جلال زنكَابادي:فـي مديـنة ستوك أون ترنت بمقاطعة ستافوردشاير، وفـي (14آذار1925) ولد John Barrington Wain(جون وَيْن/المتوفى في24مايس1994) وترعرع في كنف عائلة ذات منشأ عمّالي، حيث إبتدأ تعليمه الرسمي. ولئن كان منذ طفولته شغوفاً باغتراف العلم والمعرفة؛ فقد شجعه على ذلك المنحى ابواه المحبذان لنمط الحياة البسيطة، المشفوعة بسموّ التفكير، والمناهضان لأسلوب التعامل البرجوازي.وكان لوجود ماتبة والده طبيب الأسنان، و(نصير السلام)أثر إيجابي في زخم تثقيفه المتسارع إلى حدّ جرّه إلى الإنزواء، في سنيّ مراهقته وفتوته مغموراً بشعور التفوّق!
إلتحق جون وين بجامعة أوكسفورد، في السنوات (1943-1946) لنيل شهادة البكالوريوس. وهام منذئذ بشعر صموئيل جونسون، الذي يعده وين من منظوره النقدي شاعراً رفيع المقام ونموذجاً فذاً جديراً بالإقتداء في عالم الأدب، كما تعرف أثناء دراسته تلك بالشاعر فيليب لاركن والروائي كينكَلي أميس، وقامت بين الثلاثة صداقة حميمة.
وفي السنوات (1947-1955) أضحى وين ذا شأن في جامعة(ريدينكَـ)بصفته محاضراً في الأدب الإنكَليزي.ومع ذلك إحترف العمل منذ1956في شتى المجالات الثقافية، فضلاً عن تسنّمه لكرسي الشعر بجامعة أوكسفورد خلال الفترة (1973-1978) إثر منافسته الحامية للشاعر والمترجم والكاتب الشهير ستيفن سبندر! فلاغروّ إن قلنا أن لجون وين حضوراً مكثفاً متواصلاً منذ مطلع خمسينات القرن الماضي حتى وفاته في (24مايس1994) بوصفه شاعراً، روائياً، قاصاً، درامياً، ناقداً، باحثاً، صحافياً، كاتب سيرة وأستاذاً جامعياً ذا دور مؤثر.
رغم أن النقاد يعدّون جون وين كجون أوزبورن(1929-1994) وجهاً من الوجوه البارزة لتيار(الجيل الغاضب) لكنه في الواقع قد إنخرط في صف كتاب(الرواية التقليدية) بالضد من(الرواية الجديدة)أجل؛فهو مع أرنولد بينيت (1897-1931) ضد فرجينيا وولف (1882-1941) بل إلى حدّ إعترافه وإقراره بالتبعية لتقاليد دانيال ديفو(1660-1731) ثم إنه في أغلب أعماله القصصية والروائية، كما هو ملحوظ، مهووس بثيمة الـ(بطل بلا بطولة) رغم كونه نصيراً للطبقة العاملة، وطالما تناول تفسخ وتداعي الطبقة البرجوازية ذات المفاهيم العتيقة البالية، بنظراته الفاحصة الدقيقة، التي شكلت رؤيته النفّاذة، المشفوعة بسخرية ممتعة أحياناً، حيث آزرته الكوميديا في توضيح مقاصده الأخلاقية، خصوصاً وأن وين كان يسخر بشدة من الطروحات النهلستية(العدمية).
لقد عرف جون وين بغزارة الإنتاج وتنوّعه:
ثلاث مجموعات قصصية، ثلاث مسرحيات، وأربع عشرة رواية، منها:
*عجّلْ بالنزول/1953
*العيش في الحاضر/1955
*المتنازعون/1958
*إمرأة مسافرة/1959
*نانكل وقصص أخرى/1960
*إضرب الأب حتى الموت/1962
*الزوّار الشباب/1965
*موت سيقان هند وقصص أخرى/1966
*السماء الأدنى/1967
*شتاء في التلال/1970
*حامي الحياة وقصص أخرى/1971
*جونسون يغادر/1973(مونودراما)
*سطو في الليل/(1975مسرحية)
*حكاية الغافر/1978
*أكتاف شابة/1982رواية حازت على جائزة(وتبريد)
*حيث تلتقي الأنهار/1988
*أجيال جائعة/1994
غالباً ما كان يبدو وين-المقتدر جداً في نقده الأكاديمي-في نفور مع صفته الأكاديمية السكولاستيكة (المدرسية) فقد عدّ ميزته الأكاديمية معرقلة ومعيقة للتعبير الحقيقي عن ذاته وفرادته في مضمار الإبتكار والخلق، ولذا كان أيضاً مناهضاً للأدب الصحافي رغم كونه صحافياً مبدعاً دائباً! بل عالج غيرمرّة علاقة الشعر بوسائل الإعلام والأجناس الأدبية والفنية الأخرى. ومن بحوثه ودراساته(وهي 12):
*التفاسير/1955
*المقالات الممهّدة/1957
*بيت للحقيقة/1972
كما برع وين في تحرير وتقديم عدة مختارات شعرية مرموقة المستوى، ونها:
*...الشعر الرومانتيكي/1953
*...الشعر الحديث/1963
*...الشعر المعاصر/1979
وهنا تجدرالإشارة أيضاً إلى مؤلفه(الجريء الدؤوب)كسيرة ذاتية مدوّنة بأسلوب فني بديع، حيث يستعرض وين تجاربه وخبراته الحياتية والثقافية، وكذلك إنطباعاته عن روسيا والولايات المتحدةالأمريكية.
