نصر جميل شعث من غزة: عن laquo;دار الرعاةraquo; للدراسات والنشر برام الله، صدر حديثًا للكاتب الفلسطيني زياد خداش، في طبعة أنيقة، كتاب نثري جديد بعنوان: laquo;كأنّ شخصًا ثالثًا كان بينناraquo;؛ وحوى ثلاثة ألوان من الكتابة: نصوص، تأملات، قصص، أو مزيج منها. وكان نشر الكاتب معظمَ ما محتويات الكتاب، في الصحف الورقيّة والمواقع الإلكترونية الفلسطينية والعربية، على مدار السنوات القليلة الماضية. والقصةالتي يحمل الإصدار عنوانها هي الأحدث (بالنظر إلى تاريخ كتابتها في رام الله 8/7/2007) من بين القصص والنصوص والتأملات الأخرى. يذكر أنّ الفنان التشكيلي الفلسطيني الشابّ جاد سليمان(مواليد طولكرم) يشارك بلوحاتٍ تشكيلية تجريدية تظهر، بشكل أساسيّ، على مساحة واسعة (بالأبيض والأسود) من صفحات الكتاب الذي بلغ 165 صفحة من القطع المتوسط، من دون أن نعثر على إرتباط، متاح بشكل مباشر، بين لوحات التجريد وألوان وحواس السرد التي يكتبها خداش بحواسّ طافحة من عجين اللغة والجنس، ومشمومة في فرن الإحتلال. حيث يأخذ الكتاب صفته كعملٍ مشترك، يقف على أسس التواصل الجغرافي، بإمكانيات فنية، على الورق، بين مدن الضفة الغربية. ليس هذا وحسب، بل إن العشرات من نسخ الكتاب وصلت، قطاع غزة، كهدايا معنوية وتواصلية مع أدباء القطاع. وبالترافق مع ذلك وصلت نسخ جديدة من مجموعة شعرية للشاعر الشابّ وليد الشيخ، بعث بها، أيضًا، لشبان القطاع. وإنه، لمن الزيادة في إيضاح المَعنَى بالمَعنَى، أن يصادفنا نَصّ للشيخ، قليل الشعر، وبعنوان laquo;وطنraquo; في مجموعته الصادرة، حديثًا، عن مركز laquo;أوغاريتraquo; برام الله، بعنوان: laquo;أنْ تكونَ صغيرًا ولا تصدّق ذلكraquo;، والمرسلة لشبان غزّة الأدباء. حيث يقول نصّ الـlaquo;وطنraquo; الصغير: laquo;كأنه/ ملعبٌ لكرةِ قدم/ بين منتخبين لعائلة واحدة./ شيء يذكّر بالنهايات/ في مسرح تابع للقطاع العامّ/ (ليسَ عندنا سوى قطاع غزة)/ الممثّلون مِِنَ الذينَ رسبوا في امتحانات مَعهد التمثيل العاليraquo;. انتهى كلام وليد الشيخ.
حكاية معلّم الفنّ المجنون:
ومن هنا، يحتلّ المكان بمستوياته السردية وإشكالياته لدى زياد خداش مساحةً كبيرةً في النصوص والتأملات والقصص. لكن يبدأ الكاتب بمعالجة المكان معالجة ذاتية انطلاقـًا من laquo;المدرسةraquo; التي يتمرّد عليها مدرّس الفنّ ويفقدها صلاحيتها بخروجه على أنماط التلقين، في التعامل مع تلاميذه ككاتب مصاب بلوثة الأدب، ويزاول مهنة التدريس. فللتغلّب على كآبة المهنة يتخفّف الكاتب من الروتين وعبء التلقين؛ بلعبه دورًا جنونيّا، وقيامه بحركات فنتازبة، على الورق، مع تلاميذه المستخدمين في نصوصه. ولأنّ أوّل غاياته التحرّر من المدرسة، ينبغي تحريرَ التلاميذ، باستخدامهم ذهنيّا، ليصبح هو وهم أحرارًا؛ وذلك برفعهم لأعلى مستويات الوعي المشبع بأفكار مستقاة من تراث الفكر عن الحرية والتحول والعود الأبدي. يظهر ذلك في نصّ متشّعب ومتداخل بعنوان: laquo;كانت تحدّثُ أشجارَهاraquo;، الذي يبدأه بسؤال: laquo;أثمة علاقة بين المرأة والشجرة؟