quot;وما أنا بالإضافة اليه، الاّ مثلك بالإضافة إليّ quot; (السهروردي)

الورقة الاولى
مقتطفات غير متسلسلة من بعض قصائده المفقودة، وقد أستخدمها الكثيرون بعد وفاته، وكأنّها من بنات أفكارهم وصنع مخيلتهم:

* أنا مدينة ٌ لاتنام
بلا كمشة حبوب

* ناداني من بين الأمواتِ
وقال لي: إنهض
فأنت أجمل الأحياء

* جدول الدم
الذاهب
الى
فم
الساحرة...
تلك
هي
حياتي

* إن كان عليًّ
أن أحيا مجبرا ً
ستجدني ذات يوم ٍ قتيلا ً
في الوديان البعيدة

الورقة الثانية
خانه الجميع الاّ قصيدة النثر التي لم يكتب سواها، بأدوات فنيّة مكتملة، وشعريّة خالصة. ولم يبتغ من القصيدة شيئا ً، لانجومية ولا شهرة ولا جاه، حتى انّه لايتحدث عن الشعر، بل يكتبه فقط، كبديل وجودي معادل للألم والغربة والتشرّد. لا يبحث عن أماس ٍ كما يفعل الشعراء، ولا عن مهرجانات أو جوائز، ولم ينشد قصائده الاّ مراتٍ معدودة أمام الجمهور طيلة حياته. خانته بلاده أولا ً، بقسوة خرابها وحروبها وتحالفات أحزابها، و بإيغالها العميق في الانفاق المظلمة، ولعبة المتاهة القبليّة. خانته المنافي قاطبة ً، وكذلك غياب الوجدان الابداعي والانساني الجمعي، عند أبناء بني جلدته من الكتّاب والشعراء والمثقفين عموما. فعاش بلا بيت ولا عمل ولا ايّ احتمال ٍ بوطن ما على الطريق. كان يستعير قلما ً من أقرب شخص ٍ في مقهى ً أو حانة، ويستلّ دفترا ً صغيرا جدا ً من جيب قميصه، ويكتب مفاتيح قصيدته، أو يرصف الأسئلة أمام مغاليق حياته، الذاهبة بمتعة السحر الى المجهول،. لذا كان اسم صحيفتهم التي أطلقوها في بيروت تدعى - الرصيف - (هو وعلي فودة ورسمي ابو علي)، وهي مسمّى إنتماء، أكثر منه اعلان صحافي في بلاد الصحافة. ثم سرعان ما اجتاحت حياتهم الجيوش والحروب والمقابر والمليشيات المتعددة الجنسيات، فنزح آدم حاتم مع من نزح الى دمشق، ليقذف بحياته في بحر من الخمور الرديئة ومرادفاتها، وكان كلما يصيبه السأم من هذه العاصمة، يذهب الى بيروت متسللا ً من بين الاشجار، ليعود متسللا ً أيضا ً بعد أشهر الى دمشق وهكذا، وكان يحمل معه كلّ ممتلكاته، التي هي عبارة عن حقيبة جلديّة مستطيلة، بنيّة اللون، توضع تحت الأبط، وقد تحوّل لونها الى الأصفر، بحكم عوامل السفر هذه والزمن هذا، ولم يكن بداخلها سوى قصائده، موزعة بين دفاتره الصغيرة جدا ً، وقصاصات أوراق، وصور عن قصائده المنشورة في صحيفتي السفير والنهار اللبنانيتين. تلك الحقيبة، هي التي سُرقت من بعد أن خانه جسده، فكان السارق والموت وجسد الشاعر هم آخر الخونة، ولايمكن التفريق بينهم، رغم ان سارق حقيبة الشاعر أكثرهم قسوة ً، لانّه قد اغتال حياته مرة ً اخرى، بفعل تغييب نصوص الشاعر، التي سفك أعوامه وهو يكتبها، من أجل ان تكون ذكراه وذاكرته وهويّته الابداعية والانسانية، لكنها سُرقت بكلّ بساطة، باعتبار ان لا أحد سيعير أوراق الشاعر آدم حاتم شيئا ً، ما دامت حياته بينهم، لم يعرها أحد شيئا.
نكرّر شكرنا اليوم لبلديّة صيدا التي دفنت الشاعر، بعد ان غاب عنه الوعي لاربعة أيام في مستشفى (الهمشري)، وعلى مقربةٍ منه كانت الاحزاب العراقيّة تعقد مؤتمرها في بيروت، تتفاوض مع السيد الاميركي على مستقبل الانسان العراقي، وحقوقه في بلادٍ سيصبح اسمها فيما بعد بلاد ما بين الطائفتين، بكل شفافيّة ٍ وأريحيّة، وبكامل الوعي والاستعداد للبيع على بياض، بينما كان رجال البلدية في صيدا يقودون جنازة الشاعر العراقي الى مثواها الاخير، حيث لم يسأل عنه، أو يستدلّ عليه أحد، فدفن من دون شاهدة أو تعريف، كما حياته بين المنافي.
هو الشاعر آدم حاتم، واسمه سعدون حاتم الدراجي 1957 -1993، غاب عن الوعي في التاسع عشر من هذا الشهر، إثر مشادّة مع شخص مجهول، ألقاه هو والكرسي على قفا رأسه، وكان مخمورا ً ومنهكا ً، وفارق الحياة في الثالث والعشرين من ذات الشهر حسب ما وردنا، وثمة من يروي انّه دخل المستشفى في السابع عشر وتوفي في الحادي والعشرين منه.
يشترك مع الشاعر بدر شاكر السيّاب بتعلّقهما المفرط بالعراق، كما يشتركان بالبصرة، وبأنّهما من جيل واحد في تاريخ الوفاة أو الحياة، لافرق، مادام كلاهما في منتصف الثلاثينات من العمر تقريبا ً، وباعتبار ان الموتى لا يشيخون، فهما أكثر يفاعة ً منّا جميعا ً.


