دروسا في الرقص، تجربة تعطي المرأة المعمرة الفرصة لاكتشاف حياة أكثر حيوية وسعادة.

ثالث الأفلام الفرنسية quot;ليلة سعيدة مالكquot; للمخرج برونو دانان يطرح تساؤلات عن مشكلة العنصرية في فرنسا عبر الشاب مالك العربي الأصول الذي يعيش مع أخيه الأصغر بلال ويحاول تحسين حياته عبر تدربه في ناد للملاكمة وعملة كحارس في ناد ليلي خاص. مالك يضطر ذات مرة لأن يرفض دخول شاب أسمر إلى النادي مثل غيره لأن الأوامر قاطعة بهذا الشأن، موقف مفاجئ يدخله في أزمة نفسية. فيلم على قدر كبير من الجمالية.

الفيلم الالباني XP يتناول في قالب حيوي ورشيق موضوع التقنيات الحديثة وعلاقتها بالأجيال. مدرس للتقنيات الإعلامية يصبح مادة لسخرية طلابه الذي تفوقوا عليه مهارة في هذا الميدان.

الفيلم الكرواتي quot;باستيونquot; يطرح مسألة التعقيدات النفسية التي يعيشها مثليو الجنس، عبر شابتين جميلتين تجمعهما علاقة، تعيشان بين الحب والجنس واللعب والاكتئاب. والفيلم رغم جماليات التصوير فيه، إلا أنه عاني من التكرار الذي هبط به إلى مستوى متوسط.

اما الفيلم الجميل الذي رشحه الكثيرون للجائزة فهو إسباني حمل عنوان quot;بوتيللونquot; للمخرج توماس سيلرمان، وهنا أيضا كنا على موعد مع السوداوية عبر امرأة معمرة فقيرة تعيش وحيدة بعد أن فقدت زوجها وابنها، هدف حياتها الوحيد إيقاد الشموع أمام صورتي أحبائها. وعندما تنفذ الشموع وتعجز عن توفيرها تسعى إلى تجميع الكحول من زجاجات الخمور الفارغة التي تخلفها مجموعات الشبان الذين يثملون في الشوارع إلى حد الغياب. الفيلم أنيق وجميل وأداء الممثلة كان على درجة كبيرة من الإتقان.

مهرجان طنجة الجزء الأول
مهرجان طنجة الجزء الثاني