محمد سامي البوهي: أثبتت القصة القصيرة أنها جنس أدبي قائم بذاته، يمكن أن يَعتمد عليه الأديب كمنهج مستقل، فقد استطاعت أن تسير مواتية لمجريات الثورة الزمانية التي انطلقت بداية من منتصف القرن الماضي، فتداخلت مع جسدها، وخاضت معها مراحل النمو والنضوج، فورثت عنها طبائعها، التي انعكست علينا كبشر تحوينا بقعة زمنية واحدة، فخضنا مناحي حياتية جديدة كانت نتاج تلك التغيرات المتلاحقة التي خلفتها تلك الثورة هنا وهناك، لذلك كانت القصة القصيرة هي الكبسولة الأدبية السائغة التي يمكن أن يتناولها إنسان هذا العصر، الذي يعيش في دائرة صراع مع عدادات الزمن اليومية، التي تدفعه دفعاً لملاحقة متطلبات الحياة، في ظل الامتداد التكنولوجي، والتنافس مع التقدم الآلي الذي يهدد طاقاتنا البشرية، لذلك نالت القصة القصيرة حظها التلائمي الذي يناسب الآلية اليومية للقارئ الحالي، شكلاً ومضموناً، فلعب الاقتصاد الحَرفي دوراً حيوياً في جذب القارئ المتعلق بمهارة القراءة، لأخذ وجبة دسمة من الاستمتاع السريع، يتناولها صباحاً على مائدة إفطاره قبل أن يلحق بمنظومة الطوابير اليومية، وقد نالت القصة القصيرة حظها من رضا تلك الفئة التي وقفت على سلم المعرفة معلقة بذيل طاحونة العمل، وقد ظهر جيل من منتهجي كتابة القصة القصيرة، بالآونة الأخيرة، استطاع أن يحفر ملامحه على لوح الواقع القلق، فكل يوم تخرج علينا مجموعة قصصية جديدة صادرة بالجهد الذاتي للكاتب الذي لا ينتظر بالطبع العائد المادي من الكم الضئيل المطبوع من مجموعته، بل كل ما يأمله هو إثبات الوجود على الساحة الأدبية، ولكن الطموح المنشود من الوسائل العارضة لإنتاج كُتاب القصة القصيرة لم يقتصر على محاولات الطباعة والنشر الورقي فقط، بل تفرعت وسائل العرض للإنتاج القصصي القصير إلى ساحات أخرى نستطيع أن نسلط عليها الضوء من خلال محاولتين بارزتين:
-الفيلم الروائي القصير - مسرحة القصة القصيرة
أzwnj;-الفيلم الروائي القصير:
إن فكرة الفيلم الروائي القصير لم تكن فكرة مستحدثة، ولكن كتب لها الظهور بالسينما المصرية بفترة الستينات، ولكن لم يتم عرض الفيلم القصير كوحدة مستقلة، بل كان يعرض ضمن عدة أفلام قصيرة تشكل فيلماً روائياً طويلاً، و تطورت التجربة بالمجموعة السينمائية، (حكاية وراء كل باب)، وهي عبارة عن مجموعة قصص قصيرة اشترك في كتابتها (توفيق الحكيم- كمال يس- كاتيا ثابت)، وقد تم تحويلها لمجموعة من الأفلام القصيرة، قامت ببطولتها (فاتن حمامة) ومجموعة من الممثلين، وأخرجها (سعيد مرزوق- بركات)، وقد تم تقسيمهما إلى مجموعتين عرض إنتاج عامي 1973، 1980، ومن أشهر تلك الأفلام فيلم(ضيف على العشاء) لكاتيا ثابت، و(أريد أن أقتل-الساحرة -أريد هذا الرجل-أغنية الموت) لتوفيق الحكيم، وقد عرض كل فيلم كوحدة مستقلة، قامت بإنتاجها الفنانة (فاتن حمامة)، حيث كانت مدة الفيلم لا تتعدى نصف الساعة، بعد ذلك تقلصت تلك المحاولات، لأسباب تجارية تتعلق