عبد الرحيم الخصار: نشرت جريدة الشرق الاوسط قبل أيام حوارا مع محمد بنيس كان عنوانه الرئيسي: quot;لا حاضر لي ولا مستقبل في المغربquot; قال فيه بالحرف: quot;إنني ممنوع من النشر في الصحافة المغربية. ممنوع لا من طرف السلطة بل من طرف الذين يدعون الدفاع عن الديمقراطية (والحداثة). واستمراري في الكتابة يعود الفضل فيه لخارج المغرب، عربيا ودوليا. وتشبثي بهذه المواقع مقاومة لانسداد الأفق في المغرب. لا حاضر ولا مستقبل لي في المغرب. أعرف هذا جيدا ولا أطلب من أحد شيئا.quot;
يبدو هذا الكلام مبعث دهشة واستغراب، فمحمد بنيس بعد تاريخه الطويل مع الكتابة وما يدور في فلكها يشكو من التهميش والإقصاء وانغلاق أبواب النشر، ويجد نفسه اليوم غير مرغوب فيه.
يحدثنا بنيس في هذا الحوار عن quot;المرض المشرقيquot; بعقلية الضحية والجلاد، ألم يكن هو أحد المساهمين في انتشار هذا المرض الذي قد يبدو لغيره صحة وعافية؟ دعونا نعود قليلا إلى الوراء، حين أسس بنيس مجلة الثقافة الجديدة سنة 1974- طبعا لا أقصد مجلة الثقافة الجديدة التي أسسها الشيوعيون في العراق سنة 1953- حولها إلى صالون يجلس على معظم أرائكه أولئك الكتاب quot;الكبارquot; من المشرق الذين ينتظر منهم أن يبادوله النشر بنشر، أولئك الذين عول عليهم كثيرا كي يصبح كاتبا quot;عربياquot; ومن ثم quot;عالمياquot; وحين أسس دار توبقال سنة 1985 كانت أول الكتب الأدبية والنقدية ليمنى العيد وجيرار جينيت وباختين وكوهن وبورخيس وكان أول ديوان شعري تطبعه دار توبقال في الدار البيضاء هو ديوان الشاعر العماني سيف الرحبي سنة1986، في وقت كان من المفروض أن نقرأ شعراءنا المغاربة المميزين الذين يقضون معظم أوقاتهم في مقاه قريبة من مقر دار توبقال،من الغريب حقا أن محمد بنيس نشر سنة 1989 ديوانا شعريا لشاعر تونسي شاب من مواليد 1964 اسمه باسط بن حسن فيما غض الطرف عن فئة رفيعة من شعراء المغرب تنتمي إلى جيله والجيل الذي يليه.
كرس بنيس تلك الفكرة التي يسميها اليوم quot;مرضاquot; حين ترك الأعمال الأدبية الرصينة في المغرب وشرع ينشر الدراسات النقدية التي تنهل من النقد الغربي أساسا كأنما يؤكد أن هذه الجهة من الأرض تنتج فقط في النقد والفكر والترجمة، من المؤسف حقا ألا نجد أعمال شاعر مغربي كبير اسمه محمد السرغيني في دار توبقال، السرغيني الذي دأب على نشر أعماله في أمكنة صغيرة وسرية، لا أريد طبعا أن أتحدث عن حالة الشاعر الكبير محمد بنطلحة الذي ابتعد عن بنيس حين أرهقته بنيسياته، لم تنشر دار توبقال quot;الفروسية quot; أحد الدواوين الشعرية الأساسية في المغرب فقط لأن صاحبه الشاعر الراحل أحمد المجاطي لم يكن يتحمس لشعر بنيس يوما ما، وهذا الاحساس الذي كان يحسه المجاطي تجاه بنيس هو في الحقيقة موقف يشترك فيه جل شعراء المغرب من السابقين واللاحقين وإن كان بعضهم يجامل ويداري خوفا على مصالح وهمية ضيقة.
كرس بنيس أيضا هذه الأزمة حين قضى حياته كلها يقلد أدونيس في كل شيء، وهاهو اليوم يقلده حتى في مشاعره، فأدونيس صرح بالأمس أنه غير مقروء بشكل جيد في العالم العربي، وبنيس يصرح اليوم بكثير من التطرف أنه ممنوع أصلا من النشر في المغرب.
أليس بنيس هو نفسه الذي تحدث قبل 23 سنة مع أحمد فرحات في حوار نشر ضمن كتاب طبع بلبنان عما سماه quot;العشق اللاواعي للشرق الذي لا يمكننا من دونه أن نوجدquot;؟ ما الذي وقع اليوم؟ هل تغير الوعي؟ أم تغير سياق وطبيعة المصالح؟
إنني أخجل من أن أخبر القارئ العربي والمغربي على الأخص أن بنيس قال بالمكتوب أن كل ما كتب قبله من شعر هو مجرد عفن، هذه النظرة الاستعلائية لكل ما يوجد داخل الحدود المغربية وسمت حياة الرجل ولم يكن يربطه بالمغرب في العمق والجوهر سوى إقامته بمدينة المحمدية.