ممّا أسلفناه؛ أضحى جليّاً أن وين كان أديباً موسوعياً، واعياً لدوره، مثابراً، متعدد الإهتمامات والأنشطة؛ فلاعجب إذن، إنْ تلوّن عالمه الشعري واتسم بالرحابة والعمق حدّ التنوّع والإدهاش من قصيدة لأخرى؛ كما لو أنه قد وضع نصب عينيه العبارة الأثيرةquot;على المرء الذي يصبو إلى إبتكار الشعر المرموق أن يكون في حدّ ذاته قصيدة حقيقيةquot;لجون ملتون (1606-1674)
وقبيل الشروع بجولة خاطفة في عالم وين الشعري، نذكر بعض مجموعاته الشعرية (وهي عشر):
*الأحاسيس المختلطة/1951
*كلمة منقوشة على حافة/1956
*إبكِ في حضرة الله/1961
*الطريق الوعر1965
*رسائل إلى خمسة فنانين/1969
*فينغ/1975
*شعر مكشوف/1977
*قصائد للحظ/1980
*الثنائي/1981
*بلاد مفتوحة/1987
بالإضافة إلى صموئيل جونسون (1709-1784)، كما ذكرنا-شغف وين بشعر وليام إمبسون(1906-1984) الذي يعدّ المضمون الفكري كل شيء في القصيدة؛ومن هذا المنطلق فقد رجّح وين المحتوى على المبنى، بل وعلى اللغة، بحيث طغت على شعره سمة هارمونية نابعة من أرضية منطقية.وكان لروبرت كَريفز (1895-1985) أيضاً مكانته الأثيرة عند وين، بينما لم يكن يستسيغ أشعار أودن(1907-1973) وسبندر(1909-1995)بل وسائر شعراء أربعينات القرن الماضي!
وعلــــــيه؛ فقد صـــنّف أغلـــب النقـاد وين بصفته أحد أبرز شــعراءThe Movement(الحركة) والذين إقتفوا خطى إمبسون، ملتزمين بالتقاليد والأعراف الكلاسيكية، بالعكس تماماً من شعراءThe Group(المجموعة). ولئن تميّز كل مبدع حتى بين أقرانه المتجانسين في المقاصد؛ فإن وين قد تميّز بابتعاده الملحوظ عن النزعات الرومانسية، إذ فضّل دائماً تسمية الأشياء بأسمائها، وتحرير اللغة من هيمنة الكلائش المألوفة، ثم أنه لم يعر أهمية تذكر للخيال والعواطف الجامحة، وطعّم قصائده أحياناً بابتكاراته النثرية الراقية؛ بحيث لايخفى طغيان: الجدل، المنطق، الفكر السياسي، الفلسفة، وشتى الإستعارات المعرفية عليها، ومع كل ذلك، فإن قصائد وين غالباًما تتسم بالرقة والشفافية، ولقد بان لي ذلك فيWild track-الطريق الوعر كنموذج أمثل لمجمل شعره.ولعل سر هيمنة البنية الحكائية، لاسيما البالادية على معظم قصائده، كان يتجلّى؛كلّما تحدّث وين عن نفسه وشعره، فضلاً عن توضيح موقفه ونهجه في هذا الفن:
quot;...في أهم فترات عمري، كنت نصيراً متحمّساً لشعر القرن الثامن عشر، ويبدو أن ذلك قد ترك أثراً دائمياً ملحوظاً على طريقتي في كتابة الشعرquot;وسرعان ما يستدرك الأمر مشيراً إلى أن التأثر ذلك لم يتجل له جلاءاً مؤكّداً إلاّ عبر تقييماته الصائبة لشعراء آخرين؛كما الحال مع إمبسون، وذلك بالتفحص الدقيق لجلو: التوازن، الترابط الوثيق، والتحليل المنطقي لكل كلمة وصورة وإستعارة...
ولذا قد يخال البعض أن المنطق بجفافه يطغى على أشعار وين، لكنما الأمر بخلاف ذلك؛حيث يتسم معظم شعره بطراوة ورقة مدهشتين، كما في قصيدته(الزمن كان):
quot;حالما عرفت
أنّي لست حيواناً أو نباتاً؛
حتى صار دربي أشدّ وعورة
لاسيما استطعت
أن أقرأ الإشارات!quot;
...................
quot;ثمة ريح
قبّلت الأوراق والبحيرة
كنت أنا
تلكم الريح!quot;
..................
quot;كالزجاج تحطّمت
أمنياتي
أمام قدميّquot;
ومن(قصيدة، يقال أن عقلاً إلكترونياً نظمها):
quot;إنك تحسبني بعضك
كلاّ؛أنت تفتري
فأنا أنا
وقد خلقني الإنسان
وها أنذا أحاوره!quot;
وكلما نستغور أشعار جون وين؛يتجلّ وجه وين الإنساني أسطع فأسطع، لاسيما في حصافة موقفه إزاء أحداث العالم وشخصياته، ولنا في إحدى أشهر وأهم قصائده(أغنية الماجور إيثرلي)أقرب مثل ودليل على ذلك؛حيث يستحضر فيها تراجيديا الطيّار الأمريكي، الذي قصف بالقنبلة الذرية مدينة ناكَازاكي اليابانية، وجنّ لاحقاً، وأضحى فقيراً شريداً، ومع ذلك جاهد كي لايحسب قاتلاً محترفاً؛فرفض تقاضي الراتب التقاعدي، الذي خصصته له الحكومة الأمريكية، بينما أضطر إلى أن يلجأ إلى السرقة لسدّ رمقه!وقد أُلقي القبض عليه ذات مرة، ونال جزاءه سجناً لفترة.أمّا وين فقد قدّمه كإنسان، ولم يؤسطره(من الأسطورة)ليصب عليه كل الذنوب، أي لم يحوله إلى(مانعة صواعق)فذلك هو شأن الرومانسيين بداهة.أجل، لم يعد شاعرنا إيثرلي المجرم الحقيقي حصراً في تلك الجريمة الكبيرة، وإنما عدّه مجرد مأمور، أي أداة منفذة، في حين أن أمريكا، بل والمعمورة قاطبة هما المسؤولتان عن تلك المجزرة الرهيبة، أمّا إيثرلي فإن جريمته الحقيقية التي إرتكبها بكامل وعيه وإرادته، في منظور وين، هي السرقة، والتي وجبت إنزال القصاص به؛ومن هذا المنظور أيضاً جاء ترميز وين لإيثرلي التعيس في قصيدته بطائر البحر، ومن ثمّ يخاطبه:quot;هو ذا مثلك، مثل الماجور إيثرلي!quot;ولاندحة هنا من تقديم أهم قسم منها:
quot;تصوّر طائرَ البحر،
جناحاه مثقلان بالنفط، تخضّه الأمواج خضّاً
دون اتجاه، تحت الغيوم العاصفة، بلا عون
ترفعه كل موجة، كل لحظة
إذ يرنو إلى الأفق البهيم، بلا عون
دون عون والعواصف آتية والجناحان ميّتان
طبيعته الطيريّة ميّتة!
تصوّر هذا الشريد، المحبوب عند الخالق ربّما،
لكنه منبوذ تسخر منه زعانف الأسماك اللامعة من تحته
تتقافز و تغوص بانطلاق في البحر الرحيب
مثلما كان الطائر ينطلق في السماء الرحيبة.
