quot;صيحة الحريةquot; لكارل آبيل
صيحة فنية هادئة لوضع كارثي
حسين السكاف: قرأت اللوحة منذ زمن مضى، حينها تملكني إعجاب بفكرة العمل جعلني أقف أمامه مبتسماً، فبساطة الفكرة وتلك الروح الطفولية التي جسدت خطوطها وكتلها اللونية، لها سحرها الخاص في نفس المشاهد.
منذ أيام فقط، |
صيحة الحرية ndash; زيت على القماش، متحف ستدليج، أمستردام |
وحين كنت أتصفح الجزء الأول من معجم الفن التشكيلي العالمي، التقيت بتلك اللوحة مرة أخرى. ابتسمت لها، كوني أعرفها جيداً، ورحت أقرأ عنوانها مرة أخرى، quot; صيحة الحرية quot;، وقفت قليلاً عند العنوان، وسرعان ما أدركت أن دواخلي تعتمر هموماً مضافة، فبدت على غير هيئتها كما كانت حين كنت أتأمل هذا العمل الفني الساحر لأول مرة، تبينت أن روحي مثقلة بهموم صعبة التفسير حين تبادر إلى ذهني سؤال: quot; ترى لو أراد فنان أن يصرخ من خلال عمل فني ما بوجه مأساة اليوم وما يحدث من موت جماعي وكوارث وإذلال الروح البشرية، كما حدث فترة الحرب العالمية الثانية وما تلاها من تبعات، فكيف سيكون شكل العمل وماذا سيكون عنوانه؟ quot;
كانت رائحة البارود ماتزال تغلف سماء أوربا حين نفذ الفنان الهولندي المولود في أمستردام كارل آبيل ( 1921-2006 ) لوحته quot; صيحة الحرية quot; أو نداء الحرية كما يطلق عليها البعض. كانت أوربا تحاول أن تستفيق من صدمة الحرب العالمية الثانية التي خلفت وراءها أعداداً هائلة من الضحايا ومدن كاملة كانت عامرة بناسها وعمرانها أحيلت إلى خرائب، تماماً كما هي أرواح وآمال البشر من أبناء جلدتنا في وقتنا الحالي، حرب هنا وموت هناك، مجازر ومقابر جماعية، أسرى ومعتقلون، أرامل وأيتام، قتل على الهوية ومصادرة حريات، تنظيف سجون وتعمير سجون أخرى، تبعات كوارث تشبه في حقيقتها تبعات الحرب العالمية الثانية إلى حد ما.
في تلك الفترة، أي ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، تكشفت الكثير من الحقائق عن مجازر إنسانية بشعة ارتكبها جنود ومرتزقة أصحاب القرار في أوربا بحق أبناء جلدتهم، بقيت أوربا سنوات طوالاً وهي تتلقى كل يوم أخبار كارثية كانت قد خلفتها الحرب، حينها انطلقت صيحات متعددة الاتجاهات والأهداف منبعثة من دواخل مترعة باحترام الإنسان وتطلعاته، صيحات الفئة المبدعة التي طالما وقفت بكل صلابة بوجه الحروب والشعارات الزائفة. حينها اتجهت أنظار الناس لبناء الإنسان من جديد، لذا كان الوسط الثقافي والإنساني الأوربي منشغلاً بترميم روحه وصلابتها أمام الضربات المتلاحقة التي يتلقاها عن طريق تلك الأخبار المفجعة التي كشفت كارثية ومأساة الحرب، فأنطلق خلال السنوات القليلة التي تلت الحرب، العديد من الصرخات المنادية بالاهتمام بالإنسان بدلاً من الانصياع لأوامر أصحاب القرار، فصدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وبدأ الاهتمام بمعاقي الحروب، واهتمت المنظمات بالأرامل والأطفال، وأستمر البحث طويلاً عن المفقودين والمشردين واللاجئين، وناشدت تلك الأصوات ضمان حقوق المنفيين وغيرها من الأفكار والمتطلبات، وكانت لوحة كارل أبيل واحدة من تلك الصرخات التي كشفت عن روح ذلك الصراع المرير بين المبدع المترع بهمه الرامي إلى بناء حياة مسالمة، وبين أطماع السياسي وهمه في إشعال الحروب وقتل البشر طمعاً في تحقيق رغباته المريضة.
