د.باسم عبود الياسري: إذا كان ظهور القصة وتطورها مرتبطاً بالصحافة، فإن دخول وسائل الاتصال الحديثة الانترنت وكثرة المواقع المتخصصة وغير المتخصصة سيتيح مجالاً أوسع أمام الراغبين لنشروا نتاجهم، وهكذا فإن المتابعة من قبل الناقد والقارئ معاً سوف لن تكون بالمهمة اليسيرة، غير أن التفرد بين المبدعين سيبقى قائماً، والتميز بينهم سيظل واضحاً، وإن كان ذلك سيأخذ بعض الوقت.
من الأسماء التي بدأت تترسخ خطواتها الإبداعية في أكثر من مجال والقصة القصيرة إحداها القاصة الجزائرية كريمة الإبراهيمي الواثقة من موهبتها، تقدم نفسها بهدوء صوتاً واعداً دون أن تتعكز على شهادتها، رغم أنها أستاذة جامعية في إحدى الجامعات الجزائرية، فهي تدرك أن للإبداع شروطه، غير شروط الشهادة، فنجحت في الحالين.
كتبت كريمة الإبراهيمي في مجال الرواية والقصة القصيرة والشعر، فأصدرت مجموعتها القصصية quot;مدن الموتquot;، كما أن لها ثلاث روايات هي: مطر، رائحة( لأشيائه)، وصمت الأشياء. وفازت بجائزة الامتياز بفرنسا عن القصة القصيرة عام 2002، وهي بهذا الرصيد الأدبي الغزير والمتميز تنبئ بموهبة حقيقية تسعى إلى صقلها بالدراسة والدربة معاً.
وإذا كان هناك تقصير في عدم معرفة قاصة مثل كريمة الإبراهيمي، فبسبب القطيعة غير المعلنة بين العرب أنفسهم تلك القطيعة التي خلقتها السياسة، فكان صانعو الثقافة وهم ضحاياها يقفون أمامها عاجزين تماماً، غير قادرين على تجاوزها، فما زال السياسي هو المؤثر، ما دام المثقف يكدح نعم يكدح من أجل إن يصدر كتاباً، فلا يمكنه أن يطبع منه أكثر من 5 آلاف نسخة في أحسن الأحوال على نفقته الخاصة، وهو يكتب بلغة أمة يصل تعدادها إلى 300 مليون إنسان.
في قصتها quot; وقتلك البحرquot; تناقش الكاتبة كريمة الإبراهيمي محنة الشباب العربي الذي واجه وأداً لأحلامه، فتغلق دونهم الأبواب مما يحرمهم من التعبير عن أنفسهم، وينشغلون بمعيشتهم التي تأبى التحقق. تبدأ القصة بعبارة لها وقع مؤثر في نفس القارئ quot;سأرحلquot;، والرحيل هنا بمعناه الموجع الذي يتمثل أمام الكثير من الشباب مثل شبح لكنه يبقى حلاً حاسماً لمشاكل كثيرة لا حل لها. والقصة إنما هي صدى لمفارقة إنسان عزيز تضطره الظروف لترك الأحبة، فتتساءل المرأة مع نفسها في حيرة quot; لماذا كنتُ دوما أشعر أن البحر سيأخذك مني؟quot;، فتتمثل أمامها ثنائية البحر والحبيب وما بينهما الرحيل.
مساء موحش وجسد أزرق هو جسد حبيبها ومدينة تعيش على وقع الموت، تلك هي مقومات حياة امرأة أحبت وأرادت أن تعيش بكرامة مع من تحب، والمرأة هنا تتماهى مع آلاف النساء العربية مثلما تتماهى مدينتها مع عشرات المدن العربية التي يموت أبناؤها لأسباب عديدة منها الجوع والفقر والحروب وكل ما قد يبتلي به الإنسان العربي من عذابات.
