كنتُ مرغماً في ركوب هذه المغامرة، فوجدتني أستقل قطاراً يحملني الى دنيا مجهولة، لا متاع لديّ، وعندي قليلٌ من المال، توغل بي قطاري في تلافيف قفارلا تنتمي الى أيّ مكان. ملتفاً بالغبار وبرد الليالي، ولا يبدو أنه سيوصلني الى سؤلي ومبتغاي، ثم أراني فجأة في أحشاء مدينة، بلا إسم، مرمية في صقع من أصقاع الكون المجهولة. كلّ شيء فيهاغريب غير مألوف، أناسها بلا ملامح، يقضون حاجاتهم بخجلٍ وصمت، أُحسّ انني وحدي منْ يعي ويفهم هنا، والآخرون كائنات قشية ترفرف مع هبات الهواء، واجهات المحال تزهو بكلّ ما تشتهيه النفس، ولا ألفاني أرغب في أيّ شيء، ما عدا البحث عن كتاب تستهويني قراءته، ويزوّدني بشيءٍ من المعرفة. تُرى لمَ لا أجوع ولا أظمأُ أبداً؟. وفيما أنا أتابع سيري على الرصيف أرنو الى واجهات المحال إذ التقيها وجهاً لوجه، تقابلنا على غير موعد، الهي ؛ ما الذي جاء بها من متون السنين البعيدة؟ من طيّ الأغبرة والنسيان، والأيام الذابلة في الذاكرة. وأرى سنا إبتسامتها، وأسمعُ صوتها: مدّ يدكَ الى جيبك ربما تجدُ فيها شيئاً يخصني/ إستغربتُ كلامها، أدخلُ أصابعي فيه فأجد ورقة مطوية، أقبض عليها، أُخرجها على عجل، أنظر اليها، إنها لها فعلاً، فقد دوّن عليها اسمها، وبداخلها صورة ملونة لعائلتها، انها تقف بين أبويها مع أخيها وجدتها، وأسألها مستغرباً: من أين لي بهذه الورقة وهذه الصورة؟. فلا أذكر أني أخذتها من أحد/ ردت بنبرة هامسة: تعبت ذاكرتك، بل خبت، انها من أُمي، فقد أخبرتني في حلم خاطف رأيته ليلة أمس أنها سلمتك إياهاعندما عرفت أنك آتٍ الى هنا/ اللعنة على ذاكرتي، فلم أرَ أمَك من أمد بعيد، وما أنا بعارفٍ شيئاً عن هذا المكان. وأجهل الآن أين أنا، وأيّة مدينة هذه؟ / نظرتني بشوق، وردّت بهدوء وأنا أناولها الورقة والصورة: لا عليك، أنتَ متعب وحسب، هيّا نجلسْ في مقهى قريب نحتسِ ِاستكانة من الشاي الأسود/ غبئذٍ، غبّ أن جلسنا الى جوار نافذة عريضة، بدت مفاتن المكان تتوضحُ ووجوه الناس تنجلي. لكني أعرف أنها غادرتنا في مساء حزين قبل سنوات، بعد أن بدأت تذبل شيئاً فشيئاً، نزفت في وقت قصير رواءها وسنا شبابها، هكذا قيل بعد رحيلها،خفتُ أن أقول لها: أنتِ غير موجودة أصلاً، الا أنها موجودة هنا كما لو كانت في أزهى أيام عمرها، المقهى ساجٍ تزيّن جدرانه لوحات تنتمي الى المدرسة الإنطباعية حيث تتزاحم فيها الأضواء والظلال والألوان القوية، أزقة بغدادية، وشناشيل بصرية، وأبواب موصلية مؤطرة بالمرمر، تكتظ بزخارف ومساميرنحاس. رنوتُ الى جميع اللوحات المحيطة بنا، وتناهى الى ذاكرتي وجوه رساميها من القرن الماضي: عطا صبري، حافظ الدروبي، جواد سليم، فائق