الورقة الثالثة
موت آدم، مرثيّة المعصية الاولى، وبريق العقوق المتوارث.
موته، سيادة اللهب بين مستعمرات الثلج المذهبيّة، وجسارة الغريق في لجّة نهر من الخمر الوطني المغشوش، الذي لم يتجرأ قباطة السياسة والثقافة معا ً من استنشاق عطره فقط، وليس العوم فيه.
آدم، تابوتنا الأزلي، المتحرّك، منذ نصوع المهزلة في حضرة الدم العراقي، الذي يا للغرابة، ما زال أحمرا ً، كدم الآخرين. آدم، صفحة من قاموس إستغفال الشعر العراقي، منذ حشرجة السيّاب مرورا ً بالصافي النجفي والكاظمي عبد المحسن ومصطفى عبد الله والحصيري وجان دمو وسركون وعقيل علي، وليس انتهاءاً بآدم حاتم أو آخرين، ما دامت الكولسة والصوت الواحد يتسيّدان مرآة التجربة، في مسيرة انتحارنا الفردي والجماعي. وما زال العبث قاسمنا المشترك الأعمى في طغيان اللاجدوى.
حضارة معتّقة، وملايين النخيل، ونهران مهيبان، يقتسمان البلاد، لكنّ ابنائها يموتون في منافي البلدان الاخرى، في الاقبية الرطبة والمقاهي والمستشفيات!
بترول وغاز وكبريت، سال من اجله لهاث الصواريخ والطائرات، وليس هنالك من نقطة دفء لابنائه المبعثرين تحت برد السماوات السبع! ليس لانّ جبل الخيبة مغطى ً بكثافة الابيض، بل لانّ المقبرة هي الاوضح والايسر، وما زال تدفق الدم برهان الفضيحة، وأناقة المتحدثين باسمها كذلك. موت الشاعر بهذا الاهمال، شتيمة طفوليّة لشيخوخة التاريخ والمدن والمدنيين، لرعونة الداعي والمدّعي، والحاكم والحاكم بأمرهم. وفي غابة الخذلان هذه، لم يتبق سوى الشاعر، ممثلا ً لزهرة الخسارة الزرقاء، في غمرة يباس حدائقهم.
موت الشاعر، شهقة السرو الاخيرة، قبل هطول المطر، واضمحلال السؤال خلف جبال الفضيحة.

