سؤال تطرحه رواية quot;الضلعquot; لحميد العقابي

حسين السكاف من مالمو: بعد سيرته quot;أصغي إلى رماديquot; الصادرة عام 2002، التي أمتازت بالجرأة والأسلوب النثري ذات اللغة الشعرية الواضحة، صدرت مؤخراً للشاعر والكاتب العراقي حميد العقابي عن دار الجمل رواية quot; الضلع quot;. تتناول الرواية الشخصية العراقية التي تعودت البوح بأمنية شائكة المفهوم واضحة الدوافع (أريد موتاً مقنعاً) عبارة لا تخلو من القسوة والإحباط، يقين بموت مبكر، ولكن، أليس من حق من تيقن موته المبكر أن يجد المبرر لموته؟ موت دون جناية، دون ذنب، من غير خطيئة، هل يموت من لم يعرف في حياته سوى الكبت الجنسي ووأد الأمنيات؟ (الوطنُ في خطر، الأمةُ في خطر، الطبقةُ العاملة في خطر، القضيةُ في خطر...، ولكن لا أحدَ يقولُ (الإنسانُ في خطر) وكأنّ كلّ الأشياء والأفكار تحولتْ إلى صخورٍ وما على سيزيف إلا الطاعة وحملها دون اعتراضٍ على مشيئةِ الإله المجهول. quot; ص 392) من الواضح أن حميد العقابي أراد من رواية quot; الضلع quot; أن تكون امتداداً لسيرته الذاتية quot; أصغي إلى رمادي quot; أو جزءها الثاني، تماماً كما جاء في آخر جملة من الرواية على لسان بطلها وهو يقرأ في أوراق صديقه المفترض quot; عاشور quot; الذي مات منتحراً (فجأةً لفتَ نظري أسفل الصفحة الأولى سطرٌ مطموسٌ لم يظهر منه أي حرف، حيث يبدو أن عاشور قد كتبه ثم ندمَ فانهالَ عليهِ بالشطب كي يخفي سرّه تماماً. استبدّ بي فضولٌ لمعرفة ما يخفي السطر المشطوب، فخطرت لي فكرة أن أقلبَ الصفحة وأعرضها أمام المرآة، عندها بدتْ لي الحروفُ المطموسة مقلوبةً، وشيئاً فشيئاً بدأت تظهر أمامي بوضوح، فقرأتها بصوتٍ عال: quot; أصغي إلى رمادي ndash; الجزء الثاني quot; ص506) لكن رواية الضلع في حقيقتها أعمق من أن تكون سيرة ذاتية لفرد عراقي أو لحميد العقابي شخصياً، إنها سيرة quot; ظاهرية quot; لخفايا روح قلقة لم تعرف ثبات الأمنية يوماً ما، الأمنيات تتناقص وتتضاءل حتى تنعدم تحت ضربات الواقع المؤلم لتصل نهايتها حيث اللجوء إلى دفء التخيلات حين تعتلي أعضاء تلك الروح دبابة الحرب، وتستحضر مخيلتها أجساد عارية بنهود نافرة، لتعيش لحظة تعويضها خيبة الانكسار.