والآن غدا واهناً، جائعاً، سجين السطح
لا حول له أن يغوص أو يحلّق: هو ذا مَثَلُـك
مثَل الماجور إيثرليquot;
وهنا لابد من البوح أن ما إستوقفني من شعر وين أصلاً، مبكراً، وطويلاً منذ مطلع سبعينات القرن الماضي، هو كتابه الرائع(الطريق الوعر)الذي ينطوي على ملحمة بشرية كبيرة، يشتمل موضوعها العام كافة الأشياء، الظواهر، الوقائع، الأحداث، العلاثق، التي تجمع شمل الجنس البشري على وجه هذا الكوكب، أكثر ممّا تفرّقه وتشتته أسباب وعلل شتى، وما أكثرها!بينما تطغى ثيمات الإغتراب والإفتراق بين البشر، على معظم أعمال الشعراء والكتاب والمفكرين المعاصرين، كما لو أن الإغتراب هو الكفة الراجحة دائماً في الوجود، وهو ثابت بلا تغيّر؛حتى بلغ الأمر بشاعر مجايل لوين، وهو جون سلكن أن يقول في قصيدته(الجدار):
quot;نحيا
كما لو أن جداراً يعلو
مابين ايّ منّا!quot;
بمعنى أن الإنسان مغترب حتى عن ذاته؛ فكيف يكون حاله مع بني جنسه؟!:
quot;يقيناً
لايفرّقنا برج بابل
إنّما هو يأس مشترك
مادام كل واحد منّا وحيداً
رهن: الحب، الإنزواء والكللquot;
غير أن وين يحسب مثل هذا الموقف متطرفاً جداً، ولامسوّغ له، فهو يقول-مثلاً-في قصيدته(الشيء الرديء):
quot;قد تتضخّم العزلة
حتى تحجب الشمس
فتؤلم إلى حدّ
يأخذ الخوف والقلق
بخناق الماضي والمستقبل!quot;
ولذا راح وين يكافح بأقصى ما في طاقته وقدرته؛ ليبرهن في(الطريق الوعر)على الحقيقة التي يؤمن بها، ألا وهيquot;ليس ثمة أحد وحيداُquot; بمعنى ألاّ نتناس ونتجاهل ما للعلائق الإنسانية الحقيقية الحميمة من أثر فعّال ضد كلا الإغتراب والتغريب بكل صنوفهما وأشكالهما، ولكن مع التسليم بحقيقة وعورة هذا الطريق.وقد أفلح وين في إنتشال قصيدته(الطريق الوعر)ذات الطابع الملحمي من وهدات التشتت والخلخلة والهشاشة والملل؛بمعمارية فنية، متخذاً من تعددية مفردات ووحدة-مضامينها-الموضوعية، نوله للنسج عليه بدراية خبير، حيث قسّم كتابه إلى فقرات تبدو للوهلة الأولى قصائد مستقلة عن بعضها البعض، فثمة مثلاً فقرة (الأضلاع) التي يتناول فيها الشاعر علاقة الرجل بالمرأة؛إنطلاقاً من قصة آدم وحواء.وفي فقرة أخرى طويلة يستحضر تراجيديا أقلية إثنية، هي الـ(الشيشان-أنكَوش)التي تأنفلت وأبيدت في الإمبراطورية السوفياتية على أيدي زبانية(ستالين)المستبد إبّان الحرب العالمية الثانية.وتكمن أهمية هذه الفقرة وقيمتها تاريخياً، فضلاً عن مستواها الرفيع فنياً، في كونها شهادة من شاعر أجنبي غريب إستطاع أن يجسّد تراجيديا أقلية تعيسة مغلوبة على أمرها، في زمن تواطأ أو صمت وإخرس أغلب الشهود والمتفرجين، أو إستحالوا شهود زور!كما حدث لنا نحن الكُرد في العراق، ومازال يحدث في تركيا...؛وهنا تكمن بالذات علة ترجمتي الكردية لقطوف من أشعار وين*، لاسيما من(الطريق الوعر)بينها مقاطع أثيرة من تراجيديا الأنكَوش، لاسيما حين يخاطب وين، الشاعر الأنكَوشي الشاب(خاسان إسرائيلوف)الذي قاد ثورة الإنكَوش-الشيشان عام1941وجاء رد ستالين الحاسم في23شباط1944بالقضاء المبرم على الشعب الإنكَوشي بكامله، خلال24ساعة، بقيادة الجنرال سيروف، وقد إختار وين لخاسان رمزاَ مختلفاَ عن رمز إيثرلي، ويناسب موقفه، ألا وهو الـ(chamois)الخروف البرّي الشبيه بالماعز البري:
كل أولئك الذين عرفوك قد شُـرّدوا أو ماتوا
خمسمائة ألف نسمة مُسِحوا
جثثاً أو معتقلين حتى آخر نفر.
إنّما اسمعْ، يا خاسان إسرائيلوف!حيثما ترقد
أنا أتكلّم بصوت يتمنّى لو كان صوتك.
إسمعْ، يا خاسان باذنك المسدودة بالوحل!
***
شاهدت جبالك ذات مرّة، ليست بعيدة
شاهدتها راقدة في صقيع القفقاس
مثلما يشهدها النسر تلمع عالياً واحداً واحداً
لمّاتزل تعرفك يا خاسان رغم كونك ميّتاَ
مادامت الريح المالئةُ أنغامُها أذنيك بالسحر
تصرّ في الفيافي حيث ترقد المعزى البرّية.
***
(أريري)أو(ويكلو) في النصف القصيّ من الأرض
وأنا أذرع ممرات جبلية لم تكن لك أبداً
وأجني الخزامى، حيث أضطجع
عديدة هي الجبال، إنّما صوتها واحد
يظلّ يصرخ في مسمع العالم: الحرّيّة!
ومع ذلك يشتد تحدّي الموتى بكلّ سفح
***
إصعدْ معي يا خاسان؛ حتى تموت المرارة
لاحول لي؛ كي أواجه مثل نهايتك
لكن إليك مديحي، لاتبرحْ
أسمع موسيقى جبلك رغم ان أذني
مخدّرة بالجبن: إنّك الوحيد الذي
يدلّني إلى حيث يرقد الأبطال السرّيون*
***
يا خاسان! سيرتك المدوّنة وجيزة
هكذا الحكماء محظورون عن الأذن الأسيرة
الجنود قتلوا، والآن على الموظفين أن يكذبوا
يجب محو خمسمائة ألف حقيقة!