الزمن المقروء في لوحات كارل آبيل يعتمد موضوع اللوحة لا أسلوبها، فالتعبيرية التجريدية التي ميزت أعمال كارل آبيل لسنوات طوال والتي امتدت حتى وفاته في بروكسل عام 2006، منحت القارئ حيزاً مهماً خالياً من متاهات تعدد الأساليب كما هو معروف عن العديد من الفنانين التشكيلين الذين عاصرهم هذا الفنان. فأسلوب لوحة quot; صيحة الحرية quot; التي رسمها عام 1948، نجده ذات الأسلوب بعد خمسين عاماً كما في لوحته quot; الحنين إلى بوق لطيف quot; التي نفذها عام 1998.
العنوان له دلالته الواضحة، فالعمل quot; صيحة الحرية quot; يدل على أن هناك استلاباً واضحاً لحرية الإنسان آنذاك، كيف لا، وقد سلبت الحرب وسجون من صنعها أرواح وحريات مئات الآلاف من الشبان الذين طحنتهم ماكينة الحرب دون أن يختاروا ذلك المصير المفجع؟ أما الذين نجوا بأرواحهم |
كارل أبيل |
فقد عاشوا بأمراض وعاهات لم يبرؤا منها حتى أيامهم الأخيرة. تلك الصورة الكارثية وغيرها من الصور المؤلمة كانت تشغل تفكير المبدع الأوربي كي يطلق صيحته بوجه من رسم ملامحها القبيحة، وما كان من كارل أبيل إلا أن ينصاع لنداء روحه في إحدى المساءات ليضع خطوطه وكتله اللونية على قماش لوحته، ويرسم طائراً جميلاً بوجه قريب الملامح من الملامح البشرية وبألوان زاهية تماماً كما هي أفكاره وتطلعاته.
وفي نظرة متأملة للعمل نجد أن أول ما يلفت انتباهنا، هي تلك الخطوط السوداء البارزة بشكل ملفت للنظر التي شكلت العينين والأنف والفم الذي جاء على شكل مثلت يتوسط التكوين تماماً، ليجسد مركز الصيحة ونقطة انطلاقها، صيحته الخالية من أي ملمح من ملامح التشنج. جاءت تلك الخطوط قاطعة الإيقاع اللوني لبقية ألوان الوجه كي تقود المشاهد إلى انتباه أكبر يدله إلى أفق الرؤيا الواسع من خلال العينين وقوة الكلمة المنطلقة حيث الصيحة وثباتها. أما تلك الانحناءة أو الاستدارة في محيط الوجه يسار اللوحة، والتي تشكل استدارة وجنة مرتفعة، فقد منحت الشكل مسحة جمالية من خلال التواءة جميلة وخفيفة للرقبة، التواءة محسوسة غير موجودة فعلياً في التكوين فالرقبة غير ظاهرة للعيان. وبالمقارنة بين حجم الرأس وبين حجم الجسد الذي أتى أقل منه نسبياً، يتضح لنا أن هذا التباين يمنح التكوين حركة تعطي للصيحة بعداً إنسانياً واضحاً، حين نتصور أن الرأس متقدم إلى الأمام ليوصل صيحته إلى أقصاها بينما يقف الجسد منتصباً إلى الخلف على ثلاث أرجل بعكس ما هو معروف عن الطيور، ربما تعمد كارل آبيل ذلك ليخرج التكوين من مفهومه التقليدي. أما اليد اليمنى للطائر أو التكوين، فإنها تعطي ثقلاً هي الأخرى لو تصورنا أن الجسد بالكامل مستند إليها في حركته لتكون هي والوجه بنفس المسافة بالنسبة للمشاهد. الجسد بلونه الأزرق يأخذ بكل تأكيد شكل جسد الطير، وهذا يتضح من خلال تتبع انحناء الخط في يسار اللوحة ليكوّن الصدر حتى النهاية المثلثة التي تعطي شكل الذيل. أما المثلثات أو المسننات الثلاثة المنتصبة فوق الجسد فقد جاءت لتصور الجناح في حالة تأهب لرفع الجسد ومن ثم التحليق، الجناح بلونه البرتقالي الوهاج، تأكيداً صريحاً على أن التكوين يعود لطائر ابتكره الفنان ليعمق فكرة الحرية المنشودة بأسلوب لا يخلو من أساليب الأطفال في الرسم.
