يحيى الشيخ: دأبت، كعادتي، على الإحتفاء بالنبات في أعمالي الفنية وفي أغلب مجموعاتي الكرافيكية. مع أني أكره العادة فهي تقتل الإحساس لكني لم أتنصل عن عادتي اليومية في مراودة الغابة واستنشاق رائحة البحر.
بعد مجموعتيي quot; رسائل الى الورد quot; و quot; ذاكرة العشب quot; المكرستان للعشب وما حمل اللتان انشغلت بهما طيلة عشرة أعوام ( 89-99 ) بعدها لم الطخ يديي بحبر الكرافيك، فمنذ أن حط بي الرحال في شمال الأرض همت بين ألياف الصوف البّده لوحات منتشيا بدفئها وشفافية معناها، حتى تراكمت في مرسمي كما تتراكم لحافات البدو فوق بعضها البعض فضاق بها صدري قبل أن يضيقبها المكان، فلملمت وشائع الصوف وركنتها جانبا..... حدث ذلك قبل أكثر من عام. لقد استنفدت المادة خزينها وكرهت تكرار نفسي !!. لكن دائما يبقى لدي شعور أني تركت ورائي قضية ما لم يستكمل اكتشافها او عاطفة لم تستهلك تماما، وفي سريرة نفسي أعرف أني سأعود لها يوما ما كما فعلت في كل مرة أعود بها الى حقل سابق وفي هذه المرة أيضا في عودتي الى الكرافيك الذي ألفت تربته وينابيعه كمن نسيت روحي هناك.
مع كل تحولاتي وانقلاباتي على نفسي، لازلت أقيم الوفاء للعهود الخوالي أمينا على سليقة الأشياء وفطرتها منحازا لعناصر الطبيعة البكر.
في مجموعتي الجديدة quot; هكذا سميت الأشجار quot; لم أدن من تقنيات الكرافيك التقليدية التي اشتغلت عليها، بل وضعت يدي على وسائط خام وجازفت على هواي في تجريب لم أعهده من قبل حتى أنك تحتار في نسبها التقني ففيها ملامح الحفر، أهم وأعرق تقنيات الكرافيك، لكنها ليست حفرا، كما فيها ملامح من طباعة الأوفسيت بنقائها وصفاء سطوحها... لكنها ليست كذلك في الواقع وهي تومئ الى نسبها لطباعة الشاشة الحريرة بكثافة حبرها وصراحته..وهي ليست كذلك أيضا.انها مزيج من تقنيات جلها حديث وجديد العهد، الى جانب غرابة المادة فقد أقصيت عن عمد أكثر الوسائل الميكانيكية التي ألفها الكرافيك، وقلصت فعل الآلة معتمدا على يديي في حراثة خدوشي وتضاريسي على الواح من مواد مختلفه وطبعت على ورق أسود !! لازالت مغرما بالتجريب كما كانت في أيامي الأولى ولن اتردد في استخدام ما يقع بين يديي من مواد.
الأمر الذي يلح على ذهني وضوح وصراحة لغتي التشكيلية وبلاغتها. الشجرة لدي شجرة وليس معنى آخر تنطوي خضرتها على ألفة الأعشاش وعزلتها. هناك على المرء ان يعثر على معناه ومكانه الخاص وسط الخضرة الطاغية. اشجاري عريضة المنكبين واسعة الصدر تفتح دفتيها لاحتواءك وتأخذ بيدك الى اسرارها أو تدلك على أسرارك مخبأة بين أغصانها. لحاءاتها متغضنة يغطيها عفن ينمو كلما طال التأمل فيه. لا تستر عيوبها ولاتدعي عفة فهي منخورة تارة أو مغرورة بارتواء أوراقها. في لوحتي المسمات quot; شجرة بيضاء quot; يحط قمر على متن شجرة، يمسها مسا رقيقا فيغدو في الحال أخضرا وتستحيل هي بيضاء...أنها لعبة مكشوفة منذ الوهلة الأولى، لكنها لعبة خالية من الخديعة، فكل ما هناك تبادل حر للخصائص بدون ضرائب ولا مساومات، كل منهما يكفل الآخر ويبوح عن وجوده.