فلكَ النصرُ؛ إنْ عاش إسمك
إنك الآن ميّت، لكنّ عنفوانك لنْ يُقْهَر.
***
الحمل البرّيّ رمزك؛ إنْ اعوزك رمز
فإنْ طورد إلى شفا الهاوية؛
يقفز إليها، بجنون مرهف كجنونك
لعلّ شبحه الوديع يحظى بالترحيب،
حيث ترقد عظامك
منْ كلّ منْ يفضّل أن يقذف حياته في هاوية
على أنْ يحيلها حكاية تستلذّ بها أذن الصيّاد!
يا خاسان! ليس سوى جرأة كجرأتك تمحو البغضاء
إسترقّ السمعَ، حيثما ترقد
وتسلّقْ معي؛ حتى تموتَ المرارة!
***
يا لها من مفارقة غريبة؛أن يظل أديب مبدع ومثقف كبير مثل جون وين شبه مجهول، بل يكاد أن يكون مجهولاً فعلاً، في مشاهد ثقافاتنا الشرقأوسطية:العربية، الإيرانية، التركية والكردية، خصوصاً وأنه ليس نهلستي النزوع، ولا من قاطني(الأبراج العاجية)، وإنما كان في كل أعماله ومواقفه متواشجاً مع نبض عصرنا الراهن؛لعل مايؤكّد رأينا هو ماجاء في معرض إجابته لمجلة(لندن)الشهرية، التي إستفت في أحد أعدادها لسنة(1957)آراء عدد من أبرز الكتاب عن(قضايا العصر)ومنهم:ستيفن سبندر وجون أوزبورن..فقد أجاب وين:
-quot;إن الشيء الوحيد الذي أعتقد به جازماً وأثق به بقوة، هو ان موقف(الأبراج العاجية)ليس عقيماً فحسب، بل انه وهم وخرافة؛إذْ أن الفنان الذي يفخر أنه لايعرف شيئاً عن قضايا عصره المهمة، أو عن قضايا فنه الذي يعايش واقعه؛إنّما يخدع نفسه تماماًquot;ثم يجلو وين نقطة مهمة تتعلّق بسايكولوجية الكتابة والتأليف قائلاًquot;إن الكاتب إنما يفكّر في نفسه حينما يكتب عن أمور غيرشخصية، ولامنجاة من ذلك؛إلاّ إذا مات!وبينما يكون جليّاً للجميع أنه قد عكس آراءه الشخصية بدقة بالغة في مواضيع غيرذاتية؛يظن صاحبنا بأنه قد كتب بموضوعيّة مجرّدة!quot;أمّاquot;المؤلف الذي يتصوّر نفسه أنه من النقاء والصفاء إلى درجة؛بحيث يأنف أن يمسّ واقع الحياة، ألاّ يكون صاحب رسالة، إنّما يكتب للتسلية؛مثل هذا المؤلف إنما يفضح بنفسه موقفه الحياتي وآراءه!quot;ويعني وين بذلكquot;إن أيّ فنان جاد لايمكنه إلاّ أن يينشغل بأمور مجتمعه ويلتزم بواقعه وذاته الإنسانية والإجتماعية..quot;وللتأكيد عل رأيه؛يستشهد وين بقول لجورج أورويل(1903-1950):quot;إن الروائي الذي يتجاهل ببساطة، القضايا العامة الكبرى لعصره؛إمّا أن يكون عابراً بلاأهمّية، أو أحمق!quot;ومن ثم يستخلص وين علاقة المبدع بقضايا عصره قائلاً؛quot;إن الفنان هو الإنسان الذي يرى الوجه الحقيقي للقضايا التي يعيشها؛ولذلك له الحق في أن يكتب من وجهة نظر أكثر ذاتية وباطنية ممّا يكتبه الصحافيون والدعاةquot;
***
لقد عالج وين في مقالاته و دراساته وبحوثه قضايا أدبية جمة، ولعل ما تجدر الإشارة إليها هنا، هي علاقة وسائل الإعلام بتلقّي الشعر وتأثيرها فيه، فهو يقول:
quot;من المستحيل قراءة قصيدة بنفس سرعة قراءة مقالة صحافية؛فليست الكلمات في القصيدة رموزاَ هيروغليفية مكرّسة لحمل المعاني إلى العين، ثمّ إلى العقل مباشرة كالترافك لايت، إنما هي كلمات بمعنى الكلمة، أصوات صيغت أصلاً؛لتتاطبق مع أهداف أو أفكار، مشكّلة جزءَ جوهرياً من تأثيرها بالصوت؛ولهذا لم تخدم الصحافة المطبوعة الشعر بما تستحقه(.......)وتقف العادات التي دعمتها حضارة قائمة على الكلمة المطبوعة موقفاً عدائياً من الشعر.إن عادة القراءة الصامتة التي شاعت في العالم، على وجه الخصوص، ورؤية الكلمات دون سماعها، هي عادة مميتة للشعر؛فعلى الشاعر أن يوصل أثر كلماته عبر الصوت والإيقاع، بالإضافة إلى معانيها المعجميةquot;ويرصد وين المسيرة الراهنة للتحوّل من حضارة الطباعة إلى حضارة نطق الكلمات بصوت عالquot;فالمذياع(بصورة كلية)والسينما والتلفزيون(جزئياً)وسائل سمعية؛فهي ترتبط بالأذن، وبتأثيرها ستدخل البشرية ثانيةً حضارة قائمة على الكلمة المنطوقة أكثر من قيامها على الكلمة المكتوبةquot;أمّا عن مآل مصير الكلمة المكتوبة فيقول:quot;طبعاً ستظل الكلمة المكتوبة دائماً ذات أهمية، ولن يفقد الكتاب مكانته المركزية؛بصفنه أرخص وأكثر الوسائل ملائمة لنشر الكلمة المكتوبة وحفظها، لكنه توقف فعلياً عن أن يظل المهيمن المطلقquot;وهكذا فقدquot;تخلّت حضارة كانت قائمة كلياً على حاسة البصر عن مكانها لحضارة أخرى قائمة جزئياً على السمع؛ففي هذا العالم يمتلك الشاعر فرصة أفضل مقارنة بالروائيquot;
وختاماً فإن هذه المساهمة المتواضعة لايمكنها تقديم كل شيء يتعلّق بأحد الرموز الكبيرة في مشهد الثقافة البريطانية؛وإنما توخّت تعريفه عبر الحيّز المتاح، في زمن لهاث أغلب مترجمينا وباحثينا وراء الموضات الرائجة الزبدية، وترك الراسب النافع!