حسن، سعاد العطار وآخرين من مبدعي العراق الأفلين والحاضرين في هذه الروائع. أغلب الظن أن هذا المكان من صنع المخيلة والشطط،وشطحات من رؤاي الساخنة. حوالي أناس من كل الأجناس، يتحدثون بهدوء ويحتسون الشاي بتلذذ من استكانات ِزجاج بلوري محاط ٍ بأحزمة ذهبية رفيعة. رائحته تزحف الى صدري تذكرني بالشاي البغدادي يوم كنا نحتسيه في مقاهي الأعظمية والمربعة والحيدرخانة وباب المعظم والجعيفروشارع السعدون. أرفع استكانتي وارتشف منها حسوة وأحسّ بطعمه المرّ اللذيذ. سألتني: أكان سفرك مريحاً؟ أهز لها كتفي: لا أدري، أشعر أني لم أسافرْ قطُ، لكني كنتُ داخل قطار توغل في متاهة مجهولة/ ردّت بلا مبالاة: هو القطار نفسه جاء بي الى هنا، لكنني لم أكن وحدي، بل بصحبة مرافقين قدّموا لي خدمات لم أحظ بها في أيّ مكان. كنا نسير داخل عماء وقفر، فلا لون للزمن، لا أرض ولا سماء/ سكتت هنيهة، ومضتْ بارقة حزن على سيمائها، أرادت أن تبكي الا أنها تماسكت، ابتلعت غصة بكائها، ومسحت عن عينيها حبيبات دمعية هملت عبر أجفانها. ثم بدأت تغيّر مجرى الحديث، وتابعت: هذه الورقة ستساعدني، انا حتى هذه اللحظة مجهولة هنا، لا أحد يعترف بي، غداً سيتغير الموقف عندما أريهم إياها،وسأحظى بعمل مريح./ لم أستطع أن أقول لها أنها واهمة، هي وأنا الآن داخل شطحة من أحلامي، بعد قليل أستيقظ ولن يبق منها سوى خيوط واهية ربما تسعفني على كتابة قصة، فجأة تساءلتْ: أتذكر لقاءنا الآول؟/ أجبتها: أجل، كيف أنسى الومضة الأولى ؛؛أتذكر كلّ الساعات التي تربطني بكِ/ قطعت كلامي بأدب: أتخيلك طفلاً في السابعة عائداً من القرية، تجلس على صخرة بنبة ناتئة قبالة بيتنا، في الفضاء المفتوح أمام بيوت المحلة التي كانت تعج بالأطفال، بدءاً تجيْ وحدك تسبق رفاقك، ثم سرعان ما يلتم شملكم، وجدتك تخلتف عنهم quot; هاديء، رصين، قليل الضوضاء والمشاكسة، سارح الفكرquot; كما لو كنتَ مستغرقاً في حلم أسيان، أحياناً كنتُ أُطلّ على مكان جلوسكم من فتحة الباب، وأراك رانياً اليّ، وابتسم لك، وأحياناً تعود من السوق حاملاً سلة خوص مليئة بالخضار واللحم، وتضع سلتك أمام بابنا وتستريح، آملاً أن أخرج وأرنو الى أحشاء المحلة، وقد تحققت رغبتك في إحدى المرات وطلبت اليّ شيئاً من الماء، وجئتُ به وأنا سعيدة، تناولت مني الطاس الذي كان مخصصاً للضيوف فقط، وكان الماء من تحت الحب، وهو مخصص لأبي وحدَه، استغربت أمي ورمت عليّ ابتسامة حانية وسألت : أتعرفينه؟ هززتُ لها رأسي وأجبتُ: نعم، انه يختلف عن بقية الأولاد، ويحظى بمحبتي، لآول مرة أراك من هذا القرب، كنتَ مدهشاً كما لو جئتَ من سديم عجائبي.