في افتتاح مؤتمر أدباء مصر بمرسي مطروح
خيري شلبي يعلن قيام دولة السرد الروائي
محمد الحمامصي: منذ اللحظة الأولي لانطلاق الدورة الثالثة والعشرين لمؤتمر أدباء مصر في الأقاليم، تجلت روح الإبداع السردي العظيم الذي أرساه نجيب محفوظ وأجيال مهمة تلته، وتجلت روح الإبداع النقدي ممثلا بأجياله علي اختلافه رؤاهم ومناهجهم، وتجلت روح الشباب المبدع المتألق والطامح للتجديد والتطوير، تجلت روح مرسى مطروح أهلها وبحرها وهوائها النقي، هذا التجلي احتضن ما يزيد عن ثلاثمائة مبدع وناقد وفنان من أبناء مصر في الأقاليم، وحمل صورة الفنان فاروق حسني واللواء سعد خليل والناق؟د د.أحمد مجاهد مؤكدا علي تمايز هذه الدورة في رئاسة الروائي الكبير خيري شلبي والروائي والناقد المتميز سيد الوكيل، وبحضور نخبة من الساردين المهمين في تاريخ السرد المصري من بينهم إبراهيم أصلان.
وفي كلمته تحدث د.أحمد مجاهد رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة عن الأهداف التي تسعي الهيئة لتحقيقها من خلال تواصلها مع الجماهيرية محددا إياها في السعي للحفاظ علي الهوية القومية وتعميق الوعى لدى المواطن العادى مضيفا أن الثقافة الجماهيرية كمؤسسة لا تعنى بمشكلات ووعى المثقفين باعتبارها مؤسسة للجمهور ولا تختص بما يختص به المجلس الأعلى للثقافة
وأضاف د. مجاهدان الهيئة العامة لقصور الثقافة سوف تكرس جهودها خلال الفترة المقبلة فى رأب الصدع الحادث فى العلاقة بينها وبين الشباب الذى ابتعد تماما عن أنشطة الهيئة خلال الأعوام السابقة.
كما تحدث رئيس هيئة قصور الثقافة عن ما يثار حول عزوف الجمهور عن أنشطة الهيئة قائلا ان الهيئة ربما تعانى من مشكلات فى المواقع ولكنها لا تعانى اى مشكلات فى الأنشطة مضيفا أن إدارات الهيئة المختلفة سوف تركز على الخروج بالأنشطة الى الجمهور بحيث تصل إليهم فى أماكن تواجدهم فى الجامعات والمدارس والاندية
وأضاف مجاهد : انا اعتقد ان الثقافة ليست الأدب والفن فقط بل ان الثقافة تعنى بإعلاء وعى المواطن فيما يتعلق بقضاياه الوطنية ومشكلات حياته اليومية وهو ما بدأته الهيئة من خلال سلسلة الندوات لتى أطلقتها مؤخرا لتوعية بأبعاد المشكلة الاقتصادية والمالية العالمية مشيرا الى انه جرى توقيع بروتوكول بين الهيئة والصندوق القومى للمشروعات الصغيرة يقضى بالتعاون بين المؤسستين فى تنظيم سلسلة من الندوات حول المشروعات الصغيرة يقام فى مختلف محافظات الجمهورية والمواقع التابعة للهيئة إيمانا بدور المؤسسات الثقافية فى الإسهام فى عمليات التنمية.