ـ
*سبق وأن أنجزت في 1987ترجمة مقطتفات مختارة من شعر جون وين إلى اللغة الكردية، مشفوعة بمقالة تعريفيةمركّزة، لم تر النور إلاّ بعد عقد، وعلى ثماني صفحات من مجلة(به يف/الكلمة)ع(5)1997-دهوك.
إلتحق جون وين بجامعة أوكسفورد، في السنوات (1943-1946) لنيل شهادة البكالوريوس. وهام منذئذ بشعر صموئيل جونسون، الذي يعده وين من منظوره النقدي شاعراً رفيع المقام ونموذجاً فذاً جديراً بالإقتداء في عالم الأدب، كما تعرف أثناء دراسته تلك بالشاعر فيليب لاركن والروائي كينكَلي أميس، وقامت بين الثلاثة صداقة حميمة.
وفي السنوات (1947-1955) أضحى وين ذا شأن في جامعة(ريدينكَـ)بصفته محاضراً في الأدب الإنكَليزي.ومع ذلك إحترف العمل منذ1956في شتى المجالات الثقافية، فضلاً عن تسنّمه لكرسي الشعر بجامعة أوكسفورد خلال الفترة (1973-1978) إثر منافسته الحامية للشاعر والمترجم والكاتب الشهير ستيفن سبندر! فلاغروّ إن قلنا أن لجون وين حضوراً مكثفاً متواصلاً منذ مطلع خمسينات القرن الماضي حتى وفاته في (24مايس1994) بوصفه شاعراً، روائياً، قاصاً، درامياً، ناقداً، باحثاً، صحافياً، كاتب سيرة وأستاذاً جامعياً ذا دور مؤثر.
رغم أن النقاد يعدّون جون وين كجون أوزبورن(1929-1994) وجهاً من الوجوه البارزة لتيار(الجيل الغاضب) لكنه في الواقع قد إنخرط في صف كتاب(الرواية التقليدية) بالضد من(الرواية الجديدة)أجل؛فهو مع أرنولد بينيت (1897-1931) ضد فرجينيا وولف (1882-1941) بل إلى حدّ إعترافه وإقراره بالتبعية لتقاليد دانيال ديفو(1660-1731) ثم إنه في أغلب أعماله القصصية والروائية، كما هو ملحوظ، مهووس بثيمة الـ(بطل بلا بطولة) رغم كونه نصيراً للطبقة العاملة، وطالما تناول تفسخ وتداعي الطبقة البرجوازية ذات المفاهيم العتيقة البالية، بنظراته الفاحصة الدقيقة، التي شكلت رؤيته النفّاذة، المشفوعة بسخرية ممتعة أحياناً، حيث آزرته الكوميديا في توضيح مقاصده الأخلاقية، خصوصاً وأن وين كان يسخر بشدة من الطروحات النهلستية(العدمية).
لقد عرف جون وين بغزارة الإنتاج وتنوّعه:
ثلاث مجموعات قصصية، ثلاث مسرحيات، وأربع عشرة رواية، منها:
*عجّلْ بالنزول/1953
*العيش في الحاضر/1955
*المتنازعون/1958
*إمرأة مسافرة/1959
*نانكل وقصص أخرى/1960
*إضرب الأب حتى الموت/1962
*الزوّار الشباب/1965
*موت سيقان هند وقصص أخرى/1966
*السماء الأدنى/1967
*شتاء في التلال/1970
*حامي الحياة وقصص أخرى/1971
*جونسون يغادر/1973(مونودراما)
*سطو في الليل/(1975مسرحية)
*حكاية الغافر/1978
*أكتاف شابة/1982رواية حازت على جائزة(وتبريد)
*حيث تلتقي الأنهار/1988
*أجيال جائعة/1994
غالباً ما كان يبدو وين-المقتدر جداً في نقده الأكاديمي-في نفور مع صفته الأكاديمية السكولاستيكة (المدرسية) فقد عدّ ميزته الأكاديمية معرقلة ومعيقة للتعبير الحقيقي عن ذاته وفرادته في مضمار الإبتكار والخلق، ولذا كان أيضاً مناهضاً للأدب الصحافي رغم كونه صحافياً مبدعاً دائباً! بل عالج غيرمرّة علاقة الشعر بوسائل الإعلام والأجناس الأدبية والفنية الأخرى. ومن بحوثه ودراساته(وهي 12):
*التفاسير/1955
*المقالات الممهّدة/1957
*بيت للحقيقة/1972
كما برع وين في تحرير وتقديم عدة مختارات شعرية مرموقة المستوى، ونها:
*...الشعر الرومانتيكي/1953
*...الشعر الحديث/1963
*...الشعر المعاصر/1979
وهنا تجدرالإشارة أيضاً إلى مؤلفه(الجريء الدؤوب)كسيرة ذاتية مدوّنة بأسلوب فني بديع، حيث يستعرض وين تجاربه وخبراته الحياتية والثقافية، وكذلك إنطباعاته عن روسيا والولايات المتحدةالأمريكية.
ممّا أسلفناه؛ أضحى جليّاً أن وين كان أديباً موسوعياً، واعياً لدوره، مثابراً، متعدد الإهتمامات والأنشطة؛ فلاعجب إذن، إنْ تلوّن عالمه الشعري واتسم بالرحابة والعمق حدّ التنوّع والإدهاش من قصيدة لأخرى؛ كما لو أنه قد وضع نصب عينيه العبارة الأثيرةquot;على المرء الذي يصبو إلى إبتكار الشعر المرموق أن يكون في حدّ ذاته قصيدة حقيقيةquot;لجون ملتون (1606-1674)
وقبيل الشروع بجولة خاطفة في عالم وين الشعري، نذكر بعض مجموعاته الشعرية (وهي عشر):
*الأحاسيس المختلطة/1951
*كلمة منقوشة على حافة/1956
*إبكِ في حضرة الله/1961
*الطريق الوعر1965
*رسائل إلى خمسة فنانين/1969
*فينغ/1975
*شعر مكشوف/1977
*قصائد للحظ/1980
*الثنائي/1981
*بلاد مفتوحة/1987
بالإضافة إلى صموئيل جونسون (1709-1784)، كما ذكرنا-شغف وين بشعر وليام إمبسون(1906-1984) الذي يعدّ المضمون الفكري كل شيء في القصيدة؛ومن هذا المنطلق فقد رجّح وين المحتوى على المبنى، بل وعلى اللغة، بحيث طغت على شعره سمة هارمونية نابعة من أرضية منطقية.وكان لروبرت كَريفز (1895-1985) أيضاً مكانته الأثيرة عند وين، بينما لم يكن يستسيغ أشعار أودن(1907-1973) وسبندر(1909-1995)بل وسائر شعراء أربعينات القرن الماضي!