من حيث التوصيف الزمني فإن الرواية تتحدث عن جيل الخمسينيات والستينيات ndash; المولود أواخر خمسينيات حتى أواسط ستينيات القرن المنصرم - جيل تعس ينقصه الحظ ولا ينقصه الأمل والأحلام والتطلعات ولكن، كيف عاش هذا الجيل؟ الإجابة على هذا السؤال جاءت بها الرواية كالتالي: (ولدتُ يومَ مجزرةِ سجن الكوت، وخُتنتُ يوم السحلِ المريع، ودخلتُ المدرسةَ عامَ مجيء الحرسِ القومي واغتلمتُ يوم عودة البعثيين إلى الحكم، وعشقتُ امرأةً يوم بدء الحرب العراقية الإيرانية، فبربك قل لي مَنْ أكثر شؤماً أنا أم طويس؟ quot; ص362) فالرواية مبنية بتوازن واضح على فكرتي الكبت الجنسي من جهة وكبت الأمنيات وموت الأحلام والتطلعات من جهة أخرى عند جيل عراقي بعينه، جيل الخيبات والحروب. بطل الرواية لم يسبق له أن التقى بامرأة في حياته، والسبب يعزى إلى وضع العراق الخاص، فقد سبق لبطل الرواية أن انتمى إلى حزبٍ غير حزب السلطة وسجن ثم هرب من العراق ليعود إليه مقاتلاً ثم يصل إلى إيران ومن ثم سوريا ومن بعدها إلى الدنمارك، وفي كل تلك المراحل لم يتسنَّ له الالتقاء بامرأة ndash; الالتقاء الجسدي - فحين وصل إلى الدنمارك، كان محطماً، مريضاً يعاني من الشيزوفرينيا. من هنا ربط حميد العقابي جميع شخوص روايته بحبل الكبت الجنسي وتأثير ذلك الكبت، حتى تدخَّل في مخيلتهم الاستمنائية، فبطل الرواية ظل مطارداً طوال أحداث الرواية من قبل شبحين، شبح الكبت الجنسي كحالة جسدية وشبح الموت الذي طارده في أغلب مراحل حياته، لذا نجده في كل خلوة ذاتية يتجه بتفكيره حتماً إما صوب الجنس أو الموت، وهذا ما دفع به إلى أن يتخيل نفسه وضاح اليمن فيهيم حباً بـ quot; أم البنين، زوجة الوليد بن عبد الملك quot; وتهيم به، يضاجعها بطريقته هو وحسب ما تمليه عليه مخيلته المريضة بشبح الكبت الجنسي. وما ورود قصة وضاح اليمن بشكلها المتخيل من قبل بطل الرواية إلاّ لتعزيز فكرتي الموت والجنس داخل تلك الروح القلقة. ثم تأخذه مخيلته وعلى الرغم من مرضه الخطير حيث يرقد في المستشفى بسبب مرض القلب وتحت تأثير المخدر وملازمة الشبح، يتخيل نفسه الإله تموز والطبيبة هي عشتار، فيضاجها بطريقة حديثة جداً طالما استحضرتها مخيلته وهوسه الجنسي. من هنا نجد أن حميد العقابي أراد القول بأن الجيل الذي ينتمي إليه ليس له علاقة بالزمن ومن حقه أن يتصور نفسه وضاح اليمن أو تموز أو أي شخصية أخرى المهم أن يجد إشباع لمخيلته الاستمنائية، فالكثير من أبناء جيله مات في الحروب وهو لم يلتقِ بامرأة، بل حتى لم يكلم امرأة في حياته عن الحب أو المشاعر والأمنيات.
إن فكرة ارتباط الجنس بالموت كثيراً ما حركت خيالات الكتّاب، إلا أننا نجد في رواية الضلع عملاً جديداً بأسلوبه السردي والشعري، فهو بالحقيقة كتابة لشاعر مستمتع بالسرد، مستمتع بأسلوبه الشعري المصاغ بطريقة روائية أخذت عالَم التخيل واقتحام quot; المحرمات quot; نتيجة انفصام الشخصية، متكأً مهماً وموفقاً في صياغة فكرة الرواية. البطل في قرارة نفسه متيقن من أنه داعر، دنيء، وتصور نفسه تحت تأثير الشيزوفرينا بأنه المسيح أو بطل أو رجل مهم وخارق القدرات، لذا فقد جهد في البحث عن بطولة أو ذنب يقترفه يُمكِّن لآخرين من إنزال أقسى العقوبات بحقه، فلم يجد سوى خياله مكاناً خصباً لاقتراف الذنوب ولم يجد سوى المضاجعة سلاحاً للنيل من قيم تربى منذ الصغر عليها وعلى ممنوعاتها ومحرماتها.