بمفهوم الفيلم القصير، وجمهوره، ولكن عاد الاتجاه لثقافة الفيلم القصير مرة أخرى منذ مطلع هذا القرن، كنتاج طبيعي لتلك الدفقة المنهمرة لكتاب القصة القصيرة من الشباب، للتعبير عن واقعهم الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي بالمجتمعات العربية، عن طريقة الومضة التي تسلط الضوء على الواقع الراهن كما هو، دون الالتفات لإدراج الحلول، لذلك كانت العودة للفيلم القصير هي الأنسب لتجسيد تلك الومضة المكتوبة، و الجدير بالذكر لمثل هذه الأفلام فيلم (الحادي عشر من سبتمبر) للمخرج العالمي (يوسف شاهين)، والذي قام ببطولته الفنان (نور الشريف)، حيث ناقش الفيلم واقع سياسي راهن، وأزمة حقيقية خلفتها أحداث الحادي العشر من سبتمبر، وقد تم تمثيل الفيلم بالولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك الفيلم القصير (صباح الفل) للمخرج (شريف البنداري) والذي قامت ببطولته منفردة الفنانة (هند صبري)، والفيلم مأخوذ عن مسرحيةquot;الاستيقاظquot;للكاتب الإيطالي (داريوفو)، وقد نال الفيلم جائزة لجنة التحكيم للأفلام الروائـيـة القصيرة في مهرجان الإسماعيلية الدولي العاشر في دورته الماضية وهو من إنتاج المركز القـومي لصناعة السينما في مصر وبإشراف رئيسه الناقد السينمائي المصري علي أبو شادي.مدة عرض الفيلم-8 دقائق فقط -، وقد ناقش الفيلم تلك المشاغل الحياتية التي تشغل الإنسان في الوقت الحالي، التي قد تؤدي به لفقدان الشعور بالزمن من حوله، وهناك محاولات شابة لإنتاج الأفلام القصيرة بالجهد الذاتي، للاشتراك بها في مهرجانات السينما التي أصبحت تعترف بوجود الفيلم القصير، مثل مهرجان دبي السينمائي، ومهرجان الخليج السينمائي، ومهرجان القاهرة السينمائي، ويصنع الفيلم القصير بإمكانات محدودة جداً، نظراً لضآلة الإنتاج، وبساطة الأدوات المستخدمة، المسايرة للتقدم التكنولوجي، كاستخدام بعض كاميرات (الموبايل) في التصوير، ولكن المحاولات الشابة لا تهدأ، ولاتكل، للنهوض بهذه التجربة، وفرضها على الواقع، وقد ظهرت أصوات تنادي بعرض فيلم روائي قصير بدور العرض قبل البدء في عرض الفيلم الروائي الطويل، وقد تم إنتاج مجموعة من الأفلام كانت بمثابة الإعلان عن إثبات الوجود، مثل فيلم (بورتريه) الذي يعرض لمشكلة اختلال الذوق الفني، وفيلم(رقم قومي)المأخوذ عن قصة ليوسف إدريس، و يحكي مأساة المواطن العربي، الذي لا تراه الحكومات إلا من خلال الأرقام، والأوراق الرسمية، وغيرها، وغيرها من الأفلام التي تخرج إلى النور كل يوم، وكلها مأخوذة عن قصص قصيرة لكتاب من جيل الشباب، و قد شهد عام 2007قيام مجموعة من الشباب المهتمين بصناعة الأفلام القصيرة بالإعلان عن (رابطة المبدعين العرب للأفلام القصيرة والرقمية)بالقاهرة، كما أنه بدأ العمل على بث قناة (الهدف الفضائية) للأفلام الروائية القصيرة، كأول قناة مصرية، وعربية تهتم بهذا الفن الذي بات حلماً واقعاً للكثيرين من كتاب القصة القصيرة...