الورقة الرابعة:

مقتطفات حياتيّة:
1 - لأكثر من مرّة، استجمع له بعض معارفه من العراقيين، في الدنمارك والسويد وسواها، مبلغا ً من المال يكفيه لمغادرة دمشق أو بيروت باتجاه احدى الدول الاسكندنافيّة، فكان حال وصول المال، يقطن في فندق، ويدعو معه للإقامة ايضا ً مشرّدا ً آخرا ً، ويشتري ملابس جديدة، بعد ان يلقي بالقديمة كعادته، ويرتاد المحال التي كان بودّه إرتيادها، وهكذا حتى نفاذ النقود، واضطرار صاحب الفندق لطرده.. فسألته مرّة ً: لمَ لم تسافر وتخلص بحياتك، ما دامت أجرة الطائرة وقد أصبحت بحوزتك؟ فأجابني: هاي شبيك، وين أسافر، آني هنا ميّت من البرد، شلون بالسويد؟ فضحكنا وأغلق الموضوع
2- كانت تشغله أشياء لا علاقة لها بالسياسة أو الأدب، فكثيرا ً ما كان يقف أمام محل بيع الذهب، متأملا ً لفترة طويلة الاساور والخواتم، وهو يدخن بعمق، في استراحته بين حانة ٍ واخرى، فسألته عن سرّ تأمّله الغريب هذا، فقال: فعلا ً غريب، انّه كيلو ذهب فقط، بنفس وزن كيلو البصل أو الفجل، لكن كيلو الذهب يجعلك تتنعّم بحياة أمير لفترة ٍ ما. ومرّة ً استوقفني لننظر معا ً في محل لبيع الاحذية النسائيّة، وهو يلحّ بالتفحّص والدهشة، فسألته عن سرّ هذا الاهتمام المريب، فقال: انظر كم هو رقيق جلد الحذاء النسائي، وكم هو دقيق، لكنّه بذات الوقت قادر على حمل أجساد وأوزان مختلفة من النساء، ولفترة طويلة، بينما ليس هنالك أكثر سماكة ً من جلد حذائي هذا، لكنّه يهترئ خلال شهرين لا أكثر.
3- ذهب مرّة الى بيت أحد الشعراء العراقيين، وكان وقتها قد استلم جائزة عويس الماليّة، وحاولت ثنيه عن فعل ذلك، لتوقعي مسبقا ً بالنتائج، لكنه كان عازما، وحين التقيته في المساء، وسألته عن غنائم الغزوة، فقال ضاحكا ً: كان شاعر الجائزة ينظرني من خلال عين الباب السحريّة الصغيرة، فأراه ويراني، ولكنه لم يفتح الباب، رغم طرقي المتكرّر.
4- أحبته على أن يتزوجها، امرأة دمشقيّة تملك قصرا ً كبيرا ً، وأسكنته معها في جناح خاص من البيت، ولا نحبّذ ذكر اسمها هنا، لكنه كان يتذكرها فقط حين يطالبه النادل مساءا ً بتسديد الحساب، فتحضر لفعل ذلك بعد أن تأخذ فنجان قهوة، وحين سألته: لمَ لا تتزوجها، أجاب: أنا لا أمُثل طموح ضفدعة، فكيف بامرأة ٍ مثلها؟
فطردته ذات ليلة، وطالبته بتسديد الديون، وفي اليوم التالي جاءني بقصيدة مهداة اليها، نشرتها في احدى الصحف الثقافيّة، وجاء في الاهداء (ستأتيك ديون الارض والسماء)، وهي من النصوص المفقودة ايضا ً.
5- في آخر مرة قبل رحلته الاخيرة الى بيروت، نهض من على طاولة تجمعنا، باتجاه شاعر عراقي (كبير) آخر، ليأخذ منه بعض المال ليعينه برحلته الى بيروت، وحاولت ثنيه بذات اللحظة، ولكن عبثا ً، وكان مطلبه أقل ّ من عشرين دولار، فعاد خائبا ً ومتوترا ً، بعد أن أجابه الشاعر (الكبير) بان ليس معه ليرات محليّة. غادر آدم بعد يوم متسللا ً الى بيروت، ومنها الى المقبرة.

