شهادة قصصية لقاص من العراق
حوار مع القاص العراقي نوزدت شمدين:
تراجع الانتاج الأدبي في العراق سببه الاحتلال
لم تعد الدولة راعية للنشاطات الثقافية
في العراق نجيد كتابة القصة القصيرة أكثر من الرواية
هناك حالة عدم وضوح رؤية في العراق

وليد مال الله من العراق:
ضمن نشاطات اتحاد الأدباء والكتاب السنوي في نينوى -شمال مدينة بغداد- القى القاص نوزت شمدين محاضرة تمحورت حول موضوع (نصف قمر وهموم القصة العراقية). قدّم للقاص الناقد جاسم خلف الياس اذ قال: القاص نوزت شمدين من مواليد الموصل 1973، تخرج في قسم القانون 1999، بدأ النشر منذ عام 1995 في الصحف والمجلات العراقية والعربية، صدرت له رواية (نصف قمر) عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد عام 2002، أسهم في جزئين من مجموعة القصص المشتركة/قصص من نينوى. أسهم في كتاب (الكتابة على موجة النار) الصادر عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد عام 2001 في قصة (كاوبوي) التي فازت بالجائزة التقديرية في مسابقة أم المعارك الإبداعية، نوهت مسابقة الشارقة للابداع عن قصته (نصف قمر) عام 2003، فاز بالجائزة الاولى في مسابقة التضامن العربي التي يقيمها منتدى حماة عام 2006 عن قصة (لحن الأرصفة). له عدة مخطوطات تنتظر الطبع منها رواية بعنوان (الأغا الصغير) وقصص قصيرة بعنوان (لحن الأرصفة) و(كاوبوي). واضاف الناقد كان القاص يكتب الشعر على استحياء قبل ان يصدر روايته (نصف قمر) وقصصه التي استبشر فيها وحينها الوسط الثقافي والمهتمون بالقصة القصيرة تحديداً خيراً وابداعا جديداً ولما أيقن بعدم استطاعته مغادرة الاجترار والتكرار في القول الشعري ودّع تلك الكتابة من دون أسف أو لوم.
واضاف أثارت روايته (نصف قمر) الكثير من النقاد والقصاصين وكتبوا عنها اذ تجاوزت كتاباتهم الستين مقالة، فهل فكر أي منا والكلام للناقد أن يغمض عينيه لمدة يوم أو بعض يوم اغماضة كاملة لا يرى فيها الألوان أو الوجوه كما لايرى الاشياء كيف تتقلب ألوانها من حوله، ويتداخل اللون الاصفر بالاخضر والاحمر بالاسود فتترشح بفعل هذا التداخل الوان جديدة بعيدة عن أصل الالوان قبل تداخلها. وطرح الناقد سؤالاً آخر يتعلق بهل فكر أحد أن يعيش بحواسه الاربع -اللمس والسمع والذوق والشم- ويسقط حاسته الخامسة-البصر- بعيداً كي يرى الوجه الآخر للشمس ويرى الليل دون النهار ويرى الاسود دون سائر الالوان الزاهية الاخرى؟ ثم أبدى الناقد رأيه برواية نصف قمر اذ قال لو لم أكن قد التقيت بنوزت في ملتقى الرواية العراقية الذي عقد عام 2002 لقلت من دون تردد (أن من كتب رواية نصف قمر يعاني العمى، ذلك أن الرواية على بساطتها وعفويتها قادرة على خلق حالة اقناع، اذ استطاعت ان تؤكد بصمة كاتبها الفنية وهي بصمة تستحق الاشادة والتحية).