الوجود في نظري متناسخ، متنافذ، تتماهى كياناته مع بعضها البعض بدون وسائط وبسلاسة يهيئها فضاء عادل نقي السريرة يصون تعابيرها ويبرر سلوكها.
ليس في أعمالي اشكاليات تستدعي البحث عن حلول تشكيلية أو فلسفية، بل عكس ذلك تماما فهي تنأى بالمشاهد بعيدا عن العقد وسوء الفهم بفضل طهرانية باطنها ونقاوة مظهرها. أنا معني بروح الأشياء لا بسطوحها، بعلاقاتها لا بأشكالها، فالأشكال وسطوحها، الجوهر والمظهر يخضعان لدي لسياق العلاقة الوجدانية بين الأشياء المرسومة.
مشكلتي كما يبدو من تاريخي المبكر، منذ أول مرة عرضت فيها لوحاتي، كان ذلك في معرض مشترك في قاعة quot; إيا quot; للمعماري رفعت الجادرجي عام 65، عرضت فيه لوحة بالأسود والأبيض : جذعان أبيضان يتوسطان مربع اللوحة الرمادي ( اقتناها في وقتها المعماري معاذ الآلوسي ) مشكلتي تكمن في نزعتي الطاردة للأشياء ورغبتي في افراغ اللوحة والأكتفاء بما يلزم منها للإعتراف ومايكفي للدلالة على حياتنا. كياناتي أو كائناتي تنعم بأبدية وحدتها مثلما تنعم الصور الشخصية (البورتريت) وهي صور لكائنات نياتية أسميها أشجارا ولكل شجرة أسم تعرف به. سعيت كي أشبع وجودها وأبرر حياتها أمامنا، الى تلبيسها مسح طبيعية وأغدق عليها بنعم سطوح النباتات: شروخ، تغضنات، ثقوب، شقوق، عفن، تكسر، رطوبة، جفاف وكل ما يلقيه التأمل اليومي على ضفافي من حقائق وألوان.
مشكلتي مركبة تنطوي على نسيج معقد : سداها أني أسعى الى تكثيف الوجود في كيان واحد أمنحه كل مايلزم وما يعينه على البوح عن حقيقته وعن حقيقتنها، ولحمتها أني أمتحن ذلك الكيان بكل ضروب العزلة والوحدة كما أنا ممتحن بها وأصطفيه بطلا اسطوريا يتضور يأسا.
في مجموعتي الكرافيكية quot; هكذا سميت الأشجار quot; التي أقيم لها معرضا هذه الأيام في مكان ريفي كان معلف للأبقار متعمدا أعادة الصورة الى مناخها الطبيعي، الى الغابة التي تحلم بها. اعادة الأشجار الى وطنها الأم وأن أضمخ ضمير المشاهد وهو يقطع المسافة عبر المزارع بمعنى الأشجار ليراها بعد رحلته مؤطرة داخل القاعة بانتظار العصافير.
تستأثر الأشجار بفضاء لوحاتي فليس هناك ما ينازعها عليه غير بحرا لملم نفسه وضاق يلوذ بأصغر مساحة في الأعلى او في الأسفل، والغيوم شرائط أضيق من أصبع قانعة أينما يكون لها مكان... الكل ينسحب طواعية وبنية تشكيلية لا مراء فيها لتدع الأشجار تعرب عن نواياها الخضراء وتهبنا الأوكسجين. سعيت الى بلاغة ملونة لا تكرار فيها، لاشيئ زائد عن الحاجة، كل خدش له ما يبرره من أواصر مع من حوله. أشكال وخطوط متكافلة لا ينفك أحدها عن الآخر يثبت وجوده الخاص ويأكد وجود الآخر. أنها معادلات في الوجود تتجسد في هيئة ملونة، بمعنى انها وجودية ملونة: تكون حرية كل شكل أو خط فيها رهينة بوجود شكل أو خط آخر، ووجودها مرهون بعدمه، وعدمه رهينة بوجودها.

تروندهايم/النرويج