وعلــــــيه؛ فقد صـــنّف أغلـــب النقـاد وين بصفته أحد أبرز شــعراءThe Movement(الحركة) والذين إقتفوا خطى إمبسون، ملتزمين بالتقاليد والأعراف الكلاسيكية، بالعكس تماماً من شعراءThe Group(المجموعة). ولئن تميّز كل مبدع حتى بين أقرانه المتجانسين في المقاصد؛ فإن وين قد تميّز بابتعاده الملحوظ عن النزعات الرومانسية، إذ فضّل دائماً تسمية الأشياء بأسمائها، وتحرير اللغة من هيمنة الكلائش المألوفة، ثم أنه لم يعر أهمية تذكر للخيال والعواطف الجامحة، وطعّم قصائده أحياناً بابتكاراته النثرية الراقية؛ بحيث لايخفى طغيان: الجدل، المنطق، الفكر السياسي، الفلسفة، وشتى الإستعارات المعرفية عليها، ومع كل ذلك، فإن قصائد وين غالباًما تتسم بالرقة والشفافية، ولقد بان لي ذلك فيWild track-الطريق الوعر كنموذج أمثل لمجمل شعره.ولعل سر هيمنة البنية الحكائية، لاسيما البالادية على معظم قصائده، كان يتجلّى؛كلّما تحدّث وين عن نفسه وشعره، فضلاً عن توضيح موقفه ونهجه في هذا الفن:
quot;...في أهم فترات عمري، كنت نصيراً متحمّساً لشعر القرن الثامن عشر، ويبدو أن ذلك قد ترك أثراً دائمياً ملحوظاً على طريقتي في كتابة الشعرquot;وسرعان ما يستدرك الأمر مشيراً إلى أن التأثر ذلك لم يتجل له جلاءاً مؤكّداً إلاّ عبر تقييماته الصائبة لشعراء آخرين؛كما الحال مع إمبسون، وذلك بالتفحص الدقيق لجلو: التوازن، الترابط الوثيق، والتحليل المنطقي لكل كلمة وصورة وإستعارة...
ولذا قد يخال البعض أن المنطق بجفافه يطغى على أشعار وين، لكنما الأمر بخلاف ذلك؛حيث يتسم معظم شعره بطراوة ورقة مدهشتين، كما في قصيدته(الزمن كان):
quot;حالما عرفت
أنّي لست حيواناً أو نباتاً؛
حتى صار دربي أشدّ وعورة
لاسيما استطعت
أن أقرأ الإشارات!quot;
...................
quot;ثمة ريح
قبّلت الأوراق والبحيرة
كنت أنا
تلكم الريح!quot;
..................
quot;كالزجاج تحطّمت
أمنياتي
أمام قدميّquot;
ومن(قصيدة، يقال أن عقلاً إلكترونياً نظمها):
quot;إنك تحسبني بعضك
كلاّ؛أنت تفتري
فأنا أنا
وقد خلقني الإنسان
وها أنذا أحاوره!quot;
وكلما نستغور أشعار جون وين؛يتجلّ وجه وين الإنساني أسطع فأسطع، لاسيما في حصافة موقفه إزاء أحداث العالم وشخصياته، ولنا في إحدى أشهر وأهم قصائده(أغنية الماجور إيثرلي)أقرب مثل ودليل على ذلك؛حيث يستحضر فيها تراجيديا الطيّار الأمريكي، الذي قصف بالقنبلة الذرية مدينة ناكَازاكي اليابانية، وجنّ لاحقاً، وأضحى فقيراً شريداً، ومع ذلك جاهد كي لايحسب قاتلاً محترفاً؛فرفض تقاضي الراتب التقاعدي، الذي خصصته له الحكومة الأمريكية، بينما أضطر إلى أن يلجأ إلى السرقة لسدّ رمقه!وقد أُلقي القبض عليه ذات مرة، ونال جزاءه سجناً لفترة.أمّا وين فقد قدّمه كإنسان، ولم يؤسطره(من الأسطورة)ليصب عليه كل الذنوب، أي لم يحوله إلى(مانعة صواعق)فذلك هو شأن الرومانسيين بداهة.أجل، لم يعد شاعرنا إيثرلي المجرم الحقيقي حصراً في تلك الجريمة الكبيرة، وإنما عدّه مجرد مأمور، أي أداة منفذة، في حين أن أمريكا، بل والمعمورة قاطبة هما المسؤولتان عن تلك المجزرة الرهيبة، أمّا إيثرلي فإن جريمته الحقيقية التي إرتكبها بكامل وعيه وإرادته، في منظور وين، هي السرقة، والتي وجبت إنزال القصاص به؛ومن هذا المنظور أيضاً جاء ترميز وين لإيثرلي التعيس في قصيدته بطائر البحر، ومن ثمّ يخاطبه:quot;هو ذا مثلك، مثل الماجور إيثرلي!quot;ولاندحة هنا من تقديم أهم قسم منها:
quot;تصوّر طائرَ البحر،
جناحاه مثقلان بالنفط، تخضّه الأمواج خضّاً
دون اتجاه، تحت الغيوم العاصفة، بلا عون
ترفعه كل موجة، كل لحظة
إذ يرنو إلى الأفق البهيم، بلا عون
دون عون والعواصف آتية والجناحان ميّتان
طبيعته الطيريّة ميّتة!
تصوّر هذا الشريد، المحبوب عند الخالق ربّما،
لكنه منبوذ تسخر منه زعانف الأسماك اللامعة من تحته
تتقافز و تغوص بانطلاق في البحر الرحيب
مثلما كان الطائر ينطلق في السماء الرحيبة.
