quot;هذا ما كان بعد ذلك، من منكم يعرف عدد القتلى هذا الصباح؟quot; (أحمد بركات)


حدق يحيى بدهشة في السائل الأحمر المتدفق من ساعد أبيه، سأله في شغب طفولي:
- quot; لاش الدم أحمر؟quot;
الأب ظل صامتا ينظف جرحه، فيما ألح يحيى في سؤاله فأجابه الأب بصفعة من يسراه.
تحسس الطفل خده المبلل بالدموع وغادر المكان متأبطا معه سؤاله إلى قاعة الدرس quot;علاش الدم أحمر؟quot; تهيئ الطفل إلى صفعة ثانية لكن المعلم مسد رأسه في حنان مخاطبا إياه بصوت خاشع:
- الحقيقة يا ولدي تنام في بطون الكتب.. ولكي تدركها يجب أنquot;تُمَّحِنَquot;عينيك يا صغيري...
تذكر الطفل قصة النبي يونس وبطن الحوت وتراءت له الحقيقة كأميرة باشقة تنام في جوف كتاب أسطوري، لم يفهم من كلام المعلم شيئا لكنه أدرك بفطرته أن كلام المعلم، كلام كبير وأن ثمة سر خطير في هذه الكتب.
حاصر يحيى نفسه بالكنانيش والكتب، قرأ كثيرا وquot;مَحًّنَquot;عينيه كثيرا، لم يعد طفلا، صار رجلا بشارب ونظارات تزداد سمكا يوما بعد يوم، وحمرة الدم أصبحت بالنسبة إليه أمرا بديهيا لا يحتاج إلى صفعة أو سؤال، لكن سؤالا وحيدا لا زال يؤرقه هل تنام الحقيقة في بطون الكتب؟ في الحقيقة كان الطفل رجلا شاردا يحيا على حافة العطالة... رجل يبحر في ماء الذكرى ينظر إلى الماء المتدفق من الصنبور، فكر في أن يسقط عنه تكليف غسل الأسنان، فتذكر أن أسنانه بدأت تصفر بفعل تلك السجائر الرخيصة التي أدمنها هذه الأيام، لأجل ذلك خالف نفسه الأمارة بالتثاؤب و الكسل، وأفرغ المعجون فوق الفرشاة بتثاقل مستمتعا برؤية تلك الخطوط الحمراء الطازجة التي طالما استفزته مند الصغر، دائما كان ينظر إليها بدهشة، متسائلا في سره عن سر خروجها بتلك الدقة و الإنتظام. لغز قديم يسكنه ويصيبه بدهشة يومية، كيف تستقيم هذه الخطوط اللذيذة في بطن هذا الأنبوب؟قطرات الصنبور العنيدة و المتدفقة في انتظام تمنح لسؤاله معنى جنائزيا... حاول مرة أخرى أن يحكم إغلاقه... كأن قطرات الماء تحيك مؤامرة ثانية ضد صمته المتماسك!! غادر التواليت و استلقى في أريكة البهو مخرسا صوت التلفزيون، كان يتنقل عبر القنوات، فاستقر ت عيناه على صورة رجل عجوز متجهم ببزة عسكرية ونياشين، يحرك شفتيه ببطء كأنه يتلو وصيته الأخيرة، بين الفينة والأخرى تجحظ عيناه، فيسعفه متجهم آخر بكوب ماء، فيكف عن السعال ليلتقط عصاه ملوحا بها نحو خريطة حمراء... انتقل إلى قناة أخرى ثمة رجل ضئيل بسوالف وعيون كحيلة لعله أحدب ويبدو أنه ُمنجم أو عرَّاف فملابسه منشاة بالنجوم وأمامه كرة زجاجية مثيرة...