وأضاف: قال عنه قاص آخر ان (عنوان الرواية لم يكن دقيقاً ولم يأت معبراً عن أفق الرواية وشموليتها وحركتها الداخلية وصراعاتها وارهاصاتها النفسية الحادة ومجمل عوالمها وان بدا جميلاً في رومانسيته). وقال عنها الناقد جاسم خلف (ان رواية نصف قمر رؤية طرحت متخيلاً واقعياً في بنية لغوية ذات قدرة بلاغية وابلاغية، اذ استطاعت ان تخلق المعادل الشعوري وتوضح المضمرات النفسية والفكرية للنص وتجعله متعمقاً في التوصيل وذلك باثارة التضاد الدلالي الذي يخلق أفقاً شعورياً وذهنياً رحباً متحركاً). فهل أدى شوط التأليف حسب (ميلان كونديرا) فاعلية في متابعة موضوعاته من وجوهها المتعددة بدقة وتركيز؟ وهل خرجت شخصياته من يديه وتمردت حسب جورج أمادو؟ أي تخيلهم في البداية ثم تحركوا واتخذوا قراراتهم؟
واذا كان الروائي يخضع لتأثير ثقافته الموسوعية لانها في النهاية الصندوق الذي يتغذى منه لحظة الشروع بالكتابة، فهل يستطيع نوزت شمدين والكلام للناقد وصف محتويات ذلك الصندوق؟
ثم تحدث القاص شمدين قائلاً (لن أتحدث بكلمات كبيرة عن تجربتي في الكتابة لانها قد لا تعني شيئاً قياساً بتجارب الكثير من الأدباء الحاضرين في الجلسة، لكن لا ضير من أن استعرض بعض تفاصيل حياتي السابقة لما كان لها من عظيم أثر فيما أنتجه اليوم وما سأقدمه في الغد خصوصاً وانني مقتنع تماماً بان الأديب لايمكن ان يكتب عن شيء لا يعرفه. أنحدر من أصل كردي وخطوتي الاولى في هذا العالم كتب لها ان تسير في مدينة الموصل بلا رعاية أبوية وطوال سنين كان عليّ باستمرار أن أتحمل خسارة أن لاارى أياً منهما، وان أفتش بالخيال عن حنان ما يعوضني فلم أجده إلا في بطون الكتب او الاحلام العابرة، تكفلت عمتي بتربيتي كأي من أبنائها وهناك في منزلها شرقي الموصل حيث سكنت أربعاً وعشرين عاماً قرأت اول كتاب وقع بين يدي وكان (شرق المتوسط) لعبد الرحمن منيف، وكتبت اول نص لي (قصة نكرة) وهناك قبل ان أقبض على شهادتي في القانون بدأت مشروع روايتي الاولى (الأغا الصغير) التي هي أشبه ما تكون بسيرة ذاتية يلعب الاقطاعي والمختار أدواراً رئيسية فيها يسردها راوي عليم يتتبع سير صبي باحث عن أمه ينتقل من مدينة الموصل حاملاً معه نهر دجلة وتل قينجوق وبوابة نركال ونهر الخوصر ليمر بجبل بيه خير وكلي زاخو وجسر دلال ليستقر به المقام في غابة آدن على سفح جبل مطل على قرية دير شيش وهناك تدور أغلب أحداث الرواية، صعوبة العمل جعلتني أتريث كثيرا قبل اصداره وكان لابد لي من عمل آخر يقدمني قبله وهكذا ومع نهاية عام 2001 انتهيت من نصف قمر التي صدرت في العام 2002 عن دار الشؤون الثقافية وحصلت في ذات العام على تنويه من مسابقة الشارقة للاصدار الاول، وبينما كنت اخطط لاطلاق (الأغا الصغير) مع نهاية عام 2003 وصل الاحتلال ليلغي مشاريعي بتداعياته التي فرضت حضرا للتجوال على الرؤية الصحيحة فخفت ان لا يصل الصبي الى منطقة آدن أبدا، أو ان يتهم بأنه من بقايا صورة قديمة، وهكذا عدلت عن نشرها مجدداً ويبدو انني سأترك لابنتي مريم هذه المهمة. بعد أربعة أعوام من الاحتلال انتهيت من رواية جديدة ولمرور خمسة أعوام على أول كتاب ينشر لي وقعت في الخطأ الفادح وأرسلتها الى دار نشر معروفة في احدى دول الجوار ليأتيني جواب بالرفض لم تبدد غموضه خمسة رسائل متتالية أرسلتها بحثاً عن السبب، حتى جاءتني رسالة قبل أيام قليلة من صديق لي على صلة بدار النشر تلك يبين لي فيها أنني لو قمت بابدال بعض من الكلمات والأحداث التي لا تنقلها وسائل الاعلام لسارت الأمور على مايرام فأقنعت نفسي مجددا بان عليّ الاعتماد على مريم في هذه الرواية ايضا. واضاف أما عن حماقة تسوري جدار الشعر فقد جاءت في مرحلة مراهقة أدبية ألمت بي في فترة من الفترات التي كنت أظن فيها بانني سأغدو شاعرا ولكن لم يستمر الامر طويلاً ولم أكن بحاجة لكي يخبرني أحد بأنني مجرد ناظم شعر فاشل فغيرت وجهتي وأحمد الله أنني فعلت ذلك قبل أن أقع بين يدي الشاعر رعد فاضل ومكائد الشاعر وليد الصراف وشباك الشاعر كرم الاعرجي العنكبوتية ولسان الشاعر عبدالله البدراني الطويل! وفي القصة القصيرة التي هي وبلاشك من أصعب فنون السرد كانت لي محاولات عدة ضمن مرحلة زمنية انتهت بقصة كاوبوي التي حظيت بتقديرية مسابقة دار الشؤون الثقافية عام 2002 متقدمة على مجموعة كبيرة من القصص