والآن غدا واهناً، جائعاً، سجين السطح
لا حول له أن يغوص أو يحلّق: هو ذا مَثَلُـك
مثَل الماجور إيثرليquot;
وهنا لابد من البوح أن ما إستوقفني من شعر وين أصلاً، مبكراً، وطويلاً منذ مطلع سبعينات القرن الماضي، هو كتابه الرائع(الطريق الوعر)الذي ينطوي على ملحمة بشرية كبيرة، يشتمل موضوعها العام كافة الأشياء، الظواهر، الوقائع، الأحداث، العلاثق، التي تجمع شمل الجنس البشري على وجه هذا الكوكب، أكثر ممّا تفرّقه وتشتته أسباب وعلل شتى، وما أكثرها!بينما تطغى ثيمات الإغتراب والإفتراق بين البشر، على معظم أعمال الشعراء والكتاب والمفكرين المعاصرين، كما لو أن الإغتراب هو الكفة الراجحة دائماً في الوجود، وهو ثابت بلا تغيّر؛حتى بلغ الأمر بشاعر مجايل لوين، وهو جون سلكن أن يقول في قصيدته(الجدار):
quot;نحيا
كما لو أن جداراً يعلو
مابين ايّ منّا!quot;
بمعنى أن الإنسان مغترب حتى عن ذاته؛ فكيف يكون حاله مع بني جنسه؟!:
quot;يقيناً
لايفرّقنا برج بابل
إنّما هو يأس مشترك
مادام كل واحد منّا وحيداً
رهن: الحب، الإنزواء والكللquot;
غير أن وين يحسب مثل هذا الموقف متطرفاً جداً، ولامسوّغ له، فهو يقول-مثلاً-في قصيدته(الشيء الرديء):
quot;قد تتضخّم العزلة
حتى تحجب الشمس
فتؤلم إلى حدّ
يأخذ الخوف والقلق
بخناق الماضي والمستقبل!quot;
ولذا راح وين يكافح بأقصى ما في طاقته وقدرته؛ ليبرهن في(الطريق الوعر)على الحقيقة التي يؤمن بها، ألا وهيquot;ليس ثمة أحد وحيداُquot; بمعنى ألاّ نتناس ونتجاهل ما للعلائق الإنسانية الحقيقية الحميمة من أثر فعّال ضد كلا الإغتراب والتغريب بكل صنوفهما وأشكالهما، ولكن مع التسليم بحقيقة وعورة هذا الطريق.وقد أفلح وين في إنتشال قصيدته(الطريق الوعر)ذات الطابع الملحمي من وهدات التشتت والخلخلة والهشاشة والملل؛بمعمارية فنية، متخذاً من تعددية مفردات ووحدة-مضامينها-الموضوعية، نوله للنسج عليه بدراية خبير، حيث قسّم كتابه إلى فقرات تبدو للوهلة الأولى قصائد مستقلة عن بعضها البعض، فثمة مثلاً فقرة (الأضلاع) التي يتناول فيها الشاعر علاقة الرجل بالمرأة؛إنطلاقاً من قصة آدم وحواء.وفي فقرة أخرى طويلة يستحضر تراجيديا أقلية إثنية، هي الـ(الشيشان-أنكَوش)التي تأنفلت وأبيدت في الإمبراطورية السوفياتية على أيدي زبانية(ستالين)المستبد إبّان الحرب العالمية الثانية.وتكمن أهمية هذه الفقرة وقيمتها تاريخياً، فضلاً عن مستواها الرفيع فنياً، في كونها شهادة من شاعر أجنبي غريب إستطاع أن يجسّد تراجيديا أقلية تعيسة مغلوبة على أمرها، في زمن تواطأ أو صمت وإخرس أغلب الشهود والمتفرجين، أو إستحالوا شهود زور!كما حدث لنا نحن الكُرد في العراق، ومازال يحدث في تركيا...؛وهنا تكمن بالذات علة ترجمتي الكردية لقطوف من أشعار وين*، لاسيما من(الطريق الوعر)بينها مقاطع أثيرة من تراجيديا الأنكَوش، لاسيما حين يخاطب وين، الشاعر الأنكَوشي الشاب(خاسان إسرائيلوف)الذي قاد ثورة الإنكَوش-الشيشان عام1941وجاء رد ستالين الحاسم في23شباط1944بالقضاء المبرم على الشعب الإنكَوشي بكامله، خلال24ساعة، بقيادة الجنرال سيروف، وقد إختار وين لخاسان رمزاَ مختلفاَ عن رمز إيثرلي، ويناسب موقفه، ألا وهو الـ(chamois)الخروف البرّي الشبيه بالماعز البري:
كل أولئك الذين عرفوك قد شُـرّدوا أو ماتوا
خمسمائة ألف نسمة مُسِحوا
جثثاً أو معتقلين حتى آخر نفر.
إنّما اسمعْ، يا خاسان إسرائيلوف!حيثما ترقد
أنا أتكلّم بصوت يتمنّى لو كان صوتك.
إسمعْ، يا خاسان باذنك المسدودة بالوحل!
***
شاهدت جبالك ذات مرّة، ليست بعيدة
شاهدتها راقدة في صقيع القفقاس
مثلما يشهدها النسر تلمع عالياً واحداً واحداً
لمّاتزل تعرفك يا خاسان رغم كونك ميّتاَ
مادامت الريح المالئةُ أنغامُها أذنيك بالسحر
تصرّ في الفيافي حيث ترقد المعزى البرّية.
***
(أريري)أو(ويكلو) في النصف القصيّ من الأرض
وأنا أذرع ممرات جبلية لم تكن لك أبداً
وأجني الخزامى، حيث أضطجع
عديدة هي الجبال، إنّما صوتها واحد
يظلّ يصرخ في مسمع العالم: الحرّيّة!
ومع ذلك يشتد تحدّي الموتى بكلّ سفح
***
إصعدْ معي يا خاسان؛ حتى تموت المرارة
لاحول لي؛ كي أواجه مثل نهايتك
لكن إليك مديحي، لاتبرحْ
أسمع موسيقى جبلك رغم ان أذني
مخدّرة بالجبن: إنّك الوحيد الذي
يدلّني إلى حيث يرقد الأبطال السرّيون*
***
يا خاسان! سيرتك المدوّنة وجيزة
هكذا الحكماء محظورون عن الأذن الأسيرة
الجنود قتلوا، والآن على الموظفين أن يكذبوا
يجب محو خمسمائة ألف حقيقة!
فلكَ النصرُ؛ إنْ عاش إسمك
إنك الآن ميّت، لكنّ عنفوانك لنْ يُقْهَر.