خلال التسعينييات ظهرت مجموعة من التجارب الشعرية الفردية والجماعية بالمغرب كان على بنيس أن يكون ذكيا بعض الشيء ويحتضنها أو يومئ لها ولومن بعيد بقليل من الحب غير أنه ضيع تلك الفرصة ليضيع بالتالي على نفسه محبة جيل برمته.
لم نصادف أن وجدنا بنيس يذكر بخير شاعرا مغربيا، والذي كان يتحدث بحب عن شعرائنا المغاربة هو سعدي يوسف quot;العراقيquot; وأدونيس quot;السوريquot; ومحمود درويش quot;الفلسطينيquot;، بنيس الذي يخبرنا أنه ممنوع من طرف أدعياء الحداثة، أسأله فقط من هم أدعياء الحداثة في المغرب الذين يمنعونك؟ ويمنعونك مماذا؟ أية مجلة هذه وأية مؤسسة أو جهة ثقافية تمنعك؟ الحداثيون اليوم في المغرب وخلفهم كل quot;الأدعياءquot; لا يجدون مجرد صفحة ثقافية واحدة ينشرون فيها نصوصهم فكيف سيمنعونك؟ الكتب الأكثر انتشارا في المغرب وفي العالم العربي هي كتب بنيس، ولم يتمكن أي كاتب من كتابنا المغاربة الكبار أن يطبع نسخة واحدة فاخرة من كتابه كما فعل بنيس، الغريب في الأمر أن الذي يشكو من المنع من النشر هو نفسه الذي طبع ديوان وزير الثقافة السابق محمد الأشعري، ليس هناك في المغرب سوى ثلاثة ملاحق ثقافية أهمها هو الذي تصدره جريدة الاتحاد الاشتراكي التي كان بنيس ضيفا مكرما فيها، وحين صدر الملحق الثقافي لجريدة أنوال في الثمانينيات كان العدد الأول قد أفرد صفحتين لشعر محمد بنيس، ليس هناك سوى مجلات قليلة جدا أهمها مجلة اتحاد كتاب المغرب ومجلة وزارة الثقافة والمجلة التي يصدرها بيت الشعر نفسه، وبنيس دائما يحتفى به هناك وفي كل مكان، يتنصل بنيس اليوم من كل نعمة مغربية ناسيا أن الذين وزعوا كتاباته قبل أربعين سنة هم طلبة الجامعة المغاربة الذين كان يدرس بينهم، نسي أيضا أن الذين قدموا المائة مليون من أجل مهرجان شعر أوربي في الدار البيضاء تحول فيه شعراؤناquot;المحليونquot; إلى مجرد جمهور هم دافعوا الضرائب المغاربة، نسي أن الذين يقومون سنويا بأبحاث جامعية في كتاباته هم الأساتذة والطلبة المغاربة، نسي أيضا أن الذين يكتبون في القدس والحياة والنهار والخليج عن منشورات داره هم الكتاب والصحافيون المغاربة الذين ينشر في موقع الدار مراجعاتهم دون ذكر أسمائهم، ويكفي أن يعود أي متتبع إلى الموقع الالكتروني ليحاول أن يجد تفسيرا واحدا لهذه الظاهرة الغريبة. وربما نسي أيضا ان الذي أنجز معه هذا الحوار لصالح جريدة الشرق الأوسط هو شاعر مغربي اسمه جلال الحكماوي.
يترجم اليوم محمد بنيس quot;رمية نردquot; لملارميه معتبرا ذلك إنجازا تاريخيا، قد يكون الأمر كذلك رغم أن المغاربة والجزائريين واللبنانيين والسوريين ومعظم قراء ومثقفي العالم العربي ربما قد قرأوا القصيدة بالفرنسية في القرن الماضي، وربما هم كانوا في حاجة لمن يترجم لهم نصوص كاتب مغربي كبير اسمه محمد خير الدين، خير الدين الذي تنصل منه حتى أصدقاؤه المقربون الذين عاشوا بداياته ونجاحاته، ولا أريد هنا أن أستعيد احتفاء سارتر وبيكيت وبروتون وحشد من كبار مثقفي فرنسا والعالم بهذا الرجل المغربي الذي لا نعرف اليوم لماذا لا يريد أحد أن يترجم أشعاره إلى العربية.
لا يختلف اثنان في كون محمد بنيس أحد القامات الكبيرة في حقل المعرفة الثقافية، لكن الثقافة العالية نفسها بحاجة إلى بعض المشاعر العالية والموازية التي تتيح لنا نحن كقراء ومتابعين أن نتشبث بكل رمز من رموزنا الثقافية وأن نتحول إلى دروع تحميه من سهام الحقيقة ومن سهام الوهم أيضا.
لا أجرؤ أن أرفع عيني إلى مثقف من مثقفينا الذين تحتاجهم هذه البلاد، كل ما أريده هو أن يمارس بنيس نوعا من النقد الذاتي وأن يبحث عن الأسباب التي تجعل المرء يعيد النظر في مجموعة من المفاهيم، الأسباب التي تجعل الكاتب يجد نفسه في وضع لم يكن يفكر فيه.
لا أريد أن أفتح درج الوجع على أحد لكنني أود أن أقول في النهاية: إن الذي يريد أن يكون له حاضر ومستقبل في المغرب يجب أن يحب المغرب، أن يمنح الحب للناس كي يحظى به.

كاتب وشاعر من المغرب
[email protected]