لقد صار الحزن يلازمنا جميعا والموت صار عادة يومية وفقدنا حواسنا ولا شيء جميل في هذا العالم، ذلك هو الإحساس المر الذي تشعر به تلك المرأة quot;كل الأشياء هنا تهرب في اتجاه الموت...quot;، ماذا يبقى للإنسان إذن حين يتحول الموت إلى حلم كما تقول القاصة؟ وفي لحظات الضياع نتذكر أيامنا الجميلة ولا ندري هل هي جميلة فعلاً أم هي كذلك لأنها غادرتنا أم لأن أحلامنا كانت بسيطة؟ مع ذلك فهي لم تتحقق؟
تتذكر المرأة وهي هنا ربما القاصة أو امرأة تشبهها فهي مثل كثير من النساء العربيات يلفها الحزن والأسى، ومرارة الفشل تملأ فمها، لكنها لا تتخلى عن الأمل حين تتحدث بلغة هي أقرب إلى الشعر منها إلى القص، فينبغي أن نحلم مهما كانت الحياة مرة، quot; كان الزمن جميلا...وكنا عاشقين...وكان العمر لنا..أمطرنا الشوارع بقصائد الجنون العابث...وأمطرنا البحر بضحكاتنا...أدور...وأدور...وفستاني الأخضر...يطير...ويدك تمتد عاليا لتضم يدي...وأتوقف فجأة أمامك...أقترب وأقترب وأتلاشى بين يديك وصدرك العاجي يستقبلني بدفء وتجذبني إلى البحر...إلى عمق البحر...لتغسلني بسُكر من يديك...سأسكنك جزيرة من العشق والنوارس وهذا الوطن يشهد...quot; بهذه اللغة الجميلة تتذكر المرأة أيامها الغابرة وسعادتها المتلاشية، حيث العشق والمطر اللذيذ والضحكات وهفهفات القبلات الخجلى والبحر حتى البحر كان جميلاً.
ويبدو أن القاصة عاشقة للسينما ففي أكثر من مكان تجد نفسك أمام سيناريو فهناك توفيق في رسم اللقطة دون أن تفقد حرارتها الشعرية، فتستخدم التذكر - بالفلاش باك ndash; حين تسترجع لقاءاتها بحبيبها quot;قلت لي يوما ونحن نقف من على-تكجدة- والثلج اللؤلؤي يرصع قمتها...وشهد الوطن يومها...شهد حلمنا المكسور في شوارع نلفها راكضين خلف ملفات نجمع أوراقها ونجمع معها حزمة أحلامنا المسافرة في الهواء...شهد طوابيرنا ونحن نقف بالآلاف من أجل إعلان وظيفة لشخصين...شهد بكاءنا مع كل ملف يعود إلينا مع ملاحظة بالأحمر-مرفوض-...شهد الألق المنطفئ بأعيننا كلما غادرنا امتحان الوظيفة المعدة مسبقا...quot; بعد كل هذه العبارات ماذا نتوقع أن يقول البطل المهزوم هنا لا بعجز منه، ولكن بعجز تلك الأوطان التي تلفظ أبناءها، وتصير سبباً في فرقة الأحباب، قال لها بذهول متبادل مع من يحب quot;سأرحلquot; هذا إذن الخلاص نهرب من أحلامنا وأحبتنا؟
البحر حاضر بقوة في القصة لأنه الطريق إلى الحلم لأبناء المغرب العربي حيث أوربا في الطرف الآخر، وربما كان طريقاً للموت أيضاً، لذلك quot; هو البحر دوما بيننا...الهاجس ذاته يلاحقني...سيأخذك مني...هل تذكر....؟quot; هكذا تحدث نفسها، فقد راهنت على البحر الذي سيفرق بينهما. تعود تتذكر حبيبها quot; كنتَ شاعرا...كنتَ تخلط الكلمات مثلما تخلط تلك المواد لتجاربنا في مخبر الكيمياء...وكنا ندعوك بالكيميائي الشاعر...quot; تنجح القاصة هنا في جعل القارئ يتعاطف مع البطلين شباب بعمر الورد مثل أحلامهما يحبان الحياة، وتوغل القاصة حين تعود إلى لغة الشعر ليتصاعد الإحساس بجمال تلك الأيام quot; نحن نحب الشعر، كما نحب القمح، وهذا السنونو الدائر، يقرع أجراس المواسم القادمة...quot;
تستحضر القاصة أجواء أخرى أجواء مرعبة هي ذاتها التي نجدها في بغداد وبيروت وفلسطين وفي مدن أخرى، نعم فنحن أمة نشترك في اقتسام الأحزان ويبدو أن هذا فقط ما يجمعنا، فالوطن لم يعد جميلاً كما كان، وكما رسمناه في وجداننا بصورة مثالية quot; وتحول الوطن إلى رحلة دم...توزع الرصاص في روابيه...وولى السنونو رعبا...ولت المواسم...وانطفأ الشعر في عمرك الفتي...quot; نعم هكذا ينطفئ الشعر والأحلام في عيون الشباب العربي الذي لا يطلب الكثير غير عمل وحياة كريمة، وهما حقان طبيعيان على الدولة أن توفرهما له.
