نساء رؤيا رؤوف
الإيمان بالخلاص رغم الخوف

منير العبيدي: مشكلة الوجود و كينونة المرأة عموما و في المجتمع الشرقي على وجه الخصوص من وجهة نظر المرأة نفسها، والتي تحاول رؤيا رؤوف في أعمالها الأخيرة ان تطرحها برؤية جديدة، هي مبدئيا ذات مستويين من التعقيد. هذان المستويان يلزمان الباحث الغوص فيما هو غير معلن، ويمليان عليه تأويل وكشف المُرمَز، المموه، المخفي والمسكوت عنه، مما يكرهه على أن يقرأ ما بين السطور ويرى ما لم تشأ الفنانة أن تشير إليه صراحة أو أن ينظر الى ما تسلل الى المنتج الإبداعي خلل العفوية والتلقائية الإبداعية. واذا ما كانت المرأة هي المرأة في الكثير من وانب حياتها ومشاعرها ودرجة اغترابها بغض النظر عن الزمان والمكان والذي لا يلعب سوى دور جزئي في تحديد الموقف الجمعي منها، فإن المرأة الشرقية على وجه التحديد و بسبب المعاناة الطويلة و بسبب قائمة الممنوعات و طول المكوث في الظرف السالب للحرية قد لمحت دائما الى مشكلتها الوجودية طارحة إشارات و ترميزات quot; مضافة quot;، هذا عدا الترميز quot; الطبيعيquot; الذي يمليه التعبير الإبداعي نفسه على اعتباره لا يقبل التقريرية و السردية و المباشرة. هذا الأمر، أي تعدد مستويات التعبير و تشابكها و اغتراب وسائلها التعبيرية عن الواقع بشكل متزايد، لم يكن مقتصرا على الفن التشكيلي بل شمل كل الأشكال الإبداعية ( النسوية ) بالضرورة و ضمن ذلك إبداعات المرأة في المجالات الأخرى كـ: النثر، الرواية، القصة و الشعر..الخ. بل ان القضية الوجودية للمرأة لدى المرأة المبدعة، حين تكون هي نفسها المبدع و هي نفسها موضوع الإبداع، قد جعل العمل الإبداعي النثري أو التشكيلي يتمظهر بثلاث مزايا:
1 ـ اقترابه من المنولوج. فحين تكون المرأة هي المبدع وهي، في الوقت نفسه، بطلة الموضوع فإن العمل يعبر عن شكل من أشكال المنولوج ( الحوار مع الذات )، على أن الحوار هذا لا يمثل دائرة مغلقة و إنما هو يطرح كحوار مفتوح على المشاهد كطرف آخر و فاعل فيه.
2 ـ الإغراق في الترميز و التلميح حد الوصول الى درجة لا يستهان بها من صعوبة الاختراق.
3 ـ إلغاء الزمان و المكان حيث به يكون النتاج الإبداعي ( اللوحة، النص..الخ ) صالحا لأن يكون زمانيا: الآن، أمس أو في الغد. مكانيا: هنا او هناك.
الميزتان الأولى والثالثة هو ما يمكن لمسه بوضوح في أعمال رؤيا رؤوف الفنانة التشكيلية العراقية المقيمة حاليا في القاهرة، فهي نفسها المرأة المبدعة وهي التي تعكس شيئا من معاناة المرأة و حساسياتها في لوحاتها هذه المعاناة و الحساسية التي هي بقدر أو بآخر معاناتها الشخصية و طريقة لإدراك ذاتها و بنات جنسها. تعكس رؤيا رؤوف اهتمامها بالمرأة ليس تشكيليا فحسب بل و نثريا أيضا إذ تقول عنها: quot; هي المعلم الأول لأنها أكثر حسا بالمخفي والماورائي و هي أكثر تدينا وأيمانا و هي الأكثر شفافية روحيه، فالرجل يتعامل مع ظواهر المادة بينما تتجه المرأة الى تحسس العوالم الروحانيه وتلمس القوى الباطنية فهي الكاهنة الأولى و العرافة الأولى وناطقة الوحي الأولى quot;.
و اذا ما كنا لا نشترك مع الفنانة في كامل رؤيتها لطبيعة الرجل و خصوصا تعامله مع ظواهر المادة، كما ترى، و اذا ما كنا لا نذهب الى المدى الذي تذهب إليه في الموقف من المرأة، فان علينا أن لا ننظر إلى الأمر من منطلق دقة البحث العلمي السوسيولوجي بل علينا أن نتفهم الدور الذي يلعبه شحذ المشاعر وتوتيرها و إضفاء المزيد من الدراما عليها كشرط ممهد للإبداع لا يخضع للتقييس العلمي و المنطقي.
عليه فإن هذا الموضوع المطروح بين يدي القارئ معنيٌ، كما هو أسلوبي في الكتابة عن الفن التشكيلي، بالعمل الإبداعي نفسه، مبنيٌ على محاولة لتحليل عمل إبداعي واحد أو مجموعة من الأعمال أرى إنها تقول الكثير في التعبير عن موقف الفنان أو الفنانة من القضية التي يتناولها و الأساس الفكري و الفلسفي و حزمة المشاعر التي تحكمت في نهجه الفني و أسلوبه، و ستكون مجموعة التقنيات و الأساليب، كما هي العادة في الفن التشكيلي كما في الأشكال الإبداعية الأخرى بدرجة اقل، ذات دور حاسم في تحديد طرق و وسائل وضع مجموعة الأفكار هذه و صبها في شكل ملموس هو اللوحة و تحديد درجة قدرة المبدع على الخروج برؤية جديدة و أصيلة.