الورقة الخامسة
وجدت بين اوراقي القليلة، نصّا ً للشاعر آدم حاتم، مكتوب بخط يده، بعنوان (على الارض السلام)، وعلى ما أذكر هو ذات النص المعنون (بيان اليأس)، وهو آخر ما كتبه، وسندرجه هنا لما فيه من قراءةٍ مبكرّة لاحداث العراق ndash; بلد الشاعر، رغم ان النص مكتوب عام 1992:


على الارض السلام


هذا هو الليل:
ليلنا الذي نثرناه على الجميع
حديث الظلام وحده ُ
يؤرّخ جميع الفصول.
ظلامنا هو الموسوعة اللائقة لقياس حجم جزعنا وعصياننا
ضدّ الأباطرة الذين خلقوا للإنسانيّة تاريخ خرابها القادم.
من ليلنا هذا
ودمنا الملقى على وجوههم
سنصنع فجرهم المكلّل بالعار
نحن لم نرفض هذا الظلام المرعب، بل قبلناه
ليدخله الجميع ستارا ً قادما ً خلف ستار
مذبحة تنجب مذابح
وكأنّنا عندما أردنا أن نتلو عليهم سورة الصباح، قالوا:
انّ صاحبكم مجنون، وها هم:
سلفيّون، عتاة الاحلاف القديمة
كردٌ ذهبوا الى التيه بمحض إرادة مأجور ٍ أو معتوه
عرب ٌ رأوا في كسرى المخلّص والمنقذ
تركمان يعيدون نسخ صورة أتاتورك، والى جانبه صورة تركيا الفتاة
على انّها خير وسيلة ٍ للنجاة من الوطن.
أشقاء ٌ انتظروا هدايا الفاتحين، فكانت أضابير كبيرة
تطالبهم بنسيان ما تبقى من أوطانهم وشرفهم.
دعاة الدين ورعاة ظل ّ الله على الارض
لم يأخذوا من ذكريات انتصاراتهم علينا
سوى صور عاهرات ٍ يتسكعنَ تحت جدران عتباتنا المقدسّة.
غزاة مارقون، دفنوا الجريمة كاملة ً تحت ظلال مظلاتهم التي
تحمل القوت والدفء إلى الضحايا، الذين أصبحوا ضحايا لضحايا
يحاولون ترميم ما تبقى من سور الوطن.
كيف سيكون الانكفاء غدا ً
حين تجتمع على الجريح
هذه الحشود من الطعنات؟
اذن هو الليل
الذي سنكون جميعا ً شركاء فيه
حتى يضحك الغزاة
الذين بهرهم حجم هزيمتنا
فملأوا ممرّات الجبال بأرتال الصدقة
للهاربين من وجه الوطن.
هو ليلنا الذي لن يرحم أحدا ً
حتى قيامتنا التي لن تقوم
إلاّ على جثث الذين تواطأوا
وعملوا على صناعة هذا الظلام الموحش.
أيّ كلام ٍ يستطيع الإحاطة بحدود هذه الفضيحة الفجّة؟
ومن الذي يمتلك تلك المناقبيّة والحصافة، ليدلّنا على ما
وصلنا إليه من ركاكة ٍ في التعبير؟
انّها كلمات ٍ خاوية، عقيمة وجائرة
ولكن لا بأس من أن نعود الى هذا الليل
الملطّخ بالدماء والفجيعة:
ليل العراق الذي وقع في حندس الفخاخ التي نصبها صاحبنا
وأبناء عمومتنا، ومن وراءهم مهندّس المجزرة
يضحك بعينين زرقاوين.
أخيرا ً
شكرا ً من سلالة الوعي الاوّل، والحكمة الاولى
شكرا ً من سلالة اللهب القديم، والحرف الذي علّمهم الصلاة
شكرا ً لآل عدنان وقحطان، ومن عليهم، أو معهم،
من الذين شاركوا بتشييع طفلنا الخالد
طفلنا الحي ّ: عراق.