حين رفعتَ رأسك ابتسمت بخجل، وسمعتك تقول: شكراَ، انها مصادفة جميلة لن أنساها. عبارتك هزتني، كما لو غرستَ في روحي زهرة نارية، أشعر أن هذه الزهرة لا تزال موجودة هنا، أشارت الى قلبها. بعدئذ كنتَ تنتظرني في الطريق وتمشي الى جواري خلال المسافة الى مدرستي، لم يجرؤ أيّ فتى من رفاقك الإقتراب مني، سوى صديقك نظمي الا أني أهويتُ بكفي على وجهه، فصددته عن ملاحقتي، فانسحب يتوارى خجلاً أمام أنظار الناس. ثم ندمتُ على فعلتي، وحين كان يلتقيني في الطريق يغض طرفه خجلاً، أتذكر حين أخذتُ بيدك وأدخلتك الى مطعم أبي، كنتُ قد حدثته عنك، وأنت تساعدنا أنا وأخي في حفظ دروسنا. وضع النادل أمامنا صحون الرز والباميا المنطوية على شرائح من اللحم. حين عاد أبي من الجامع هرع نحونا ووضع يده على كتفك مرحباً بك، كان يحبّك وهو صديق لأبيك. واحتفظتُ بكلّ الرسوم والخرائط التي رسمتها لنا، ها، انسيت تلك الأيام التي لا تزال تغمغم في ينابيع الذاكرة. أنسيت تلك القبلة البريئة التي رميتها على خدك يوم حزتُ على درجة ممتازة في الحساب؟ ؛. أذكر أنك دهشتَ وأحمرّ وجهك وأذناك، لكني واثقة أنك كنتَ تتمنى لو تبادلني قبلة مثلما فعلتُ، ثم شببنا وكبرنا وجرى الزمن بكل واحد منا الى مكان ما. فلم أعد أراك بعدئذ لا في المحلة ولا في المدينة، الا في سوح أحلامي، تجيء مرةً شاحباً مثل الضباب وأخرى غامضاً مثل لغز عصي./ أجبتها وانا ارشف حسوة من الشاي: كل ما ذكرتِ أتذكره بعمق وصفاء كما لوحدث قبل لحظات، وانت تتهمينني بضمور ذاكرتي وتحجّر ذهني. فمثلما أشعلتُ في صدرك زهرة نارية كما تقولين فقد غرست أنتِ في روحي سنديانة لما أزل اتفيأ بظلالها، برغم اكتظاظ قلبي بمحبة عائلتي وهم شظايا مني، الا أني وفيٌ لذكرى أصدقائي وصديقاتي، فمذْ فارقتكم ملأتُ دفاتري بصوركم، صوّرتُ كلّ لحظة ولقطة، ووجهك مميّز بين كلّ الوجوه، الإنسان غنيّ بخصوبة ذكرياته. وبرغم أنها مليئة بالإنكسارات والإحباطات فإن فيها ومضات مضيئة يحلو للمرء أن يسردها على نفسه بين آونة وأخرى، وان وجهك سيظل وهجاً ينير عتمة أيامي الباقيات، لكن الا تخبرينني أيّ مكان هذا الذي اخترتِ ولمَ أنتِ وحيدة هنا؟ أنا أستغرب وضعك كما استغرب وضعي، ويراودني احساس أنك غير موجودة في أيّ مكان الا في ذاكرة منْ أحبوكِ./ لم تجبني، بل غشيتها ديمة حزن، ظلّت صامتة غاضة طرفها، كان النهار في منتصفه، والنوافذ الفسيحة مفتوحة على فضاء من شجيرات الجوري والرازقي والياسمين والقرنفل، وفي كل حنية تنهض نخلة محملة بأعذاق البرحي والساير والخضراوي والبريم وهديل الحمام وغناء الهزار. أغلب الظن أن كل واحد منا حين يغادرجسده وينطفيْ يقوم بصنع عالمه الأثير، عالم ٍ من نسيج المخيلة تتخلله تفصيلات مما يتمنى ويشتهي، فمثل هذه الأجواء البغدادية المنتمية الى القرن الماضي لا يمكن ان تتكرر في أيّ مكان، وتقيم حضورها فيه. الا في أروقة الأحلام والمصادفات المستحيلة.