التي شاركت بها أسماء لها ثقل كبير في المشهد الثقافي العراقي في حينه. وأعترف بأنني لست راضيا عما نشرته من قصص بالرغم من الاطراء والمديح فهي ليست سوى تجارب قادتني الى فائدة عظيمة ربما ستتضح ملامحها في مجموعة مخطوطة أعكف على مراجعتها الآن ولا اعتقد بان مريم سيكون لها دور في طباعتها). وعن القصة في مدينة الموصل خصوصاً والعراق عموماً قال القاص (أجد انها لم تنفصل بعد عن منجزها السابق وهي امتداد لمسيرة العقود الماضية أي انها تستمد وجودها الحالي من تراكمية الماضي وما انتهت اليه قبل سنوات. وهي ماضية في التجريب، وتوجد في الساحة العراقية تجارب عدة اغلبها جديدة لأسماء شباب لا أحد يستطيع الامساك بها لكونها تتوزع هنا وهناك على صفحات الجرائد والمجلات التي يصعب حصرها ولكن هذه التجارب لا تميز بشيء او انها لا تعلن عن نفسها بشكل صحيح مما يجعل الصورة القديمة والأسماء الراسخة هي المهيمنة رغم قلة الانتاج وانصراف الأدباء لشؤون اخرى. ولقد ثارت المنظومة الثقافية بشكل كبير ولم تعد الدولة راعية للنشاطات الثقافية ولا تروج للكتاب كما ان هذا الفراغ لم يسد الى الآن مما يجعل الامر يبدو أشبه بفوضى، وما عدا التجارب الجديدة التي تعلن عن نفسها في الصحف والمجلات فان مجمل الانتاج القصصي العراقي أصابه الركود الامر الذي يجعلنا نتوقف دائماً عند أسماء دون غيرها. ويمكن القول والكلام للقاص ان ما قدمته القصة العراقية في مرحلة التسعينات من تجارب اعتبرها فذة هي التي تهيمن الآن أو انها هي التي تتحكم بالمسار، فالاهتمام بالبيئة العراقية والفضاء المحلي عند كتاب القصة العراقية الجديدة هو الاختلاف السائد رغم مضي فترة زمنية طويلة على ظهور تلك القصص ويبدو ان تأثيرات الواقعية السحرية والمدارس اللاحقة ما تزال الورشة التي يعمل فيها القصاصون الجدد. واعتقد والكلام للقاص ان آثار الماضي ستستمر طويلاً خاصة في ظل تراجع الانتاج الأدبي بسبب الاحتلال وما تبعه من ظروف سياسية وأمنية واقتصادية عصفت بالبلاد. فالمشروع الأدبي الجديد لم يبدأ بعد وعليه قد تمر فترة زمنية طويلة دون أي ظهور لعلامات تبشر بالخير هذا فضلا عن تخوف كتاب القصة من ولوج عوالم مكتشفة حديثاً خشية اصطدامهم بحواجز كونكريتية اكثر مما كان يوجد في السابق. ان السؤال عن كيفية تخطي آثار الماضي ما زال للاسف بلا أجوبة محددة وأظن ان الغموض سيشكل علامة فارقة لسنوات قادمة. وعن النقد الأدبي في العراق أوضح القاص رأيه قائلاً انه مرتبك وهو قليل العناية بالتجارب الجديدة لاسباب كثيرة والحقيقة اننا نتجاوز كثيرا في اطلاق تعابير قد لا تجد القبول عند النقاد. واضاف انا أتحدث عن القصة العراقية الجديدة وهذا المصطلح قد لا يعني أي شيء بالنسبة للعديد من النقاد، وتوجد اشكالات كبيرة في هذا فالناس الذين كانوا يمارسون النقد توقفوا عن اداء هذه المهمة الآن بسبب تخوفهم من ماضيهم، كما ان العديد من النقاد تركوا النقد وانشغلوا بأمور اخرى مختلفة وبقي الحال على ما كان عليه قبل الاحتلال عندما كان الأدباء يكتبون عن بعضهم البعض ويمدحون أنفسهم لقاء كلمة خير تقال لاحقاً في قصصهم، واذا ما رجعنا الى ماكان يكتب في السابق عن الجيل الجديد في القصة فلن نجد ما يرضي أو أن الاهتمام لم يكن ينصب إلا بجيل الستينيات والسبعينيات والثمانينات على اعتبار ان هذه الأجيال اكثر رسوخا أو انها أسهل في التناول من غيرها ومع هذا استطاع العديد من كتاب القصة البروز وبقوة واثبات وجودهم ولفت الانظار واعتقد ان النقد لن ينسى تجاربهم مهما ابتعد أو طالت به الغيبة. وعن الجيل الجديد من الأدباء قال القاص انه في ظل التوجه الحالي نحو الرواية في العراق لم تعد القصة في المقام السردي الاول، والعالم الآن شديد الاهتمام والشغف بالرواية والعديد من الأدباء الشباب حاولوا كتابة الرواية وتوجد أمثلة قريبة في هذا ونستطيع ان نحصي اكثر من سبع روايات صدرت في عام 2002لكتاب شباب داخل العراق وهذا رقم لابأس به، وقبل هذا التاريخ كانت هناك تجارب مميزة في كتابة القصة واغلب كتّاب القصة الشباب توجهوا الى كتابة الرواية وانا على علم بوجود مخطوطات مهمة تنتظر النشر في مجال الرواية كتبها اصدقاء يتوزعون على محافظات العراق وعلى رأسهم القاص الكبير نزار عبد الستار الذي يستعد لاطلاق روايته الثانية (الأمريكان في بيتي).