، طلبت من تلاميذي مرة أن يرسموا امرأة، فرسم أحدهم شجرة، وآخرون رسموا ضبابًا وبحرًا وساحلا ومطرًا وبابًا، لم تهزّني في رسوماتهم سوى الشجرة- لكنّي لم أعرف في حينها لماذا طلبت من تلاميذي أن يحوّلوا رسوماتهم إلى جُمل أو نصوص قصيرة، بينما غرقتُ أنا في صورة الشجرة بحثـًا عن امرأتي فيها أو بحثـًا عن أشياءَ مبعثرةً أحسّها ولا أستطيع أن أحدّد أو أقبض على أجزائهاraquo;. التلاميذ، هنا، لم يقوموا إلا بمحاولة تجريدية برسمهم ملامح المرأة، ولكن الإدراكات الحسية والإسقاطات الآتية من القناة الذاتية والقناة الوطنية؛ جعلت مدرّس الفنّ يراهم يرسمون المرأة شجرةً أو ضبابًا وبحرًا ومطرًا وبابًا. لذلك تأتي تعريفات ملامح المرأة التي حاول تلميذ رسمها ورآها المدرس على هيأة شجرة(حياة حرّة)؛ بوصفها إملاءات (تقيدات) من كاتب على شخوصه، التلاميذ الخمسة:
laquo;سالم: هي كائن مثل الضباب غريب وينقشع بسرعة لكنه يجدد غموضه بسرعة أيضًا.
حسام: مثل البحر هي عميقة وواسعة قد يغرق فيها الرجال وقد ينجون وقد يبقون معلقين ما بين النجاة والغرق.
أيمن: مخلوق يشبه السواحل ترتاح فيه السفن أو تستعد لسفر بعيد.
عادل: إنسان يشبه الباب حين نفتحه قد نرى الجنة والنار، وقد نرى أبوابًا أخرى، فتمضي حياتنا في فتح الأبواب والبحث خلفها؟
أحمد: كم تشبه الشجرة هذه المرأة ولا أعرف لماذا وكيف؟ انتهت الحصّة، إنتهى اليوم الدراسي، انتهي العام الدراسي، ذهب الطلاب إلى عطلة الأذهان، سكنت السبورة، هدأت مقاعد الصفوف، ذهب المدرّس إلى تمزّقاته واضطرابات قراراته: هل سيعود إلى مهنة التعليم العام القادم؟raquo;. إذ يسمح ما سبق بتسجيل بعض الملاحظات؛ فمدرّس الفنّ، هنا، لا يكتب للأطفال، ولا يقوم بدوره، في تدريب تلاميذه على المخيّلة، أي لا يقول: تصوروا أنفسكم أشجارًا ( تباغتها زوبعة، ثم إعصار، ويشتد المطر، ثم يهدأ؛ بعدها تهب رياح رملية)، أو طيورًا، أسماكـًا، أسْدًا، نارًا، ماءً.. ؛ إنما هو يملي عليهم أفكارَه عن الحرية بمفهومها المكتبي، لا التربوي، وعبر مهاراته في التحوّل اللغوي، وفوضاه الفنية الذاتية، في الانتقام من نظام التدريس! وهكذا يَظلّ المدرّس يجاهد، للتحرّر من المدرسة، لدرجة أنه يضع المسألة كأولوية تسبق، لبعض الوقت، أولوية التحرّر من الإحتلال الإسرائيلي. وذلك بإيراده بيانًا عسكريّا فيه laquo;نفى مصدر مسؤول في قوات الاحتلال الإسرائيلي ينفي مسؤوليته عن اعتقال طلاب الصفّ الثامنquot;جquot; في مدرسة أمين الحسيني، في مدينة رام الله، وأفاد المصدر أنه لم يبلّغ في المنطقة عن حوادث تبرّر احتجاز طلاب مدرسةraquo;. وقد حوّل الكاتب الطلابَ إلى سمك وريح وثمر ولهب وفراشات وموج وصخر وبياض وفكرة وطير وزمن وغيم.. وما إلى هنالك من أفكار التحول والذوبان، اللفظي، في الأشياء..