كما أشار د. مجاهد الى انه يعد أدباء مصر فى مؤتمرهم هم الجمعية العمومية الحقيقية للهيئة والتى يسعى كل من يتولى رئاستها للحصول على ثقتهم وأشار إلي انه يعد هذا المؤتمر نموذج حقيقى للديموقراطية
واستأذن د. مجاهد أمانة المؤتمر فى إضافة اسم الشاعر الراحل محمد الحسينى الى قائمة المكرمين خاصة وانه قد رحل قبل ايام قليلة من انطلاق فعاليات المؤتمر وان الوزير فاروق حسنى قد قرر مكافأة قدرها عشرة آلاف جنيه لأسرة المبدع الراحل
وفي كلمته أكد الروائي سيد الوكيل أمين عام المؤتمر أن السردُ ليس مجرَّدَ دربٍ من دروب الترفيهِ والتسلية، وليس مجردَ صورةٍ من صُوَرِ الأحلام الإنسانية، بل هو فعلٌ إنسانيٌّ، مفعَمٌ بطاقة الحياة، ومعادلٌ جمالىٌّ لواقعٍ نرفضُ تشوُّهاتِهِ، واستسلامَهُ الْمُهين لقوى الشرِّ والعدوان. وهو فوق ذلك، طريقةٌ لفَهم ذواتِنا وكشفِ غموضِ الآخَرِ، وزَيْفِ أساليبِ التفكيرِ النُّخْبَوىِّ الذى يقسِّم العالمَ بين سادةٍ وعبيدٍ، وحكّامٍ ومحكومين، وأقوياءَ وضعفاء.
هكذا، قاومت شهرزاد (صوتُ الحياة الخفيض) نزقَ السلطةِ وغطرسةَ القوة وفحولةَ الشهوة للدماء.
وأضاف قائلا : الآن، ونحن نَشهدُ عالَماً يُنتج أدواتٍ جديدةً للتعبير عن رغبته فى حياة أفضل، فإن السردَ يأخذُ طوابعَ وطُرُقاً غيرَ مسبوقة، وغير تلك التى عرفناها فى التاريخ والأسطورة والخطاب الدينىّ وميتافيزيقا العقلِ العلمىِّ، تلك التى كانت تمثّلُ السردياتِ الكبرى.
ها هو الإنسانُ الجديدُ، يعرفُ كيف ينتجُ السردَ بنفسِهِ بعيداً عن القوى الكُليةِ والكياناتِ الكبرَى، ليعبِّرَ، للمرّةِ الأولى، عمّا يريدُه هو من تلك القوى، وليس ما تريدُه تلك القوى من الإنسانِ، وهو بحسب مقولةِ بول ريكوار: quot;حراكٌ يضع الأدبَ فى خدمةِ الوجودِ بدلاً من أن يضعَ الوجودَ فى خدمةِ الأدبquot;.
إنه سردٌ جديدٌ، يتوزَّعُ بين أشكالٍ مختلفةٍ من التعبير، والوسائطِ الناقلةِ، على صفحاتِ الكتب والجرائد وشاشات التلفازِ والسينما، ويبدو أكثرَ اتساعًا وانفجارًا فى أفضية التكنولوجيا الحديثة، ليؤكد استقلالَه عن هيمنة السُّلطة، ويجعلَ من أشكالِ الرقابة والمصادرة على الفكر، شيئاً مُضحكاً يثيرُ الرثاءَ، وليس بوُسْعِنا هنا، أن نتذكّرَ قوائمَ الأعمالِ الأدبيةِ والفكريةِ التى طالتْها المصادرةُ والمنعُ بأساليبَ مختلفةٍ، ولم يَنْجُ منها حتى كتبُ التراثِ التى عاشت قروناً بيننا، ولم تشفعْ عالميةُ نجيب محفوظ لَه حتى لا يتعرَّضَ هو وأعمالُه للمصادَرةِ ومحاولاتِ الاغتيالِ، سواءً من قُوى الظلام والرجعية، أو من قِبَلِ مقاعدِ المسؤولية ضيِّقةِ الأُفق.