أثارته الصورة فرفع من حجم الصوت:
...سيحدث ذلك..سكين تُكشط الجلد الآدمي، وتصنعه نعلا لقدمين سماويتين في خريطة تمتد...الخ
كتم أنفاس التلفزيون من جديد واستسلم للزابينغ... نساء سمراوات يتقافزن حول نافورة إيطالية... يتخففن من ثيابهن في تدرج مثير، يلقين بها نحوه... كأنه الحرُّ أو شيء أخر لا يعرفه، تُطل الأجساد في منتهى الشفافية و الوضوح اللذيذ الذي يغري باللمس والعناق... و التملك... نعم التملك، مد ذراعاه ليمتلك إحداهن فاصطدمت ذراعاه بهواء البهو البارد، فقمع استيهاماته الفضائية، مصغيا إلى أصوات أمعائه التي تشكو من الفراغ، كان يحس بحنين جارف إلى أكل قطعة من الخبز، فمنذ أن انخرط في طقوس الريجيم القاسية، وهو ينام خفيفا، يملأ بطنه بالحريرة وبكل أنواع الحساء عنوة، وينام رغم كل ذلك قرير العين لكي يضمن بقاؤه في تلك quot; الوظيفةquot;hellip; الآن يدرك جيدا لماذا يُقَبِّل المغاربة فتات الخبز الملقى في الأرض، لكن السؤال الذي يؤرقه اليوم، هو كيف يُصَّــــــوِر ذلك الخبز دون أن يضحي بكرامته؟ كيف؟ تذكر صوت باطرونه الساخر:
ـ إذا احتفظت بهذه الكرش شهرا آخر، فمصيرك الشارع يا صديقي... هذه ليست هيئة رجل يشتغل في الأمن الخاص!
بالأمس كان عليه أن يقبل بتقبيل رجل في فمه بحجة التدريب على الإسعافات الأولية hellip; كان يعرف أنها خطة الباطرون في إذلال العاملين و إجبارهم على الإستقالة، لكنه قبل بالتحدي... وانخرط في بروفات التقبيل أقصد في الإسعاف.. احتك اللسان باللسان واختلط اللعاب باللعاب وطالت القبلة المسعفة إلى أجل مسمى حددهquot; الشافquot; الذي أسعفته كلماته المستفزة في إرهاب المتدربين الذين طالبوه بإحضار دمية لإجراء ذلك التدريب.. صبََّر نفسه كما يقول كل المغاربة: الخبز صعيييييييبhellip;.! لكنه يجد نفسه في الليل محروما حتى من ذلك الخبز الذي يضحي من أجله في النهار... يجد نفسه ميتاً.. جثة تنعم برؤية قاتلها كل يوم... فكر في الإنتفاض لكرامته فتذكر فواتير الماء والكهرباء، تذكر أقساط السكن الإقتصاديhellip; دائما ثمة خطوط حمراء ينبغي الرضوخ لها... طاوعته الذاكرة كثيرا في استحضار ما يكفي من الخطوط الحمر التي تجعل احتجاجه نوعا من التهور و الصفاقة، صار استمراره في الوظيفة أمرا معقولاً، استسلم من جديد لنداء الشاشة متابعا شريطها الأحمر hellip;انفجار يقتل خمسون مواطنا في الhellip; مقتل 15 وجرح 50 من الجيشhellip; سيارة مفخخةhellip; مقتل عشر رجال شرطة في مدينةhellip; وإصابة آخرين بhellip;لمزيد من الأخبار المرجو الإطلاع على موقعنا علىhellip;كلما تناهت إلى سمعه أرقام القتلى كلما تذكر بائع الملابس الداخلية الجوال، ذلك الكهل المفعم بالحيوية الذي طالما احتفظ في جيب سترته بكناش قتلى الحرب في العراق وفي أفغانستان وفي باقي أرجاء البسيطة، كل يوم يُحَِيٌن تفاصيل إحصاءاته الدموية ويعممها على زبنائه في مقاه المدينة...يجادل quot;العوام quot;وquot; المثقفينquot;وباقي المتجهمين في العلاقات الدولية وقضايا الشرق الأوسط.. و يستميلهم بمكر كي لا يفاوضوه في أثمان ملابسهم الداخلية، يؤدون له على مضض ويلعنون الولايات المتحدة والأنظمة العربية العميلة، أحيانا يشاكسه أحد الزبائن، فيرميه البائع بتُبَانٍ بمقاس صغير:
ـ يلزمك قضيباً أكبر لتصير رجلاً مثلنا!!
ينخرط رواد المقهى في ضحك جماعي هستيري...يشتمون فيه حكام العرب الخصيان، و يحتفلون بمقاسات تبانا تهم التي تستوفي أقصى المعاييرhellip; يشتمون ويشترون، وفي كل صفقة وشتيمة ُيسَّوٍِِق البائع مقاسات أكبر و أوسع، و يستعرض أرقام قتلى جديدة مرشحة للإرتفاع...