إحباط النرجسية ومأزق الأنا والآخر:
كذلك، المكان عند الكاتب هو المرأة ndash; الشجرة والمدينة التي يرصد الكاتب تحولاتها أو يخلقها مشدّدًا على الارتباط المقدس بين المرأة والمدينة، كلما اتجّه خداش لمدينة القدس(مسقط رأسه) بحثـًا عن المرأة بين الحاضر والتاريخ، بين المكان وذاكرة الرجل والتاريخ، من مكان إقامته في مدينة رام الله، التي يصفها في قصة laquo;من أين الطريق إلى بيتي؟raquo; بأنها laquo;مدينة بلا روح بلا ذاكرةraquo;. حيث يتقاسم الحنين مع عين الكاميرا دورَ البطولة، في متابعة نساء الأمكنة والتفاصيل، وترقى الحواسّ إلى ذراها، كما هي عادة خداش الذي، لفرط ذلك، يسقط في نمط سردي جاهز؛ كلما ازداد انكبابه على وصفlaquo;المرأة الجميلة جدًّاraquo;. ولكن تبقى له ميّزة خاصة في تناول الأمور بلغة تقترب من الشعر وتتغذى عليه، وهذا شيء ملموس في كتاباته، لدرجة أنه في فقرات يذوب الفرق بين النثر والشعر. ولكنه يعود لكمية التفاصيل، بطريقة أحيانًا، يبدو الاندفاع والسرعة فيها إدعاءً واضحًا صادرًا عن نرجسية يحبطها خداش باعتراف صريح وشجاع له يظهر في النصّ الأول تحت فرعية laquo;المكان الثالث: قتل الأحباء في ساحة الشهداءraquo;، الذي يتذكر فيه صديقه المبدع الراحل حسين البرغوثي، وما قاله له في أحد نصوصه: laquo;مرة من المرّات، عرضتُ عليه نصّا، قرأه باهتمام كبير، ثم ألقاه نحوي، وهو يقول، كمية الإدعاء في نصكَ كبيرة، كنْ عفويّا، وأترك كائناتك تتحرّك كيفما تشاء، لا أطلب منك أن تغيب عن الوعي، كنْ في البرزخ، بين الصحو والغيبوبة.. يَصمت وأصمت مأخوذاً بصدقه، ووفائه للفنّ، ونمشي، نمشي تحت الشمس الحنون، في الساحة التي سيدفن فيها بعد أشهر قليلة سبعة عشر شهيدًا سقطوا في رام الله أثناء الاجتياح الكبير، إذ لم يجد الناس وقتاً بسبب منع التجول لدفن الشهداء في المقابر العادية، فدفنوهم هنا مؤقتـًا، ولكن المؤقت صار أبديّا، وصار الشهداء جيراناً لخطوات حسين التي مازال خداش يسمع وقعها الخافت على القسْم المُعبّد من الساحة، ساحة الشهداء.. raquo;. حيث يغرق الكاتب كناثر (وبالذات في التأملات والنصوصّ) ويفقد صوته لشدّ حضور المكان وتحولاته، كأصداء عن أصوات شعراء المكان، وهذا ما يبرر إهداء الكاتب والفنان عملهما المشتركquot; لمحمود درويش. حيث يبدو كلام الكاتب ترجيعًا لحادثة وقوع الريح عن الفرس - laquo;هنا أضاء لك الليمون ملح دمي وههنا وقعت ريح عن الفرسraquo; و laquo; سقط الحصان عن القصيدةraquo;- على لسان أحد طلابه في الصفّ الثامنquot;جquot; المختفي، وهو يسأل زميلا له في نص بعنوان laquo;حكاية معلّم الفن المجنون ذي العينين المشجرتين وطلابه الذين اخفقوا فجأةraquo;.. قائلا laquo;الثاني للأول: هل تدري ماذا يعني أن تكون حصانًا بريّا لا يفعل شيئًا سوى الركض، وظهره لا يصلح لركوب أحد سوى الريح؟ ذلك يعني سأتذوق طعم بدائية الريح، وهي تذوب في منخري، وأنني سوف أختلط في الريح لدرجة أنني سأعجز عن معرفة نفسي: هل أنا حصان أم ريح؟