فيصل الياسري: كانت اصوات النسوة في الغرفة المجاورة ترتفع وتتداخل لتصبح ضجيجا غير مفهوم، وكنت اتسائل مع نفسي وانا في مكتبي غير البعيد عنهن هل هن يتحاورن ام يتشجارن!! وعندما خرجت زوجتي للحظات اشرت لها متسائلا عما يجري في الصالون بين صويحباتها فاجابت باقتضاب شديد (نحن نتناقش عن الروح.. ما هي؟ وكيف تخرج من الجسد؟) قلت لها هذا التساؤل عن الروح قديم عند البشر فالروح أمر يصعب عليهم فهمه لأنه أكبر من علمهم وعقولهم ومهما أوتي الإنسان من العلم لن يفهم حقيقة الروح وعندما سألوا عنها النبي (ص) نزلت الاية (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً)
قالت هذه نعرفها ولكننا نناقش في جلستنا النسوية موضوع رؤيتنا للروح، لماذا لا نراها؟ قلت أننا لا نرى الأرواح ولا نسمع صوتها لا لأنها غير موجودة ولكن لقصور في العين والأذن البشرية عن إدراكها... والقرآن الكريم يؤكد أن هناك أشياء كثيرة حولنا لا نراها بأعيننا فيقول تعالى: (فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون)
المسائل التي شغلت السيدات المتسامرات بالغرفة المجاورة ؛ كانت قد شغلت قبل اكثر من سبعمائة سنة القيصر الالماني فردريك الثاني (حفيد برباراروسا) فاراد ان يعرف ما هي الروح وكيف تخرج من الجسد؟ وقد حاول ان يجد لها جواباquot; بطريقته الخاصة التي تميزت بالعنف والجبروت ؛ فعمد الى بناء جدران محكمة حول السجناء وهم احياء، ثم تركهم هكذا حتى يلفظوا انفاسهم الاخيرة ؛ انذاك كان يأمر بخرق الجدار بفتحة ضيقة ليرى فيما اذا كانت الروح ستخرج منها!! الحمد لله ان العلماء لا يلجأون في ايامنا هذه الى مثل تلك التجارب للتعرف على طبائع الاشياء!!
لقد حاول الإنسان منذ القدم أن يعرف ما هي الروح وما هو الموت، وما علاقة العقل بالمخ والروح بالجسد وهل قدرات الانسان ترتبط بالروح ام بالجسد؟! وهل الادراك والتفكير والوعي هي من عطاء الروح ام الجسد، ام منهما معا!
هذه الامور شغلت العلماء والفلاسفة منذ اقدم العصور، وحاولوا في كل زمان ان يجدوا تفسيرا لها متناسبا مع طروحات ذلك الزمن، وفي عصرنا / عصر الانفجارات العلمية بدأ العلماء الاستعانة بالأجهزة الحديثة لدراسة موضوع الروح، وتم تخصيص فروع في بعض جامعات أوروبا وأمريكا لدراسة عالم الارواح مع غيره من الظواهر التي تسمى ما وراء الطبيعة. وكانت أول جامعة خصصت فرعا لدراسة الظواهر المتعلقة بالروح والنفس البشرية هي جامعة كامبردج سنة 1940م ثم اكسفورد سنة 1943م
ومن أوائل التجارب التي كانوا يجرونها لتقدير وزن الروح بعد خروجها من الجسم أن يضعوا إنساناً يحتضر على جهاز به ميزان ويضعون على رأسه جهازلقياس ذبذبات المخ الكهربائية أثناء الوفاة وعلى قلبه جهاز لرسم القلب! وحيث بعض العلماء يعتقدون ان الروح عبارة عن موجات ذات تردد عالي وأنها موجودة بيننا في كل مكان وفي العالم الأثيري وضعوا كاميرات خاصة تعمل بالأشعة تحت الحمراء على امل تصوير الروح أثناء خروجها!!!... ورغم كل هذه الأبحاث والإنجازات فما زال موضوع الروح أحد الأسرار الغامضة على العلم، وما يزال الدين هو مصدر المعرفة الرئيسي عن سر الروح.
لم يرد أي تعريف للروح في التوراة ولا في الإنجيل وإنما وردت هذه الكلمة بأوصاف أخلاقية ومعنوية مثلا لفظ الروح القدس كنية عن الله والروح الخفية للملائكة و الروح الشريرة أي: الشيطان ,
اما في الاسلام فقد لخص القرأن الجواب بجملة (..قل الروح من أمر ربي) حتى لا يقع الناس في البلبلة والظنون، وفي اكثر من موضع يؤكد الله تعالى أن الروح هي نفخ من روح الله وطبيعتها من طبيعة الله فهي لا ترى بالعين البشرية، وقد اهتم العلماء المسلمون بدراسة موضوع الروح والكتابة عنها ومن ذلك كتاب (الروح لابن سينا) وكتاب (الروح لابن القيم) وغيرها على مر العصور.