البائع الجوال يرمي كناشه وبضاعته عند نهاية كل أسبوع، ويخرج سيارته العتيقة وينطلق مزهوا رفقة صديقته التي يحب ويعيش فحولته المفترضة حتى آخر رمقhellip;
استبدل القناة بقناة أخرى وسمَّر عينيه في تفاصيل المذيعة التي تقرأ نص المسابقة /اللغز: شيء يأكل ولا يشبع ويموت عندما يشرب!؟ ما هو؟بالتأكيد ليس يحيى فشفاهه لازالت مبتلة بقطرات الصنبور العنيد، لعلها النار التي تشتعل في أوصال المشاهدين كلما قربت المذيعة اللغز من أذهان المشاهدين بخصرهاhellip; وبجميع جوارحها، بشفتيها التي تنطق الشين سيناً، قد يغفر المشاهد أخطاء الشفاه شرط أن تكون الشفاه حمراء قانية تغري بالقبل.. لطالما اعتبر أحمر الشفاه خطا أحمر يحذره من الإقتراب، بل يزجره إن فكر في ذلك، تذكر أن المرأة الوحيدة التي حظي بقُبلتها كانت مومسا!! نعم كانت مومسا فاضلة... لم تكن تضع أحمر الشفاه إلا لزبائن الليل، لأجل ذلك عاشرته وحده في النهار، في وضوح النهار... قبلته بملء فَيها العاري كالحقيقةhellip; الحقيقة توجد دائما في إكسير القبل!! أينه الآن من تلك القبل؟ أين؟؟ بالأمس فقط أثناء اقترافه لبروفات الإسعافات الأولية اندمج كثيرا... إذا كان الشخص لا يتنفس. قدم له التنفس الاصطناعي عبر الفم فوراً، أغلق بإصبعك الجزء الطري من الأنف.. خذ نفسا عميقا، افتح فمك وأغلق شفاهك حول فمه... ضجت القاعة بصدى التعليمات... وحده انبطح أرضا على ظهره، فيما توالى بقية الزملاء على إسعافه طبقا للتعليمات.. طريحاً وجد نفسه كالقتيل أو كالمغمى عليه والمرشح للموت... فتح عيناه فوجد شاربا غليظا بشفتين مكتنزتين تقتربان من شفتيه، تطبق عليهما بعنف ذكوري لا يخلو من استعراض..انتفض واقفاً مذعوراً، فرمقه
laquo; الشافquot; بنظرة مستفزة، فانبطح في الأرض من جديد، أقنع نفسه بسهولة، فيما مضى كان يفعل ذلك مع الغواني، ويدفع ثمنا لذلك..الآن لحسن حظه يفعل ذلك مجانا... رجل!؟ وما الفرق نحن في عصر المساواة..يجب أن آكل أولاً لكي أعيش..لا يهم إن لم أشبع.. لا يهم إن شربت من كاسات الذ... لا يهم إن... ُصورُ انبطاحاته تتكرر وتتداعى في ذاكرته التي تنزف قطرة فقطرة، تتناغم مع قطرات الصنبور التي تحتفي بالأرق.. لم يعد طفلا كما كان، شيء ما في صدره كبر وشاخ.. شيء ما يجبره على القبول بكل شيء وتبرير كل شيء لعله الإحساس باللامعنى... تنقلت ذاكرته من صورة إلى أخرى كمثل تنقله العبثي بين القنوات، تسكعت عيناه في تفاصيل رسائل الشات: هـــــ ــــااااااااااااي أنا هبة بحب الأهلي وبحب أبو تريكة..أسيرة الغرام: إهداء إلى هبة وسامي مداوي القلوبhellip; هبة ياااااااااااااااااااااااااااااه أن افتكرتك نايمةhellip; سعودي رااااااااااايق: ما في بنوتة شامية؟؟؟؟؟؟؟طبيب سوداني: أرغب في زوجة منقبة وجامعية الرقم عند الكنترولhellip;تعبت عيناه من التسكع، فخلد إلى الفراش.. لا يهم إن التزم الريجيم القسري لا يهم إن أكل ولم يشبع..لا يهم إن شرب من تلك الكأس ولم يمتhellip; المهــــم أنه يحيــــاااااااااااااااااااااااااااا... لا يهم إن أصبح رقما جديدا في كناش البائع الجوال.. المهم أنه يحيـــــا!!!!!!!!!!!!.

من قصيدة لأدونيس.