quot;إذا كنتُ حماراً، وأنتَ أخي، فبأي شرع وعقل يا أحمق، ويا أخرق، ويا أصفق، تتسلّل على حين غرّة، ومن دون أن يرفّ لك جفن تطعنّي في ظهريquot;؟.
هذا هو سيّداتي سادتي فحوى الأغنية التي شاعتْ ولا يملّ سماعها الكبير والصغير والمقمّط في السرير.
وقال الراوي أنّ لهذه الأغنية قصّة، وهي باختصار شديد ما عليه من مزيد قصّة حمار يقع في غرام أتان لديها من المفاتن الكثير، وهو غرام أين منه غرام قيس ليلى، أو غرام جميل بثينة، أو غرام كثير عزّة، أو غرام عنترة عبلة، أو غرام روميو جوليات. ولكن إذا هؤلاء صرّحوا بلواعجهم فإنّ حمارنا آثر الكتمان، حتى بعد فترة، وبسبب من انحباسه واختناقه في ذاته بدأ عقله يلعب به، ويجذبه ذات الشمال وذات اليمين، ويرميه على بطنه ويلقيه على ظهره، ويجعله يتوهّم، ويرى ما ليس موجوداً. ومثلاً: رأى حوض زهور، فقصده، وما أن جاوره حتى رأى أنه ليس حوض زهور، إنّما هو أتان صاحبة الحسن الفتّان وسالبة عقله تستلقي. فارتعدت مفاصله، فهل يعقل أن يلتهم من لا يحب سواها؟. وفكّر، وقلّما هو يفكّر، أنّه حتى لو كان هو الغول فإنّ الغول لا يلتهم غولته. وهكذا تراجع عن حوض الزهور. ومرّة، استبدّ به العطش، وما أن رأى جرن ماء حتى أقبل يعدو، وهو عنده، ويهمّ أن يشرب، رأى وجهه معكوساً، إلاّ أنّ عقله أوهمه أن هذا الوجه ليس غير وجه أتان التي تستحم، وغطست لمّا رأته يهرع إلى ناحيتها لكي لا يراها عارية، فاتّسعتْ عيناه ذعراً، ورأى كيف، وهو ينظر إليها، قد اتّسعت عيناها ذعراً أيضاً. وتراجع خجِلاً ومرعوباً في آن من أن تكون ظنّت أنّه قليل الحشمة ومصاب بالبصبصة. وولّى هارباً لا يلوي على شيء. وهكذا بعد فترة فقدَ الشهيّة، وقلّما يأكل أو يشرب، وبدأ يفقد وزنه حتى صار جلدة وعظمة كالمصاب بمرض النحافة ـ أنيروكسيا.
وفي يوم، وقد شارف أن ينفق، وفيما كان ساهما في البريّة، دخلتْ روحه على خطّه وقالت له: quot;ماذا جرى؟ ها، إذا أنت تريد أن تنفق فأين سأذهب أنا؟ يا حبيبي خذ الأمر بالرويّة، ألا يجدر بك أن تصارح أتانك؟ ماذا ستخسر يا حبيبي إذا صارحتها؟ فإذا رأيتها تهشّ وتبشّ فاعلمْ أنّك قد نلت مرادك، وإذا رأيتها قد عبستْ فستعلم أنّها ليست لكquot;.
فقال لها، وقد قطّب ما بين عينيه، وهذا أقصى ما يستطيعه، بسبب ضعفه: quot;لو أعلم متى ستعقلين؟ هل تظنّين بما تخرفين أنّك بلغت شأواً في العقل؟ إفترضي أنّي صارحتُها، ثمّ أعلمتْ إحدى صديقاتها بما سلف اتّجاهها وبما سلف اتّجاهي، وربّما فقط من باب الثرثرة، أو ربّما فقط من باب المباهاة، وربّما لترسل رسالة إلى جحش هي مغرمة به ولكي تنبّهه أنّه إذا كان مغمض العينين فعليه أن يفتحهما، وتعلمين أنّ السرّ إذا جاوز الصدر شاع، وحينها سيصل إلى عزول، وهذا بالتأكيد لن يرحمني، سيهرع من إسطبل إلى آخر، ومن مربط إلى آخر، ومن حظيرة إلى أخرى، وحتى من بيت إلى آخر، ويقول مضيفاً من عندياته أن أتاناً قد رفضتني لأنّني حمار مدسوس، ويؤكّد إثباتاً لتجنيه بأن نهيقي رخيم وليس منكراً، وأنّ حوافري ليست من صخر الصوّان، بل هي حزوز جبنة لافاش كي ري ـ البقرة الضاحكة، وأنّ ذيلي ليس شديداً، بل أضعف من محرمة كلينكس. وسيصدّقه بكل تأكيد كل من له عندي ثأر. وستقرع العجائز حوافرها وتقول: quot;كيف لم نكتشفه؟ كيف إستطاع أن يغشّنا كل هذه السنينquot;؟. وسيسمع الأطفال، وسيلاحقونني في الأزقّة وهم يهتفون: quot;أَهُوْ أَهُوْ، إلمدسوس أَهُوْquot;. وساعتئذ، يا أفلاطون وأرسطو روحي أوّل ما سألعنك، وألعن الداية التي سحبتْ رأسي، وسأتمنّى أن تقبل الضبع أم عامر وتمزّقني، وتطحن عظامي، أو سأتمنّى مثل المحرومين من أوطانهم، أو المحرومين في أوطانهم، لو تنشقّ الأرض وتبتلع اللصوص، أيضاً تنشقّ وتبتلعنيquot;.