تتفاقم أزمة البطل فلا عمل ولا فرصة للزواج ولا كرامة عيشquot; ست سنوات طحنت الحلم والعمر وبقايا القصائد الباكية...وصرنا نلتقي لنبكي على وطن يبكي...quot; وتتصاعد مأساة الفرد العربي حين تتحول مدنه إلى ساحات حرب حقيقيةquot; ومبعث هذا الخوف أن الأمان بات مفقوداً quot; صار الرصاص والقنابل جزءا من أيامنا وكنت أخاف أن تفترسك المدن الدامية كلما غامرت صوب إحداها ملاحقا فتافيت الأحلام المتطايرة في فضاء ضبابي...quot;
تكرر القاصة quot;سأرحلquot; وهي تنذر بشيء ما سيحصل وهل هناك أقسى من أن نرحل عمن نحب؟ حتى وإن كان رحيلنا من أجلهم, ومن أجل إيصال شحنة الفزع إلى القارئ لابد أن تختار مفردات متوائمة مع ذلك الإحساس quot; سأرحل...مرة أخرى هاجس البحر الذي أخاف أن يأخذك...وانفلتت يدك من يدي فجأة المساء الموحش يبكي حزنا...استدرتَ إلى البحر الغاضب ويدك تدير الخاتم الذي بإصبعك بغضب...شيء ما فيك كان منطفئا ذاك المساء...ضوء عينيك...quot; نعم هذا الانطفاء الذي يلازمنا في حياتنا فلا أمل يتحقق ولا كرامة تصان.
في حوار مقتضب - كان لابد منه - يكتشف الاثنان أنهما شيعا أحلامهما ولم يعد لهذا الوطن غير جثثهما، نهب حياتنا لهذه الأوطان التي لا تمنحنا إلا الموت، وهذه هي نذر الموت. حينها أدركت أن حبيبها لم يعد راغباً في شيء من هذه الحياة، تعود بذاكرتها إلى تلك اللحظة quot; اقتربتُ منك... أردت أن أختبئ في صدرك. كان صدرك باردا...للمرة الأولى لم أشعر بتلك الحرارة التي طالما غبت فيها كلما ضمنا البحر وسكر يديك...للمرة الأولى أكره البحر بعنف لأني تأكدت أنه سيأخذك مني...quot; وما الصدر البارد وانطفاء الحرارة إلا شعوراً مبكراً بالفقد، توقعت أنه سيرحل إلى الطرف الآخر من البحر حيث الحياة والبهجة المطرزة بالألوان، فالحياة على الضفة العربية باتت مستحيلة.
وفي مشهد جميل مفعم بالأسى تتذكر كيف أخبرها بحزن quot; يمكنكِ أن تستعيدي أحلامك مع رجل لم تكسره الأيام بعد...قلتَ...ويدك تنزع ذاك الخاتم الذي وحدنا لست سنوات...داهمني الدمع وأنا امسك بيدك...لا تنزعه..قلت لك...quot; إنها محاولة للتمسك بالحلم بالحبيب بالأمل المفقود.