ويعتقد القاص ان القصة القصيرة تبقى الميدان الأصعب بالنسبة للكثيرين لانها تحتاج الى مهارة عالية وقدرة فائقة على التقاط اللحظة كما توجد تجارب روائية أثبتت فشلها حاول بها كتّاب القصة القصيرة ان يغامروا في الخروج بنص طويل ولكنهم لم يتمكنوا من الحصول على الاستحسان. وتساءل القاص هل سيعمد القصاصون الى استثمار الواقع الحالي في أعمالهم الأدبية بالقوة نفسها التي نجدها في الحياة اليومية للمواطن العراقي؟ واجاب على تساؤله قائلا في الحقيقة لاتوجد بوادر تشير الى ان شيئا من هذا سيحدث فنحن في العراق مازلنا في حالة من عدم وضوح الرؤية. وتمنى القاص ان تتمكن القصة من استثمار الواقع اليومي الصعب وان تنتج أدباً راقياً، كما راهن في نهاية الجلسة على ان العالم كله ينتظر وبشقف كبير ما ستنتجه عقول الابداع العراقي وهو ما يحتاج الى وقت وجهد كبيرين وان أخفقنا نحن فمن المؤكد ان الجيل القادم سيقول كل شيء عوضاً عنا.
وخلال فترة المناقشة شارك العديد من الأدباء ومنهم الدكتور عبد الستار عبدالله، الدكتور جلال جميل،الدكتور احمد جارالله، الشاعر عبدالله البدراني، صباح سليم، الشاعر رعد فاضل وآخرون.

قراءة لـ(نصف قمر)
وفي قراءة لرواية (نصف قمر) قال الشاعر كرم الاعرجي وتحت عنوان (البصر الذي سكب ماءهُ على بلاط الوسادة)، ان الرواية صدرت عن دار الشؤون الثقافية ببغداد وهي بمثابة رواية ضاجة بـ(البانوراما) والامتثال امام المزايا الواقعية التي يتحلى بها الروائي، انها انسجام بيئي مع حيثيات المعرفة و(بوطيقيا) الادب وقد استخدم وعيه في نسيج يراهن على تفكيك مخيلته عبر أشواط العمر التي مرّ بها، انها مونودارما قصصية يتبناها لغة لكي تكون رواية يغرق بين مفاتن أحداثها العوم في هذا البحر الصعب الذي تنتجه تأملات الروائي (نوزت شمدين) هذا المغامر والمغاير بطرحه وبتجديد مادة المعنى سردياً على مستوى الحكي. ان المفتتح الذي ارتكز عليه هو جملة يختفي وراءها الخبر ثم ينحدر من أعالي بنيتها لطرح الفهم الموصول بها عبر مجسات صوتيه تتألف مكونه هذا الأسلوب الغارق في التفاصيل وبدلالات محمية ترجف القلب بتقلبات الصياغة المشهدية لعالم البطل (عادل) حيث يقول(إنطفأ العالم) ومن هنا بدأ يفتح الأسرار كاشفاً للمعنى دلالات اخرى تخضع التأويل في فك الرموز (بديالوجات) الداخل الحسي له و(مونلوجات) الخارج المضاف اليه فتتحول النتائج الى (مونودراما) مصرية فيها من التناقضات والصدمات سعة انطفاء البصر وانشغال البصائر، انه يرى العالم المستور مفضوحا بحريقه ومن هنا تتكون في افقه صورة الارادة ليفعل المواجهة مع الحياة.. (عثرت أصابعي على مفتاح الضوء، فعلمت انني احتاج الى خطوة اخرى) والآمال مفتوحة امام البطل الأعمى. وهكذا يقتفي اثر الشخصيات لحظة بلحظة بما يراه حجة له في سرد أحداث متتابعة تتمايز فيه الأصوات والإشارات التي جعل منها عالم مشحون بدهشة الايضاح بحيث جعل من دلالاته وجبه يومية يتأملها وصفا مليئا بما ينسكب من مخيلته