وبينما كان الحمار يلوم روحه وهي تلومه، ويستهزئ بها وهي تستهزء به، ويعنّفها وتعنّفه، ويتّهمها بالجنون وهي تتّهمه بالجنون، وينتف شعر رأسها وتخرمشه، ويصفعها فتبصق بوجهه، ويتوعّدها بالطلاق فتقول له: quot;الكلب المسعور أفضل منكquot;، وإذ أتان مقبلة وهي ترقص quot;عالدقّة ونصّquot; وتحاذيه حتى يلمس بطنُها العامر بطنَه الضامر. وتتجاوزه، وتقف، بعدما تجعل دبرها عند أنفه، وينظر، ويفرك عينيه لكي يتأكّد أنّهما لا تضحكان عليه، وينظر، ثمّ يفركهما، ويرفع قائمتيه الأماميتين ويضرب وجهه كأنّما ليتأكّد أنّه في علم وليس في حلم، ثمّ يقول لروحه: quot;إنّها أتان، أنظري ما أجملها، أنظري إلى أذنيها إنّهما تبزّان طولاً أذني كوكب الجوزاء، أنظري إلى بطنها كأنّه منطاد، أنظري إلى وبرها إنّه يلمع من الشبع، أنظري إلى قوائمها الخيطان وحوافرها الكشاتبينquot;.
ويتنشّق الحمار الهواء، وينهق، والسرور والحبور يغمران وجهه: quot;أتان تحبّني، تموت بتلابيبي، إنّها أتاني وأنا خيّالهاquot;.
وعوض أن يتقدّم يتراجع، ويقف لا يحرّك ساكناً. وتقول له روحُه: quot;إنّها أمامك على طبق من ذهب، لماذا تتأخّرquot;؟.
فيقول لها بإستخفاف: quot;أسكتي، الكلّ يتكلّم إلاّ أنتِ. ألم نجاور معاً الإنسي؟ هل عمّر الإنسي ما عمّر إلاّ باللف والدوران؟ أنا قرّرت مثل الذي في تلك الناحية أن ألفّ وأدور. سأرسل ربعي إلى ربعها لكي يقولوا بعد طوفان من اللفّ والدوران أنّي حمار أحمل على ظهري أثقال الدنيا وأبداً لا أتذمّر. وكذلك ربعها سيلفّون ويدورون ويقولون أن أتاناً سيّدة الأتن. وسيقول لي أصدقائي: quot;مبروكquot;. سأقف، وفي رقبتي رسن، وهي ستقف إلى جانبي وعليها بردعة، بينما قبضات من الشعير تنهال علينا. وستغزل في الجوّ محارم، فيما حوافر تدكّ الأرض ولسان الحال يقول وعمر المحترمين يطول: quot;لا نزال هنا وسنظلّ هناquot;. وأنتِ تعرفينني، فأنا أكثر ما أكره إطلاق العيارات الناريّة. وسأطلب من جميع الحمران أن يكتموا، وأنا على يقين أنّهم سيستجيبون ليquot;.
وقال الحمار لروحه وقال، وبدورها حاولت أن تلجمه عن الكلام وإضاعة الوقت، حتى أخيراً اتّهمتْه أنهّ يهذي. واشتبكا، وشتمها وشتمته، وقال لها: quot;يا خنزيرةquot;. فقالت له: quot;يا خنزيرquot;. وهجم عليها، فرفعت بوجهه سكّيناً، فيما أتان كانت في مكانها تنهق، والحمار مشغول لا يسمع.
وجرى منها جدول. ونبت العشب، وازدهر، وذبل، واصفرّ، ويبس وتلاشى، والحمار ليس هنا. حتى من لا مكان برز إلى الميدان جحش إسمه: quot;جحشانquot; وقيل: quot;حمارانquot; له خمسة قوائم وهجم على أتان.
وفاضت القدور، وغرّد العصفور، واختلطت أرواح بأرواح، ونهض من بين النيام كرّ يُدعى كرّان، وتوعّد كوكب الأرض بالنهيق والبعر بعد تسعة أشهر.
وفي اليوم التالي، وعند بعض الماء، وقعت عين الموتور على عين الواتر وقال: quot;ها، أنا أخوك، كيف أيّها الخائن تخون؟. هل فيك ضمير؟. أعطني سكّيناً أريد أن أقتل نفسيquot;.
وسمع رعاة، وتسامروا في العشيّات، وضحكوا حتى تفحّصوا الأرض بأرجلهم، ومنهم سمع ركبان، وهؤلاء أوصلوا إلى أبعد البلدان، وتأثّر شاعر، وأعطى ما نظمه، بعدما أنقص وأضاف، إلى ملحّن خيّط لحناً. وقصدا، بعدما استعرضا المطربين والمطربات والمغنّين والمغنّيات والمؤدّين والمؤدّيات غنّوجةً من الغنّوجات الفرعونيّة العينين، التفّاحيّة الخدّين، العبليّة الزندين، المضمومة من فوق إلى تحت. فاشترت. وعملتْ quot;فيديو كليبquot;: تنهّدت وتأوّهت وتشخلعت وتثنّت ورقصت ولعبت كرّة السلّة وكرة القدم وجيدو وكاراتيه وتاكواندو والمصارعة الحرّة.
وخلبتْ ألبابَ الملايين، وأكثر ما خلبت ملوكاً ورؤساء صلموا الآذان وجدعوا الأنوف وثملوا العيون وقطعوا الأيدي والأرجل وأُمهِلوا، ولكن لم يُهمَلوا.
[email protected]