وليس بوُسعى هنا، سوى أن أدعوَ، بالأصالةِ عن نفسي والنيابةِ عن أدباء مصرَ؛ لِنُنْهِيَ كلَّ أشكالِ المصادرةِ والمنعِ، ولِنبدأَ تاريخاً جديداً من الثقة بين المثقَّفِ والسلطة، فقد أثبتتِ التجربةُ، أن عَزْلَ المثقفِ وتهميشَهُ لم يخلِّفْ لنا سوى المزيدِ من الضَّعْفِ والانحطاطِ والظلام.
وناشد أمين عام المؤتمر الفنان فاروق حسنى وزيرِ الثقافة، أن يحرِّر هذا المؤتمرَ من تلك العثراتِ ويجنِّبَ أدباءَ مصرَ هذه المعاناةَ السنويةَ، بأن تُخصَّصَ ميزانيةٌ مناسبةٌ لتغطيةِ كلِّ تكاليف المؤتمرِ. والأدباءُ ـ على أية حال ـ كائناتٌ قنوعةٌ، كلٌّ ما يحمِلون فى حقائبِهِم، ورقةٌ وقلم.
وفي كلمته أعلن الكاتب الروائي خيري شلبي قيام دولة السرد الروائي وقال : إنه لأمر مبهج حقاً أن تقوم للرواية دولة في ثقافتنا العربية المعاصرة، على أيدي جيل بأكمله، هو ذلك الجيل الذي أشرف بالانتماء إليه، والذي درجنا على تسميته ndash;خطأ أو صواباً- بجيل الستينيات. إني زعيم بأن هذا الجيل هو صانع مجد الرواية العربية، الذي أسس له إمامنا الأكبر نجيب محفوظ؛ وكنا نحن أول رعيل يتخرج في أكاديميته المصرية الخالصة. ذلك ليس من الغرور في شيء، ولا هو من قبيل الزهو والتفاخر. فالواقع أن تاريخ الثقافة العربية في مصر لم يعرف من قبل جيلاً فيه هذا الكم الوفير من الروائيين. هو كم وكيف معاً، كم في التنوع، كثرة في التفرد. فإذا افترضنا أن حديقة فيها مائة شجرة مثلاً، نكون إزاء مائة نوع من الفاكهة، لكل نوع مذاقه المختلف. وإذا كانت هذه الحديقة الروائية قد غاب عنها الجناينية، وافتقدت حركة نقدية تحرمها وترعاها وتنقيها من النباتات الشيطانية التي تتسلق الشجيرات لتسرق غذاءها، فإنها برغم ذلك أينعت، وبسقت، وأنجبت كل هذا العمران الروائي المصري والعربي المبهر حقاً، الذي انجذب إليه الشعراء والرؤساء والأمراء، وكأن الرواية قد أصبحت بالفعل ndash;كما وصفها أحد الدارسين- ديون العرب.
ولكن، يلوح لي أنها في القريب العاجل ستكون ديوان العالم كله، سوف تسترد عرشها الشعبي العريق، من قاطع الطريق الساحر الذي اختطف منها جمهورها نحو سبعين عاماً لايني يصب في عقولهم جهالات وملالات، إلى أن سطح مداركهم، فباتوا نسخاً متكررة من نموذج واحد قتله التلقي السلبي، سحق ملكاته الإبداعية الذاتية جعله حيوانا استهلاكياً، وتحول هو في أيدي التجار إلى جهاز إعلاني لا شرف له على الإطلاق. والواقع أنه لم يكن يصدر عن هذا الجهاز في يوم من الأيام شيء يكرس لمصلحة الجماهير، أو لمبدأ أخلاقي، أو حتى لعلاقات إنسانية سوية. اليوم تتبارى القنوات الفضائية العربية في شن حروب مجانية على مبدأ الحياة نفسه، وعلى التقدم بوجه عام، وعلى العقل. بات العالم كله مزرعة للإرهاب، عرفت القسوة الوحشية طريقها إلى قلوب المصريين، مات السلام الاجتماعي، أصبحت الكراهية عازلاً سميكاً يمنع التواصل بين الأخ وأخيه، جمود التبلد واللامبالاة تنشع رطوبته بين الطوبة والطوبة في كل بناء في مصر الآن، لم تعد أحجار الأبنية هي الأخرى يطيق بعضها بعضاً، ليس من الفقر وحده فحسب- وهو صديق مخلص للمصريين على طول الزمان- وإنما بفعل الضلالات والإثارات التي يبثها ذلك الجهاز الإعلاني الذي أصبح يوازي في خطورته اختراع البارود والذرة، ويليق بمخترعه أن يقتدي بألفريد نوبل، فيعتذر عن اختراعه الذي لم يكن بالتأكيد يرجو له أن يكون كذلك.