raquo;. وإنها لاشكّ، مفردات عن الحرية، لكنها، الآن، صدى لصوت شاعره، وبذا يكون قد أحبط الكاتب نرجسيته أو ربما حفظها بنرجسة أعلى تتردّد وتحضر على لسانه، حيث يقول الكاتب لجثّة أنيقة ممدّدة في حمّام البيت، في الرسالة القصيرة رقم(9)، من ضمن laquo;عشرين رسالة قصيرة إلى أجمل النساء المنتحراتraquo;، مهداة إلى laquo;سليفا باث الفلسطينيةraquo; (أي القضية) بأنّ النرجسيّ والمحبط الكبير أصدر كتاباً بعنوان laquo;في خضرة الغيابraquo;: laquo;سأخبرك بما حدث منذ انتحارك: قبضتُ سلفة بألف شيكل، أصبتُ برصاصة فلسطينية طائشة بقدمي. محمود درويش أصدر كتابـًا اسمه: في حضرة الغباب، لم تبتسمين؟raquo;. وتماديًا في إحباط النرجسية الفلسطينية، وتلاقيا مع laquo;سقط الحصان عن القصيدةraquo;، يسرد القاصّ خداش حكايته عن المرأة اللعينة التي قضى معها لحظات جميلة في التحاور والتهريج الجنسي، إلى أن غضّته في نهاية المطافّ من خصيته اليمني.. وحطّمت روحه تلك المرأة السافلة.. فخرج، وفي الطريق إلى بيت صديقه الطبيب laquo;مازنraquo; كان ثمة جنودٌ ومداهمات، عند اقترابه كاد أن يطلق النارَ عليه، ارتعب وانبطح وزحف على بطنه، وحين أصبحَ بينهم اشتكى لهم من ألم ما فعلته المرأة في خصيته.. ولكن جنديّـًا دسّ مقدمة بندقيته بين فخذيه، فصاح بأعلى صوته: خصيتي خصيتي، إيها الجندي الطيب.. وضحك الجنود.. ابتعدوا.. إلى أن تقدّم منه الضابط واضعًا يده على بطنه، كان وجهه مهدودًا، عيناه يتطاير منهما الإنهاك ويسيل الألم، لكنه كان يحاول أن يبدوَ طبيعيّا.. لم يفهم صاحب الخصية، الأمر في البداية، إعتقد أنّ الضابط يتهكّم على ألمه: laquo;إسمع حبيبي، لن تصدّق ما أقوله، لكنك مجبر على تصديقه، أنا من عائلة يهودية عراقية هاجرت من الرمادي، منذ سبعة أيام لم أذهب إلى المرحاض، قال لي يهودي يمني أنكم أنتم العرب لديكم عشبة قوية اسمها سنا مكي(وهي كفيلة بتدمير ثكنة المعدة، أريد العشبة الآن بأي طريقة، وإلا فلن أدعك تمرّ.. raquo; أرادَ المأكول من المكان الحسّاس laquo;أن يضحك بصوت عال لكنه لم يستطع، فالضحك يحتاج إلى صحة جيدة، لكنه تذكّر جدّته حليمة، ذات الثمانين عامًا، كانت قبل أسبوع مريضة، لكنها تماثلت للشفاء، وهي تحتفظ بكل الأعشاب التي تختصّ بمشاكل المعدة وغير المعدة، ذهب إلى بيت جدته؛ تفـاجأ بجمهرة بشرية صامتة على مدخل الدار، أفراد العائلة فرحوا بصمت لظنهم أنّ الابنَ العاقّ تغيّر وصارَ يشارك في الجنازات والتجمعات العائلية والمناسبات الاجتماعية! ماتت جدته حليمة، قبل ساعةraquo;.. فرجع، دونما حلّ، إلى الضابط الذي laquo;ما يزال، (هو الآخر) يضع يدَه على بطنه، وما أن أخبره حامل لقب الخصية المقطوعة، بموت جدته؛ حتى صفعه على وجهه، والدموع تملأ وجهيهما:
- قلت لك منذ سبعة أيام لم أذهب إلى المرحاض ألا تفهم؟raquo;. laquo;ساعدني يا أخي، أنا أتعذّبraquo; لم يستطع أيّ منهما أن يعرفَ مَن الذي نطق بهذه العبارة (المنهوش من خصيته اليمنى أم الضابط الذي تشبه معدته من الداخل كتلة إسمنتية ndash; أشبه بوضع من يكثر من تناول ثمار الصبر). الاستغاثة سمعها الاثنان معًا، يقول سارد الأنا: laquo;كأنّ شخصًا ثالثـًا كان بيننا هو الذي نطق بهاraquo;. ويبقى السؤال: هل سينجح مؤتمر السلام الذي نادت لعقده الإدارة الأمريكية، وجاري التحضير له من الأطراف، على قدم وساق، والذي من المزمع انعقاده في منتصف الخريف المقبل، للبحث في الحلول الممكنة لمشكلتي الخصية والمعدة (بيت الداء)، في جسد المنطقة العربية؟؟!!
التعليقات