الذات الأخرى الكامنة داخل الروح البشرية وتناقضاتها وصراعها مع الذات الظاهرة أخذت حيزاً كبيراً وأساسياً من سرد أحداث الرواية. الوعي الآخر مقموع نتيجة قوالب تربوية تربى عليها العراقي quot; جبر quot; ndash; تسمية شائعة يستخدمها العراقيون للدلالة على كم الحيف الذي نزل على رؤوسهم quot; جبر من بطن أمه للقبر quot; ndash; في حين أن الذات الظاهرة تمارس حياتها اليومية بزيف وتظاهر لا يترجم ما يعتمر دواخلها، من هنا نجد أن الطريقة التي استخدمها الكاتب في فصل الذات الظاهرة (حميد) عن الذات الكامنة داخلها (عاشور) حين شطر الكاتب نفسه إلى شخصيتين، أخرج من داخل روحه ذلك الجزء النزق والمتعالي رغم خوائه، الجزء المتضارب بنزواته وأفكاره السياسية والروحية، ليصحبه إلى جانبه وهو يخوض عالم التخيلات. صوَّرهُ إنساناً وأطلق عليه اسم عاشور، اسم مستعار لشخصية مستعارة، شخصية ليس لها علاقة بالواقع سوى أنها كانت تعيش داخل روح الراوي ليعزز لنا حالة الشيزوفرينا التي يعانيها. صارا يتبادلان الأفكار ويوجهان النقد لبعضهما والذي يصل حد القطيعة والخصام أحياناً، ثم نجد أن هناك بعض الاعترافات التي يبوح بها أحدهم للآخر وهي تترجم ذلك الصراع المرير داخل الروح الشرقية والتي يمثل الكبت الجنسي أحد أعمدتها، فيعترف عاشور لحميد بأنه تجاوز الثلاثين ولم يمارس الجنس بشكله الحقيقي، كان يستهلك خياله للمارسة فيستحضر النساء كما يشتهي. (تعرف؟ أنا لم أمارس الجنس مع امرأة حتى الآن) فيجيبه حميد على الفور (وأنا كذلك quot; ص 103). وتستمر الصراعات والأحاديث والانتقادات اللاذعة بين روح الراوي وداخله الخفي حتى اعلان موت عاشور منتحراً دون العثور على جثته رغم اقتحام الشرطة الدنماركية لشقته. يختفي عاشور من بين سطور الرواية حين تلفظه روح الراوي كقيح مرضٍ مزمن، ولكنه يبقى عالقاً في ذاكرته حتى سطور الرواية الأخيرة.
يسلك حميد العقابي من خلال روايته quot; الضلع quot; طريقاً مختلفاً عن الطرق التجريبية والكلاسيكية التي عرفناها في كتابة الرواية، فالمعروف عن العقابي أنه شاعر ينتمي إلى الجيل الثمانيني، وله ستة دواوين مطبوعة كان أولها quot; أقول احترس أيها الليلك quot; الصادر عام 1986 وآخرها ديوان quot; الفادن quot; الصادر عام 2005، من هنا نجد أن اللغة التي صيغت بها أحداث الرواية، لغة شعرية بامتياز حتى في حالات السرد التي ظهرت بشكل واضح في جزء الرواية الثاني (الرماد) الذي يؤرخ فترة مهمة من تاريخ الصراع الداخلي للإنسان العراقي البسيط، الشاب المتلهف للحياة بأمنيات عظام، أكبرها تافه جداً.. الجنس.. القميص.. الحبيبة. ففي جزء (الرماد) يجد القارئ أن الكاتب قد استخدم quot; الخيال الشخصي quot; ليقتل فكرة طالماً أقلقته أو يحقق أمنية مستعصية عن التحقيق. فمن الطبيعي أن نتلمس لدى الشخص الذي يعاني كل تلك الصراعات والتناقضات، عداء شرساً لكل شيء، فيجد قارئ الرواية أن روح بطلها تعتمر عداء مختلف الجوانب والأشكال، عداء للوطن، للقيم، للأحزاب، للعائلة، للأخت والأم والصديق، للحياة والدين، عداء لكل شيء، وهذا ما يذكرنا بكتابات الكاتب الإنجليزي جورج أوريل الذي أتهم بعدائه للماركسية والشيوعية والنضال من أجل الحرية، في حين أن الحقيقة تفيد بأنه لم يكن في أي وقت من الأوقات معادياً إلى تلك الأفكار، وهذا تماماً ما ينطبق على مجمل الأفكار والانتقادات التي جاءت بها رواية الضلع لحميد العقابي. وبالتأكيد من حق القارئ حين يستدل على