وفي اعتقادي ndash;حسب ما أقرأه من دراسات لعلماء اجتماع الأدب وعلماء النقد وعلم نفس المجتمعات أن العالم قد انتبه إلى خطورة هذا الجهاز في تنسيخ البشر. أصبحت الشعوب التي استسلمت لهذا الجهاز، سواء في أيدي حكام سخروه لخدمة طغيانهم واستبدادهم، أو في أيدي تجار وسماسرة ووكلاء يسخرونه لخدمة مصالحهم، هذه الشعوب باتت في أمس الحاجة إلى إعادة بناء الذات الفردية، أو المفردة بمعنى أدق. فإذا كانت الشعوب الناهضة تتكون من مجموعة أفراد مستنيرين، فإنها اليوم بحاجة إلى خطاب فردي، يغذي الذات المفردة بمشاعر المقاومة والوعي بواقعه، وإطلاعه على جوهر المسائل وحقائق الأمور، وتنبيهه إلى قواه الخفية، كي تساعده على أن يكون صاحب رأي فيما يدور حوله، صاحب موقف إيجابي فيما يختص بمصيره ومستقبل وطنه وعياله. فإذا كان التلفاز قد غذى فينا روح القطيع وخصائصه فإننا لابد أن نخرج عن هذا القطيع، نتمرد على شيئيتنا، أن نكون بشراً لا حيوانات يتاجر فيها السياسيون والنخاسون.
وإذاً؛ فإن الفن الوحيد المرشح للقيام بهذه المهمة الصعبة هو فن الرواية، حيث تتفرد الرواية بالقارئ في خلوة حميمة تخاطبه بندية، تغذي فيه فرديته الإيجابية.. يتبادلان معاً محاولة تفكيك العالم وإعادة بنائه من خلل الحواديت والعلاقات الدرامية الإنسانية في ملحمة الكفاح الإنساني من أجل الحياة في نبل وكرامة.
وإذاً، فمرحباً بهذا العمران الروائي، مرحباً بقيام دولة للسرد في الثقافة العربية المعاصرة. مرحباً بمؤتمركم الموقر وبكل هذه الرؤس الباحثة الدارسة الناقدة.
وإنه ليسعدني أن تكون آفاق السرد قد وصلت في الدراسات الأدبية إلى هذه الآماد البعيدة التي شرفت باستعراض رءوسها في برنامج مؤتمركم الموقر. وقد ضوعفت سعادتي لأن كل هذه الزوايا البحثية تبدو لي كأنها تدرسني أنا شخصياً في كل ما كتبته من قصص وروايات ودراسات نظرية وتطبيقية كثيرة.