التي رسمت لهذه الشخصية المفترضة دلالة وجود، (شيء مؤلم ان نملك الضوء ولا نهتم بعالم اللون الاسود). وبما انه أحال هذا العماء الى ارث جيني أصاب شخصيته النادرة بالكبت النفسي، بحيث لعن من خلاله سلالة هذا المرض لما قدر له انه يعيش معاناته بعد ان كان ممتعا بتفانيه ومخلصا طموحا في خدمته للوظيفة التي يشغل منصبها، انها فجأة التحوّل القدري الذي أحاله أسيراً لهذا العماء، ومن هنا تجرشه الحوارية برحى الصدمات، فأخذ يتحسس الاشياء التي كانت صوراً، والرموز الاجتماعية التي تحيطه متاهة للحديث الصامت فأصر على المواجهة للبحث عن اكتشاف ما يسرهُ بعد هذا الألم.. (جرحني الصوت ما ان اخذ الصباح ينشط خارقا حجابات الجدران والنوافذ والستائر المسدلة، مهاجما سمعي بضجيجه وعنفه) وهنا عزفت الحياة لحنها الحزين الذي أغرقه في المتاهة. وبما ان فن القطع المشهدي كان دقيقا يتآلف بحبكة مع أحداث دراما الذات قد صورت بعين السينمائي المبتكر.. فالدفاع عن نفسه امام أخيه (مصطفى) الثري القلق والقاسي سلوكيا من وجهة نظر الناص، كان شديد التعقيد، (ما حدث حدث وانتهى الامر) وكذلك شخصية أمه الحنون (سمعت رنة صدرها وهي تضربه بقسوة) وزوجة أخيه الصالحة (وعادة ما كانت تنقذني في اللحظة الأخيرة) ومرايا اخرى لوجوه أقاربه الخالة وابنتها وزوجها السوري والخال الخ...(تجاوبت مشاعري مع تلك الاحتفالية ورحت أبادلهن الحزن بالحزن) وخيط ذاكرته المرتبط روحيا بالموظفة (أسماء) التي تشكو من (عرج) أصاب ساقها وهي بمثابة حبيبه حميمة واحساسها بالعاهة كما هو احساسه بمرض العماء (تحشرج صوتها وهي تقول - لقد تركت فراغا، وباجابة مؤلمه - انا الآن أعمى يا أسماء)، واخلاص الطبيب لمهنته الانسانية (تعامل بخفه مدربه مع أدواته).
والطريق الذي خاصمه بالعثرات والعكاز التي أخجلت بصيرته.. والشخصيات المرسومة على مساحة الرواية كانت كثيرة في الدائرة والبيت والشارع..، والتقليد الاجتماعي في كل مكان بيئة نسيجية بما فيها من متناقضات، وبتواشج قصدي عند الناص من اجل خلق بنيه للمعمار الحواري جاءت مدروسة في المشاهد برغم قفزاته في التقطيع فالدخول الى مشاهد اخرى تدور أحداثها باجواء مختلفة كانت مختزله وسريعة التبرير منطلقاً من مبدأ الشخصية التي يقابلها مبدأ الفن عند الناص ويبقى مستمرا حتى (يصل القلب حلقه) عندما يسمع صوت أسماء باطلالتها عليه وهي تحييه (بصباح الخير) وهنا دبت به الحياة وكله أمل حين التصقت ذراعها بذراعه، وبعد كل هذا الوجع والصراع مع الذات والمجتمع اخذ (عادل) يفرح بارادته التي سحقت الكثير من اجل ان يرى النور بعيني أسماء وينتزع الحياة من ظلمته منتصرا على العمى، وهكذا ترك عصاه مغمورا بمرح التوحد مع أسماء. ان الذي أثارني في هذا الروائي، تتجلى أبعاد مخيلته برؤية تفاعليه، تجعلك تنقب بفضاءاته عند عقلنة معانيه، فرواية (نصف قمر) هي انسلاخ الذات وفرشها على (أحافير) الواقعية والتي تعني النشوء الميت لخلق روح جديدة تنبض بالحياة.