بzwnj;-مسرحة القصة القصيرة:
لم تعد الطاقات المكبوتة داخل كتاب هذا الجيل، تجد في التعبير الكتابي متنفساً لها فقط، فكان لابد لتلك الطاقات من الانطلاق للبحث عن بدائل أخرى للخروج من جسد الأوراق المحدود، ولضعف الإمكانات الاقتصادية التي تكبل الكثيرين من مبدعي هذا الجيل، كان لابد من اختراع وسائل في متناول التحقيق، وذلك لخلق بيئة مبتكرة لتفجير تلك الطاقات الكامنة بدواخل المثقف العربي، والتي تسببت في شحنها الأحداث المتتالية المتعلقة بالقضايا العربية الراهنة، وكان لابد لكتاب القصة القصيرة من السعي لابتكار وسائل مغايرة للتعبير المقروء سواء كان صامتاً، أم جهرياً، فكانت الحاجة ملحة لصنع أساليب جديدة تشارك فيها الطاقات الجسدية مع الطاقات الذهنية المكتوبة، وبإمكانات متاحة تتناسب مع الإطار الاقتصادي المحدود، فبدأ السعي لفرض ما يسمى القصة الممسرحة على الساحة الأدبية، وهي وسيلة من وسائل العرض المبتكرة، التي تشترك فيها لغة الجسد مع اللغة المكتوبة، بأن يقدم الكاتب أو من ينوب عنه، العمل القصصي معتمداً على الإيماءات الحركية، و التعبيرات الصوتية التي تتناسب مع المقطع المكتوب، وبذلك يدخل المتلقي في بؤرة القراءة البصرية، والمسموعة في آن واحد، والحصول على المتعة من خلال عرض مسرحي محدود، لا يعتمد على الديكورات، والإسقاط الضوئي، وما إلى ذلك، بل يعتمد على اللغة الحركية مصحوبة باللغة المسموعة، وذلك يمنح المتلقي مساحات من الخيال الخاص، خصوصاً أن اللغة لا تحمل أكثر من 25% من المعنى ويبقى 75% من المعنى معلقاً للتخيل أو البصرية، وقد اتجه الكثيرون من كتاب القصة القصيرة الشبان إلى استغلال هذه المنطقة لعرض ما يكتبون من قصص، بإنفاق طاقتهم الجسدية مصاحبة لطاقاتهم الذهنية، ومن البارزين في تقديم هذا النوع من العروض القصصية، القاص والمسرحي العراقي( بيات مرعي)عندما قدم مجموعته القصصية(الخيول الجريفونية)، وهي مجموعة اتخذت من المزاوجة بين القصة والمسرح موضوعاً لها، وكان صدورها ببداية التسعينات، وكذلك القاصة والإعلامية السورية (نسرين طرابلسي)، التي انتهجت هذه الوسيلة لعرض إنتاجها القصصي بداية من عام 2004 بالكويت، ومنذ هذا الحين وهي تعرض لقصصها بتلك الوسيلة التي تحتاج إلى مهارة فردية، تعتمد على إجادة التوافق الحركي الذهني، لإمكانية الإستحواز على انتباه الجمهور، ولفت نظره بالتركيز على النواحي الدرامية بالقصة، وقد نال عرضها الأخير(بساقية الصاوي) بالقاهرة بمطلع العام الحالي حظه من قبول ورضا المتلقي، ورغم أن مفهوم القصة الممسرحة لم ينل حظه من الانتشار لأن ليس كل مبدع في استطاعته الجمع بين مهارتي الكتابة والعرض الحركي، إلا أنها باتت محاولة لا يمكن إنكارها في ظل السعي الدائم للتجديد، ولكنها تبقى وسيلة إمتاع مؤقتة تنتهي بانتهاء العرض المقدم، بخلاف وسيلة العرض المطبوعة (الكتاب)، و تجربة الفيلم الروائي القصير الموثقة، إلا إنها باتت وسيلة تعالج عدة جوانب هامة؛أولها العجز المسرحي لدينا والذي لا تدعمه وسائل الإنتاج والظروف الاجتماعية؛ ثانيها استقطاب جماهير جديدة للثقافة المقروءة خصوصاً بعد غياب الناقد المحرض على القراءة لأن الكثير من الجمهور يحتاج إلى فتح لمغاليق الإبداع الأدبي ليستطيع التفاعل معه، ومن هذا الجانب يمكن للعرض البصري المصاحب للنص أن يقوم بدور إعطاء القارئ مفاتيح النص حسب رؤية المؤلف المؤدي.
باحث وقاص مصري
[email protected]