وأظن أن من قرأني من حضراتكم ربما يكون قد لاحظ أنني قد حاولت الإطاحة بلغة الأدب الرصينة الموروثة، لصالح لغة الحياة، لغة العيش الفعلية، قرنية الألم، والحلم، والمناكفة، والمعافره، والفلفصه، والزمزقه، والحداقه، والمهيصه، والمرمطه، والزفارة، والروبة، والروث.. أقصد المفردات ذات الحمولات الشعورية المعجونة في عرق الكدح والسعي والمثابرة. لم يكن ذلك يتطلب مني أكثر من التأمل الدقيق في معاني المفردات العامية المتداولة يشع منها الزخم، لأعيدها إلى أصولها العربية، وأندهش من قدرة المصريين على تمصيرها بتحميلها دلالات حياتية قد تبعد بها عن معناها القاموسي؛ ولكن بالدراسة المبدئية لقواعد اللغة العربية نحوها وصرفها، يسهل وضع هذه المفردات في سياقات تجعلها قابلة للإعراب، مع الاحتفاظ بمدلولها العامي الذي يجب أن يوحي به السياق من تلقاء بنيانه، لقد اكتشفت عبر رحلة طويلة مع اللغة الفصحى، ورحلة أطول مع العامية بمستوياتها الطبقية والاجتماعية العديدة، أن العامية المصرية هي نفسها العربية الفصحى بعد أن نزلت إلى المزارع والمصانع والأسواق والشوارع والحواري، فأجهدت بعض المفردات، وأصاب بعضها العرج؛ لكن المفردات التي صمدت في معترك الحياة المصرية الزراعية التجارية الحرفية، أصبحت لغة قائمة بذاتها قد تشكل نطقها حسب إيقاع الحياة، تخلصت من بداوة الصحراء ومن خشونتها وقسوتها، ارتوت بالخيال الزراعي المتدفع في نهر النيل وتشربت عسل الطمي، فظهرت جمالياتها في البكائيات المصرية وفي أغاني الزرع والحصاد، والمواويل الحمراء. ثم ارتقت على أيدي النديم وبيرم وحداد وجاهين.. وكان من حسن حظي أن عشقت العامية وشربت من كل هذه الينابيع حتى الارتواء.
من جانب آخر فإني تلميذ مجتهد في أربع مدارس أسلوبية كانت مهداً لذائقتي اللغوية: إبراهيم عبد القادر المازني، ويحى حقي، وعبد الرحمن الشرقاوي، ويوسف إدريس. كل مدرسة من هذه المدارس الأسلوبية الأربع لعبت دوراً كبيراً جداً في المصالحة بين لغة العامة ولغة الأدب. على هدي منها، على أرض ارتوت من ينابيع العامية في مستوياتها السالفة الذكر، قامت تجربتي في بناء لغة قصصية درامية شفاهية تشكيلية معاً، قادرة على احتواء مشاعر البسطاء، واستجلاء دخائلهم.
كانت رواية (السنيورة) هي المغامرة الأولى في البحث عن سرد جديد يرفع الواقع إلى مرتبة الأسطورة. ثم جاءت رواية (الوتد) ثم تعددت المغامرات السردية، ليتولى دفة الحكي ناس ما كان لهم الحق في أن ينصت إليهم أحد من قبل، العربجي والجزمجي والبويجي وقاطع الطريق والمتشرد والمتسول، والموظف والمثقف والسياسي والفنان. ولم أكن لأجرؤ على الحكي بلسان أحد إلا بعد أن أكون قد صرت خبيراً تماماً بقاموسه الخاص. هل أحدثكم عن ثلاثية الأمالي، أولنا ولد، ثانينا الكومي، وثالثنا الورق؟ أم عن وكالة عطية؟ أو صالح هيصة؟ أو موال البيات والنوم؟ أو بغلة العرش؟ أو موت عباءة؟ أو العراوي؟ أو الشطار؟ أو فرعان من الصبار؟ أو رحلات الطرشجي الحلوجي؟ أو منامات عم أحمد السماك؟ أو لحس العتب؟ أو الأوباش؟ أو زهرة الخشخاش؟ أو نسف الأدمغة أو صهاريج اللؤلؤ؟ أو صحراء المماليك وبطن البقرة؟ ناهيك عن المجموعات القصصية.