وتتصاعد وتيرة الألم حين ترسم القاصة تلك اللحظات بتفاصيلها، وجدت القاصة تتحدث عني وعن أحلام جيل كامل كان يحلم منذ عقدين ndash; وما زال ndash; هل حياتنا تتشابه إلى هذه الدرجة من الحزن والخيبات؟ quot;في ذلك المساء كنا نلم أشلاء حطامنا ونحن نغادر البحر بغصة دمعنا الذي امتزج بماء البحر الغاضب...لنصبر قليلا أيضا...قد تتغير الأشياء...قلتُ لك وأنا أودعك بينما تودعني آخر البقايا من روحي...دمرتني تلك اللحظة...دمرني الدمع المختنق بأحداقك وارتعاشة يديك الباكيتين...دمرتني تلك اللحظة وأنت قد غيبك ضباب المساء الموحش حين افترقنا بعد صمت طويل...لم نكن قادرين على اجتياز مسافة أخرى نحو حلم آخر ينكسر بعد عمر من الركض والخيبات...quot;.
هواجس المرأة لم تتوقف فهي ترى أن لقاءها بحبيبها كان مختلفاً في المرة الأخيرة، كان شعوراً غريباً يملأ نفسها، شعور مبهم لكنه لا يفضي لغير الأسى. quot;عدتُ الى البيت وملايين الأصوات والأشباح قد تجمعت بقلبي...كانت المرة الأولى التي تتأخر فيها عن موعدنا...quot;. كان اكتشافها لموت حبيبها مستل من السينما أيضا، فقد رسمت صورة طبيعية لامرأة تشاهد التلفزيون بلا مبالاة حين تتوقف عند خبر وفاة عشرة شباب كانوا على متن قارب باتجاه اسبانيا.
وفي محاولة لتكذيب حدسها تتصل بأبيه الذي يخبرها بسفره، quot;ازداد الشعور المرعب بداخلي...شيء ما يؤكد لي أنني لن أراك مرة أخرى...لن تغسلني بسكر من يديك ولن نقف متلاصقين كما كنا نفعل على قمة-تكجدة-.أسرعت في الصباح الى بيتك...انتظرت وجهك ليشرق مع ذاك الصباح وأنا أحاول أن أطرد ذاك الشعور المرعب...وعدتَ...quot; نعم حدث ما كان متوقعا، حين جاء أبوه مع رجال آخرون يحملون شيئاًquot; كان والدك بوجهي وجمع من الرجال يحملون شيئا...كان الدمع يلمع على وجهه وهو يفسح المجال لدخول الجمع الذي يحمل جثة ما...تراجعت الى الخلف وذهول كبير يسيطر علي...تقدم الرجال الى الداخل ووضعوا الجثة وابتعدوا مرددين:البقاء لله...quot; عندها ادركت أن كل شيء انتهى.
اقتربت من الجثة لترى بنفسها لتتأكد من حدسها، رفعت الغطاء عن وجهه الذي لم يعد يشعر بالأسى كما كان quot; في تلك اللحظة...لم أفكر إلا بك...واصلت رفع الرداء فطالعني وجهك الأزرق المنتفخ...واصلت رفع الرداء ومددت يدي لألمس يديك...كان شيء ما يلمع بإصبعك...انه ذاك الخاتم الذي وحدنا لست سنوات...quot;
ما تمالكت نفسها quot; صرخت بك:لم البحر؟ هل أحببته أكثر مني؟أم أنا الموعودة بفقدانكما معا؟ لم يقتلك الرصاص...فقتلك البحر...هل هو قدر هذا الوطن أن يموت أبناؤه قهرا أو رصاصا أو غرقا...؟ من ذلك اليوم وأنا أكره الخواتم...وأكره البحر...quot;
استميح القارئ عذراً لإيرادي مقاطع عديدة من القصة، فكنت أريد بها أن أوصل إليه الشحنة العاطفية التي شعرت بها وأنا أقرأ القصة. لقد عبرت القصة بلغة شاعرية لا تخطئها العين ولا الذائقة عن مأساة أجيال من الشباب العربي لم تنتهي ويبدو أنها لن تنتهي في المستقبل المنظور، حيث يمضون سنوات عمرهم يتلظون من أجل لقمة العيش، بينما غيرهم يعيش حياته بتفاصيلها طولا وعرضا، وعلى مرارة أيامنا يطالبوننا أن نعبر عن فرحنا بحياتنا ونهتف لهم.