المتأمل لهذا العمل سرعان ما يكتشف أن هناك خطين نازلان ابتداء من نهاية الأنف حتى الذيل جهة اليسار بالنسبة للمشاهد واليد جهة اليمين ليشكلان مثلث الجسد ويمنحان المشاهد بعداً آخر لامتداد جسد الطائر حيث الرقبة والرأس. الخطان في مساحة الوجه وقبل ظهورهما الواضح ليشكلا الجسد، يظهران كما هي الخطوط المخفية المتبعة في الرسم الهندسي التي تعتمد إظهار الأبعاد الهندسية الخفية للشكل.
وباستثناء العينين المستفزتين والأنف ومستطيل الكف اليمنى، فأننا نلاحظ أن التكوين قد تشكل من مثلثات متلاصقة متباينة الألوان والأحجام. وتعدد أحجام المثلثات وألوانها البهيجة في مساحة الرأس أو الوجه كما هو واضح، ما هي إلاّ دلالة تعبيرية واضحة على ما يحمله ذلك الكائن من أفكار وأمنيات وتطلعات تنشد الحرية والطمأنينة لا الظلم والحروب والموت.
تلك كانت طريقة ذلك الفنان المبدع في التعبير. الوقوف بوجه الطغيان، وهول الكوارث، باستخدام سلاح الجمال والفن والأمل والحب، فاللوحة على بساطة أسلوبها، تكتنز بعداً تعبيرياً صارماً لا ينقصه التحدي والإصرار.
درس كارل أبيل للأعوام 1940-1943 في الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، تغير أسلوبه بعد أن اطلع على الأعمال المعبرة للفنان الفرنسي جين دوبوفيت التي أخذت جل اهتمامه. كان لأسلوبه البدائي في التعامل مع الصورة والذي تمسك به حتى أيامه الأخيرة، يشكل تناقضاً كبيراً مع الأساليب التقليدية الغارقة بقوالب الشكل الهندسية السائدة في أوربا آنذاك.
والفنان كارل أبيل، فنان يمتلك تاريخاً فنياً له أهميته الخاصة، فهو أحد مؤسسي quot; حركة الكوبرا الفنية quot; التي تعد واحدة من أهم حركات الفن العالمي عموماً وأوربا خصوصاً، وكما هو معروف فقد شاركه في تأسيس تلك الحركة فنانون كبار مثل الفنان البلجيكي بيير أليشينسكي والدنماركي أسكر يورن والهولندي كورنيلي وغيرهم، وقد تشكلت تلك الحركة الفنية والأدبية عام 1948، وهو العام ذاته الذي نفذ فيه آبيل لوحته quot; صيحة الحرية quot;.
والمعروف عن quot; جماعة الكوبرا quot; أنهم اتخذوا أسلوباً خاصاً في إنتاجهم الإبداعي يعتمد العمل والرسم بشكل غير مقيد أو تابع لشكل فني تقليدي. كان عملهم ينصب على العفوية التي يمتاز بها الأطفال في تنفيذ أعمالهم ورسوماتهم، بألوانهم العنيفة وتطبيقات الطلاء الكثيف. فقد استلهمت تلك الجماعة من رسومات الأطفال والفنون الشعبية وفنون الإنسان البدائي، فكرتها الأساسية. وصارت تتبنى بل وتمجد الفطرة في الفن، نابذة كل أشكال التقيد والأفكار التي تضع الفن ضمن قوالب فكرية خاصة. لذا فلقد التزمت حركة الكوبرا أسلوب التعبيرية التجريدية أسلوباً أساسياً مميزاً لها.
تبقى لوحة quot; صيحة الحرية quot; علامة مميزة بأهميتها الخاصة في تاريخ الفنان كارل أبيل الشخصي، تماماً كأهميتها التاريخية وهي تصور لنا أملاً ومطلباً إنسانياً ملحاً لحقبة زمنية معينة، ذلك المطلب أو الأمل المنشود، جعل من هذا العمل الفني، عملاً حياً وفعالاً بدلالته ومطلبه حتى يومنا هذا أو لحقب زمنية قادمة، فماتزال الحرية مطلباً ملحاً.
[email protected]
التعليقات