أزعم أن تجربتي في السرد طويلة وحافلة بالمغامرات. على أن تجاربي في السرد لم تكن لمجرد الانعتاق من أسر الأدب ذي اللغة المصقولة التي لا تعكس إلا ظلال كاتبها نظراً لخلو جوفها من الرحيق الإنساني.. إنما كانت تجاربي السردية العديدة في تجارب حياة عشتها وعايشتها محتدمة في محيط حياتي؛ أخذت وقتها في النمو بداخلي حتى نضحت، فكلما أقبلت على كتابتها من خانتني وهربت، لتصير كالمعادن في جوف الأرض حيث تفور وتمور في زلزلة تبحث عن منطقة رخوة تخترقها لتخرج. أرى شخصياتها في الحرفة تتمرد على أخيلتي السقيمة، ترفض لغتي العتيقة المعلبة.. فكيف لشخصيات من الأنفار والمشردين أن يدخلوا في الأنفاق اللغوية التي لا تؤدي إلا إلى الكذب والافتراء على والإفتئات على حقائق التاريخ.
ولكن الذي خدمني حقاً وأعانني على اقتحام هذا التنوع، هو التحامي الوجداني المبكر بالسير والملاحم الشعبية، وبدراسة الفولكلور الشفاهي والمدون، الذي كان له أكبر الأثر في مساعدتي على الفهم الصحيح والدقيق للشخصية المصرية من خلال مكوناتها الوجدانية الماثلة في الفولكلور، بجميع أجناسه الفنية. غير أن ذلك كله لم يكن ليفيد بدون هذه التجربة الحياتية المروعة التي عشتها متقلباً بين الحرف والمهن: من عامل ترحيله إلى بائع سريح إلى ترزي إلى مكوجي إلى بائع في محل، إلى كاتب أنفار، وكاتب محامي، ومدون حسابات في مخبز، وما بين جراج للسيارات في مدينة المنصورة، ناهيك عن فترات تدريب وتجريب في مصانع وفابريقات عديدة في الإسكندرية.. إلخ إلخ. وإلى يومنا هذا لا أزال أقدس العمل اليدوي، وحتى وقت قريب جداً كنت أتوق إلى الجلوس إلى ماكينة الخياطة في ضوء الكلوب ووشيشه المؤنس في دكان المعلم فرحات البربري في بلدتنا خلال شهر رمضان. وفي مكتبي وفي مطبخي أحتفظ بأدوات وعدد غريبة جداً: شواكيش ومفكات وزرديات ومسامير، وإبر خياطة وبكرات خيط وكستبان وحفنة أزرار.. إلخ إلخ.
عفواً سيداتي وسادتي أصحاب هذا المؤتمر الموقر. لست نرجسياً ولا أحب الحديث عن نفسي.. إنما أردت أن أفرح بين أيديكم بهذا الذي يجري، وبين أعطافي طفل غرير مغتبط بما أنجز، ليقول إن كل ما خطه قلمه منذ عرف الكتابة إلى اليوم لم يكن إلا بعض محاولة، لم أتأكد بعد- وأظنني لن أتأكد فيما يبدو- مما إذا كانت تنتمي إلى الفن حقاً أم أنها محض هراء. كل ما أنا متأكد منه- ومجموعة تقليب المواجع بين أيديكم تشهد على ذلك ndash;أنني سأبقى ما حييت ولوعاً بفتح آفاق جديدة للسرد القصصي تكون أكثر قدرة على اختراق المناطق المجهولة في البنيان الإنساني، والوصول إلى أدق الخفايا في الجبلة الإنسانية. ولن نفلح في ذلك حقاً إلا باستلهام ملكة القص العظيمة المتأصلة في الشخصية المصرية، سيما في مستوياتها التحتية المكافحة المنافحة معاً.
أرجو لمؤتمركم الموقر أن يكون عوناً جديداً على مزيد من التجديد في لغة السرد وأشكاله الفنية، وأن يكون إسهاماً مشهوداً في قيام ونهوض وازدهار دولة السرد الروائي.