كم العداء الذي تكتنزه سطور الرواية بأحداثها المتلاحقة، أن يغضب على الراوي، ولكن عليه أن لا ينسى بأن الراوي هو ذلك الطفل الذي ولدته أمه نقياً مسالماً تحت ابتهالات النسوة والقابلة وهن يتصايحن: (علي.. يا علي.. يا علي.. قولي علي.. قولي.. خرجَ رأسُه.. علي.. اضغطي.. علي.. شدّي.. يا علي.. يا داحي باب خيبر.. قولي علي.. أضغطي.. بعد.. بعد.. علي ي ي ي ي.. خرجَ جسده.. وَلَد.. وَلَد.. وَلَد.. زغاريدُ طويلة وبكاءُ وليدٍ يملأ الفضاء. خرجَ الطفلُ من رحمِ الأرضِ.. خرج الطفلُ عاشور أو حميد أو جبر أو... , مدفوعاً بقوةٍ مجهولةٍ.. خرجَ من رحمِ الأرضِ إلى منفى اللاوجود.. حبا الطفلُ على يديهِ ورجليه.. تعَ تعَ.. نهضَ الطفلُ متكئاً على الفراغ.. سقطَ.. اسم الله.. سور سليمان ابن داوود.. خطا الطفلُ خطوته الأولى خارجَ الأرض.. تاتي توّاتي.. سارَ الطفلُ إلى جهةٍ مجهولةٍ.. العيون ترقبه بحذرٍ.. تقيسُ خطوته.. تروزهُ.. سيكون طبيباً.. مهندساً.. ردتك ما ردتْ دنيا ولا مال.. الحسّاد كثر.. الأعداء كثر.. عدوك عليل وساكن الجول.. احذرْ من أصدقاء السوء.. احذرْ من أولاد الحرام.. احذرْ من نفسك الأمّارة بالسوء.. قلْ أعوذُ بربّ الناس.. احذرْ من الغجر سيسرقونكَ ويعلمونكَ الرحيل إلى مدنهم البعيدة.. لكنّ الطفلَ رحل إلى المدن البعيدة.. نعم.. رحلَ الطفل.. بلا غجرٍ ولا بوصلة.quot; ص10) هكذا يتحول من طفل نقي يفيض بالحب، إلى شرطي أو حاوية للممنوعات دون أن يعرف له حقاً يذكر، إنسان بلا حقوق، مستلب، فهل ينتظر منه أي طاعة لقانون أو احتفاظ بقدسية معينة؟
الكوارث والحروب والأخطاء التي تدور في بلداننا وندور نحن بفلكها، ومهما كانت دوافعها أو حجج مفتعليها، هي بالتالي نقمة كارثية تقع على كاهل الفرد البسيط، الإنسان الذي يسير كماء النهر دون التفكير بتغيير مجراه.. الإنسان البسيط هو الذي وضع الحياة وصنعها، لا الحكّام، وبالتالي فإن تحطيم ذلك الإنسان هو تحطيم للحياة. من هنا نجد أن رواية quot; الضلع quot; قد طرحت أسئلة مهمة كثيراً ما دارت في تفكير البسطاء دون حلول. (هل يشعرُ الإنسانُ بالضياع حينما يغور في ذاته أم حينما يخرج منها؟). (هل المنفى مكان أم لا مكان؟). (هل المنفى زمان؟). (هل لهاجس الجنس علاقة كبيرة بالشعور بالضياع؟).
الغربة التي تنخر الروح، المنفى، البرد، الخواء، اللاشيء، كل هذا لم يكتفِ به كاتب الرواية فراح يضيف عليها غربة أشد وطئة بهدف إظهار العمق الحقيقي لغربة العراقي بغض النظر عن المكان إن كان داخل الوطن أم خارجه (وغربة أشدّ بين أبناءِ جلدتكَ الذين كلما هربتَ منهم تلاحقكَ سحناتهم ولغتهم ومناطيد دخانهم التي تسدّ عليكَ آفاق انطلاقكَ، وكلما ارتفعت سنتمتراً واحداَ في فضاء سموّكَ تناخت الأذرع وهي تشدكَ إلى تحت حتى تغور بكَ في وحل زمنها أو تركن لأقدارك كسولاً مثل جاموس يتلذذ برطوبةِ الوحلِ هرباً من هجيرِ شمسٍ حارقة. quot; ص 454).
هكذا تصور رواية الضلع للشاعر والكاتب العراقي حميد العقابي، حالة العراقي الذي عاش يوميات تكوين شخصيته الفتية نهاية سبعينيات القرن المنصرم، والذي وجد نفسه وهو ما يزال يتخطى مرحلة المراهقة ليدخل عالم الشباب والرجولة، وجهاً لوجه أمام أتون الحرب، صار متيقناً من أنه أصبح مشروع موت مبكر، وحين تيقن حقيقة ذلك الشعور، صار يبحث عن سبب مقنع يبرر موته، هذا السؤال الشائك ظل مطروحاً من قبل ذلك الجيل العراقي التعس حظاً والأجيال التي تلته حتى يومنا هذا.
[email protected]