ثم عرفتُ أن ثمة زوايا أخرَ تعجّ بضحيج الحياة، زاوية مخصصة للراحل العلامة مصطفى جواد، ما زال منكباً على القراءة والبحث في مظان المصادر، وزاوية أُخرى تضم وجوه الثقافة/ المخزومي، الجواري، الطاهر، عمر باوزير، ناجي معروف، الوردي، صديق الأتروشي، رفيق حلمي، وتلميذهم عناد غزوان/انهم ما فتئوا منشغلين بهموم المعرفة الجادة،يواصلون ابداعهم في غلالات الخلود، وزوايا للتشكيليين والمسرحيين واهل الفلسفة، والموسيقى، نعم رأيتُ بعيني ّهاتينquot; القبانجي الكبير وناظم وسليمة مراد وأحمد الخليل ومنير ويوسف عمرquot;، كانوا يستمعون الى رشيد القندرجي وهو يسمعهم مقام النهاوند، إذاً ههنا تقيم بغداد أخرى يتنفس في جنباتها الوفاق والمحبة والأمان، بودّي لو تتاح لي الفرصة لأملأ صدري بمرأى أولاء الأُلى أحببتهم، ترى أين دجلة والجسور وشارع الرشيد وليالى quot;أبو نواسquot; و.../ وقبل أن أُلملم شتات روحها التي أعطتنا كلّ شيءٍ ولم نعطها شيئاً، وهي لم تزل بكل تراثها الغني وحاراتها المكتظة بالأُلفة والوئام جاثية قربي، جاء النادل وهمس في أذن صاحبتي ببضع كلمات، ضربت بهدوء يدها على الطاولة وقالت: حان الآن وقت انصرافي، لن أضمن لك أننا سنلتقي ثانية، هي الأحلام تجمعنا وتلمّ شظايا صورنا وتضعنا حيث ُ تشاءُ، سيظل وجهك دائماً يحوم حوالي ما حييتُ، رمت عليّ ابتسامة حانية وغادرت المقهى، واختفت،مثل عصفور فرّ من قفص، وكان عليّ أن أختفي أيضاً، وأترك هذا المقهى البغدادي الجميل، ولا يهمني كيف سأعود الى صحوي، فأنا أعرف طريقي الى ملاذي بعد كل رحلة عجائبية، لكن طريق العودة لم يكن سهلاً كما في المرات السابقة. عندما يلفظني حلم خارج إطاره، بل وجدتُني داخل سراديب معتمة وطويلة، تصعد وتهبط بي طوفاناتٌ من الطمي، كادت أنفاسي تتقطع، وكدت اختنق، أخيراً رماني موجٌ طمي ٍ الى حافته، وكنتُ آنئذ ٍ محاطاً بزخم من الآثارالباذخة، أعمدة وتماثيل وأوان، وأسلحة، كانت مبعثرة بعشوائية سائبة كما لو ضربها إعصارٌضار ٍ، فوجدتني عاجزاً عن الخروج من هذا المجرى اللزج، فجأة امتدّت اليّ يدٌ وسحبتني الى الأعلى، حتماً انها يدها هي، فليس من أحد يعنى بيَ الاها، كان الفضاء يضج بضوء النهار، وأحسستُ أني لما أزل في رواق حلم ثانٍ، وعليّ أن أتخطاه الى صحو دنيا ي الساخن، فنسائم اليقظة تشعرك بدينامية الواقع ووجعه، حيث تكون فيه سلطان َكينونتك، بينما ترميك ساحة الحلم من مشهد الى آخر، ومن حياة الى سواها وأنت بلا حول ولا قوّة...