ويؤكد القرآن الكريم أن الروح لا تبعث في الجنين في بطن أمه إلا بعد الشهر الثالث من عمره وهو ما توصل إليه العلم في العصر الحديث. فالجنين قبل ذلك لا يكون كامل النمو فهو إما نطفة أو علقة أو مضغة، وكلها مراحل بدون روح، وفي ذلك يقول الله تعالى: (ثم سواه ونفخ فيه من روحه) ومعنى سواه: أكمل خلقه... ومعناه: أن نفخ الروح لا يأتي إلا بعد اكتمال الخلق والنمو في الرحم وهذا ما يؤكده العلم فالجنين بعد الشهر الثالث يتحول إلى إنسان حي وله حركة إرادية ويسمع الأصوات بل إن بعض الأبحاث العلمية تذكر أنه يطرب للموسيقى وينزعج لخلافات الوالدين ولا يحدث ذلك إلا بعد اكتمال الشهر الثالث.
وكثيراً ما يتحدث القرآن الكريم عن الروح بكلمة النفس والله تعالى يحفظ الروح داخل الجسد فلا تفارقه إلا بأمره وفي الموعد المحدد وفي ذلك يقول تعالى: (إن كل نفس لما عليها حافظ.)
لقد اطمأن الانسان المسلم الى ما قدمه القران من تفاسير حكيمة للخلق والحياة والموت التي تتم بارادة الاهية محكمة، بينما حاول بعض العلماء ان يجدوا تفاسير محسوسة مادية، واجوبة تجريبية لبعض الاسئلة ومنها مثلا: هل للروح وزن؟
في عام 1907 قام الطبيب الامريكي دانكان ماكدوغال بتجربة خاصة ؛ حيث كان يربط الشخص وهو يلفظ انفاسه الاخيرة على ميزان دقيق ؛ ويزنه قبل الموت وبعد الموت ؛ وقد كرر هذه التجربة على عدة اشخاص ؛ وهو يزعم ان الوزن كان ينقص كل مرة بمقدار 10 الى 42 غراماquot; بعد الوفاة! وزعم ان هذا الفرق بالوزن ربما هو وزن الروح!!
كل هذه المحاولات في التعرف على ماهية النفس البشرية هي مجرد اوهام ضبابية وكلام مبهم وتكهنات خائبة ؛ فامر الروح عند خالقها،
ثم حاول العلماء وما زالوا يحاولون فهم طبيعة الانشطة البشرية المتنوعة وعلاقتها بالروح او بالجسد، مثلا ماهية المخ والعقل ؛ وكيفية التفكير والادراك ويعتقد العلماء انهم قد توصلوا الى معلومات مفيدة توسع من دائرة معارفنا حول ما يجري داخل الجمجمة البشرية.. ويأملون استكمال النظريات عن ماهية المخ وحقيقة الذات الانسانية ومسالة الوعي والعقل الباطن ومن ثم التوصل الى الاجابة عن السؤال المحير(من انا؟) وما الذي يتحكم في ادراكنا ووعينا وتفكيرنا.. الروح ام الجسد!! ام هما معنا؟
وكلما اقترب العلماء مما يعتقدونه جوابا لتساؤلاتهم اكتشفوا بانهم يواجهون جوانب مبهمة تربك النظريات وتعقد البحوث! ومن اهم الحقائق التي اكتشفوها والمثيرة للدهشة والاستغراب هي تلك التي تتعلق بالوعي الذي يحدد كيان الانسان وماهيته والذي ينبغي ان يكون اهم انشطة الانسان الذهنية،لكنهم وجدوا ان عملية الوعي ليست هي هم نشاط يقوم به المخ ؛ فحيز الوعي في الدماغ لا يتجاوز سبع وحدات معلوماتية! كما ان جهاز الوعي والادراك يعمل ببطء شديد نسبيا وهو ذو قدرات محدودة اذ لا يستطيع ان يميز اكثر من اربعين معلومة في الثانية - بينما يستطيع كمبيوتر متوسط القدرة ان ينجز في الثانية الواحدة اكثر منه بمرات عديدة!
الوعي اوالادراك اذن حسب رأي العلماء لا يشغل من النشاط الذي يجري في المخ الا حيزا محدودا وما هو مخصص للعمليات المتعلقة بالوعي من خلايا المخ العصبية لا يتجاوز 1% وعملية الادراك تتم بتلكؤ واضح حيث اثبتت التجارب بان ادراك الحقائق يتأخر بحوالي ثلث الثانية عن حدوثها مما يدل على كسل جهاز الوعي..