أضفت الفنانة التشكيلية العراقية رؤيا رؤوف على نسائها ألوانا أكثر بهجة وفرحا مما تفعل في العادة ( فقد أقامت قبل ما يقارب العقد معرضا في بغداد أسمته الرؤيا كانت جميع لوحاته مرسومة بالأبيض و الأسود فقط ) فيما لم تستطع أو لم تشأ، رغم ازدهار اللون، أن تخرجهن من حزنهن الصموت فبقين صامتات حزينات و بقين، في الغالب، وحيدات.
إنهن حزينات حتى لو رقصن، حتى لو توشحن بلون الحلم، باللازورد. الرقصة لديهن مصحوبة بنظرة ساهمة الى نقطة وهمية معلقة في فضاء الفراغ المغلق و الموحش، و بها بدا كما لو إن إحداهن قد سُيرت عن بعد بواسطة منوم مغناطيسي يتحكم بآلية حركتها. بتوجس و ريبة تقوم أمامنا بخطواتها الآلية المحسوبة ساعية لهدف حدده لها احدهم مطيعة مذعنة: واحد، اثنان، ثلاثة... و...؟ انه هنا أو هناك في مكان ما غير مرئي لكن ثقله في اللوحة لا يمكن نكرانه و لا يمكن إغفاله. لا شك إن بطلة لوحتها هذه مسلوبة الإرادة تماما لا تمارس الرقص كواحد من أجمل وسائل التعبير التي اكتشفها البشر منذ الخليقة، إذ رقصتها استلبت و غربت و كرست لغير أهدافها و هي لا شك مكرهة عليه كما مكرهة على غيره.
بطلتها، هذه المرة، إذ تستريح و تغفو بعد أن أكملت، كما يبدو، طقوس الإذعان الى ما يريده المتحكم، فإنها بنومها حزينة غريبة مختطفة ربما منذ من أبكر كثيرا من زمن اللوحة، تستعيد طفولتها و حريتها و لكن في الحلم فقط ذلك الحلم الذي لم يعد سوى شظايا مستعادة من تهويمات في الذاكرة التي تتعرض بمنهجية الى إعادة تنظيم و برمجة قسرية. لون اللازورد، و كتعبير عن الحلم الذي يراودها ملحاحا، ينساب من ردائها مغطيا أرضية اللوحة فيما يبدو إنه انعكاس لشيء، و لو طفيف جدا، لجرأة الحلم الذي به تجاوزت القسر جاعلة منه، رغم الاستلاب، شيئا تجاوز حدود وجودها الفيزياوي. ثم، و في الحلم أيضا، تتجرأ فتخمش من رداء الحلم ما تطرز به ما فوق الرأس لتخلق به و منه سماء بطيات أو شيئا يذكرها بما كان يسمى سماء لكي يعوضها عن سمائها المفقودة. وفيما يجرى ذلك في أمانيها و أحلامها يبدو الأفق فيما وراء طيات اللازورد معتما مجهولا عصيا على الاجتياز يقود نحو المجهول كما لو انه يقول: quot; لا مفر! quot;.
في نومها الحالم المستفز المشوب بالأسى و الشجن، ربما تتجرأ بأحلامها لتجعلها تفارق الجسد و تفارق وجودها الفيزياوي الى ما هو أبعد من ذلك الى عالم غادرته. الطرق في كل الاتجاهات مجهولة و مسكونة بالتوجس و الخوف و هي مقيدة حتى في المنام إلى كرسي من الشوك الواخز: يداها مكبلتان و فمها مكمم.
ربما هي في كوكب آخر، ربما كوكب من صفيح لامع و بادر يضيئه كوكب قصي. ردائها يتماهى مع صفيح الكوكب الباردة و تفقد ملامحها حرارتها و تتطلع فيه الى عالم قصي بارد. هنا الوحدة الساكنة بديل هروبي عن القسر و الاستلاب بهذه اللوحة نحس أن كل شيء بارد حتى جسد المرأة، لقد نفذ الحب و اخلى مكانه للرغبة في الهروب نحو المجهول. ينسحب الازرق قليلا من لون الرداء و عموم اللوحة فاسحا مجالا اكبر للأخضر أو الأصفر شيء ما أكثر حياة و لكنه اقل حلما و رومانسية إقتراب بدرجة من صبيرها الاثير الذي سنشاهده في لوحات اخرى واخزا يخفي خلف قشرته ما لا نعلم.
و حين، هنا، تعيد للأزرق اعتباره و لكنها تضفي عليه هنا و هناك الأحمر من اجل لون البنفسج تقطع الطريق علينا ما أن نرغب بالتفاؤل لتؤشر أزلية الإشكالية، إشكالية الوجود الأنثوية، فبطلتها هنا خلف القضبان تبحث عن منفذ، إنها قضبان سالبة للحرية حتى و إن كانت من خيوط الحرير. لغة الجسد محملة بلوعة البحث عن مهرب، البحث عن الحرية. هل انتهت وصلة الرقص التي أدتها و عليها أن تعود الى قفصها كعودة الحيوان المروض بعد عروض السيرك؟ هل يقلل الحرير و الملمس الناعم من قسوة القضبان طالما أدت هذه القضبان وظيفتها في سلب الحرية و تكريس القهر؟ لوعة حركة الجسد و معاناة البحث عن منفذ و مخرج جسدتها حركة الجسد بمهارة. مع كل ذلك أجدني أرى أن لا بطلة رؤيا رؤوف القابعة خلف القضبان و لا رؤيا نفسها قد تخلت عن الأيمان بالأمل عن الإيمان بقرب حلول الحرية.
[email protected]