في عام 1956 وضع عالم النفس الامريكي جوورج ميللر قانوناquot; سماه { السبعة السحرية } وما زال ساري المفعول خصوصاquot; في مجال القراءة على الاقل ؛ ويقول القانون بان الشخص يستطيع ان يقرأ الكلمات من نظرة واحدة اذا لم تتجاوز سبعة حروف.. اي انه يدرك الكلمة من كامل شكلها،من مجرد رؤيتها كيانا كاملا (gestalt) اما اذا كانت حروفها اكثر من سبعة فانه سيضطر الى تهجي الحروف كي يتمكن من قرائتها!!
وبما ان معظم الكلمات التي يستعملها الانسان مألوفة عنده فانه يستوعبها من نظرة واحدة ويكون منها في ذهنه جملاquot; كاملة او جزء من جملة، وهنا ايضا لا تزيد مفردات الجملة التي يحتفظ بها الانسان في ذهنه للحظة واحدة عن سبع كلمات! ويعتمد استعمال أية لغة على هذا المبدأ الذي سماه ميللر مبدأ التشطير اوالتنتيف (CHUNKING) (تجزئة الحروف وتكوين الكلمات وتركيب الجمل لتعبر عن مبتغى الحواس ومقاصدها)
وحتى في مجال حفظ ارقام الهواتف والمؤثرات الصوتية والرموز الدلائلية اثبتت التجارب السايكولوجية بان الادراك (الوعي) يجزئها فوراquot; الى مجاميع كل منها في حزمة من سبع وحدات.
اننا في الواقع لا نحس بهذه التجزئة اوالتشطير التي يقوم بها العقل الواعي لانها تتم بتلاحق وتتابع، متدفقة منسابة بشكل يبدو غير ارادي ولكن هذا التتابع نفسه يجري ببطء نسبياquot;.
وقد قام الالماني ارنست بوبل (وهو مختص بفسيولوجية الاعصاب) بتجارب لحساب زمن تلكؤ الادراك عند الانسان فوجد ان الادراك يشطر الاحداث الى مفاصل كل منها يستغرق ثلاث ثواني وهذا ينطبق على كل نا يتلقاه الشخص ان كان شعراquot; او موسيقى او اغاني او كلام او مؤثرات صوتية... واية جملة كلامية او موسيقية او شعرية تتجاوز هذه المدة (ثلاث ثواني) يقوم العقل (الادراك) بتجزئتها (بشطرها) الى حزم متراصة كل منها في ثلاث ثواني.
ان العلماء بحاولون ان يفهموا طبيعة السلوك الانساني من خلال تجارب علمية مادية وان كانو يسعون لتفسير ظواهر روحية او نفسانية!! يدخل بعضها في عالم الغيبيات.. وفي تعقيدات تكوين الاسنان؟؟
في الداهمابادا، أقدم النصوص البوذية، وفي آياته الافتتاحية إعلان صريح بأن الإنسان هو ثمرة أفكاره، وبأنه إذا ما تكلم أو تصرف بقلبٍ كدر فالمعاناة هي العاقبة، لكنه حينما يتكلم أو يتصرف بقلب نقي فإن السعادة ستلازمه دوماً حتى النهاية.
اذن إن نوعية الأفكار هي التي تحدد الدوافع لتصرفاتنا ولها التأثير الأكثر ثباتاً على شخصيتك وبالتالي على شخصية مَن حولك. ونجد هذا الفكرة ذاتها في كلمات يسوع المتحدية إلى الفريسيين: (اما ان تجعلوا الشجرة صالحة وثمرتها صالحة وإما أن تجعلوا الشجرة فاسدة وثمرتها فاسدة لأنها من الثمرة تعرف الشجرة. يا أولاد الأفاعي كيف تقدرون أن تتكلموا بالصالحات وأنتم أشرار وإنما يتكلم الفم من فضل ما في القلب. الرجل الصالح من كنزه الصالح تخرج الصالحات والرجل الشرير من كنزه الشرير تخرج الشرور)
لذا فإن الأفعال الآدمية هي دائماً وأزلاً مقياس كل الأشياء، هي دليل ابتداء الحضارات، وهي مؤشّر انتهاءها. حينما تفهم ما تمثِّل تلك الأفكار التي تحتشد في ذهنك، ما تمثل للكون بأسره، ساعتئذ تبدأ بذكاء أكبر في التعامل مع حضورها في الفكر وأنك نتملك خيار اختيار أي نوع من التكوينات الفكرية ستستحوذ عليك. ومفتاح فهم هذه الأفكار يكمن في إحرازنا النظرة البعيدة المدى، لأنفسنا ولعلاقتنا القريبة والحميمة بالصورة الآدمية وبالكون من حولنا فنحن جزء من كل لا نعرف حدوده، ونحن لسنا اصغر ما في الكون، بل ربما انطوى فينا سر الكون كله، كما يقول الشاعر العربي واظنه المعري:
(اتزعم انك جرم صغير وفيك انطوى العالم الاكبر)