***
الحمل البرّيّ رمزك؛ إنْ اعوزك رمز
فإنْ طورد إلى شفا الهاوية؛
يقفز إليها، بجنون مرهف كجنونك
لعلّ شبحه الوديع يحظى بالترحيب،
حيث ترقد عظامك
منْ كلّ منْ يفضّل أن يقذف حياته في هاوية
على أنْ يحيلها حكاية تستلذّ بها أذن الصيّاد!
يا خاسان! ليس سوى جرأة كجرأتك تمحو البغضاء
إسترقّ السمعَ، حيثما ترقد
وتسلّقْ معي؛ حتى تموتَ المرارة!
***
يا لها من مفارقة غريبة؛أن يظل أديب مبدع ومثقف كبير مثل جون وين شبه مجهول، بل يكاد أن يكون مجهولاً فعلاً، في مشاهد ثقافاتنا الشرقأوسطية:العربية، الإيرانية، التركية والكردية، خصوصاً وأنه ليس نهلستي النزوع، ولا من قاطني(الأبراج العاجية)، وإنما كان في كل أعماله ومواقفه متواشجاً مع نبض عصرنا الراهن؛لعل مايؤكّد رأينا هو ماجاء في معرض إجابته لمجلة(لندن)الشهرية، التي إستفت في أحد أعدادها لسنة(1957)آراء عدد من أبرز الكتاب عن(قضايا العصر)ومنهم:ستيفن سبندر وجون أوزبورن..فقد أجاب وين:
-quot;إن الشيء الوحيد الذي أعتقد به جازماً وأثق به بقوة، هو ان موقف(الأبراج العاجية)ليس عقيماً فحسب، بل انه وهم وخرافة؛إذْ أن الفنان الذي يفخر أنه لايعرف شيئاً عن قضايا عصره المهمة، أو عن قضايا فنه الذي يعايش واقعه؛إنّما يخدع نفسه تماماًquot;ثم يجلو وين نقطة مهمة تتعلّق بسايكولوجية الكتابة والتأليف قائلاًquot;إن الكاتب إنما يفكّر في نفسه حينما يكتب عن أمور غيرشخصية، ولامنجاة من ذلك؛إلاّ إذا مات!وبينما يكون جليّاً للجميع أنه قد عكس آراءه الشخصية بدقة بالغة في مواضيع غيرذاتية؛يظن صاحبنا بأنه قد كتب بموضوعيّة مجرّدة!quot;أمّاquot;المؤلف الذي يتصوّر نفسه أنه من النقاء والصفاء إلى درجة؛بحيث يأنف أن يمسّ واقع الحياة، ألاّ يكون صاحب رسالة، إنّما يكتب للتسلية؛مثل هذا المؤلف إنما يفضح بنفسه موقفه الحياتي وآراءه!quot;ويعني وين بذلكquot;إن أيّ فنان جاد لايمكنه إلاّ أن يينشغل بأمور مجتمعه ويلتزم بواقعه وذاته الإنسانية والإجتماعية..quot;وللتأكيد عل رأيه؛يستشهد وين بقول لجورج أورويل(1903-1950):quot;إن الروائي الذي يتجاهل ببساطة، القضايا العامة الكبرى لعصره؛إمّا أن يكون عابراً بلاأهمّية، أو أحمق!quot;ومن ثم يستخلص وين علاقة المبدع بقضايا عصره قائلاً؛quot;إن الفنان هو الإنسان الذي يرى الوجه الحقيقي للقضايا التي يعيشها؛ولذلك له الحق في أن يكتب من وجهة نظر أكثر ذاتية وباطنية ممّا يكتبه الصحافيون والدعاةquot;
***
لقد عالج وين في مقالاته و دراساته وبحوثه قضايا أدبية جمة، ولعل ما تجدر الإشارة إليها هنا، هي علاقة وسائل الإعلام بتلقّي الشعر وتأثيرها فيه، فهو يقول:
quot;من المستحيل قراءة قصيدة بنفس سرعة قراءة مقالة صحافية؛فليست الكلمات في القصيدة رموزاَ هيروغليفية مكرّسة لحمل المعاني إلى العين، ثمّ إلى العقل مباشرة كالترافك لايت، إنما هي كلمات بمعنى الكلمة، أصوات صيغت أصلاً؛لتتاطبق مع أهداف أو أفكار، مشكّلة جزءَ جوهرياً من تأثيرها بالصوت؛ولهذا لم تخدم الصحافة المطبوعة الشعر بما تستحقه(.......)وتقف العادات التي دعمتها حضارة قائمة على الكلمة المطبوعة موقفاً عدائياً من الشعر.إن عادة القراءة الصامتة التي شاعت في العالم، على وجه الخصوص، ورؤية الكلمات دون سماعها، هي عادة مميتة للشعر؛فعلى الشاعر أن يوصل أثر كلماته عبر الصوت والإيقاع، بالإضافة إلى معانيها المعجميةquot;ويرصد وين المسيرة الراهنة للتحوّل من حضارة الطباعة إلى حضارة نطق الكلمات بصوت عالquot;فالمذياع(بصورة كلية)والسينما والتلفزيون(جزئياً)وسائل سمعية؛فهي ترتبط بالأذن، وبتأثيرها ستدخل البشرية ثانيةً حضارة قائمة على الكلمة المنطوقة أكثر من قيامها على الكلمة المكتوبةquot;أمّا عن مآل مصير الكلمة المكتوبة فيقول:quot;طبعاً ستظل الكلمة المكتوبة دائماً ذات أهمية، ولن يفقد الكتاب مكانته المركزية؛بصفنه أرخص وأكثر الوسائل ملائمة لنشر الكلمة المكتوبة وحفظها، لكنه توقف فعلياً عن أن يظل المهيمن المطلقquot;وهكذا فقدquot;تخلّت حضارة كانت قائمة كلياً على حاسة البصر عن مكانها لحضارة أخرى قائمة جزئياً على السمع؛ففي هذا العالم يمتلك الشاعر فرصة أفضل مقارنة بالروائيquot;
وختاماً فإن هذه المساهمة المتواضعة لايمكنها تقديم كل شيء يتعلّق بأحد الرموز الكبيرة في مشهد الثقافة البريطانية؛وإنما توخّت تعريفه عبر الحيّز المتاح، في زمن لهاث أغلب مترجمينا وباحثينا وراء الموضات الرائجة الزبدية، وترك الراسب النافع!
ـ
*سبق وأن أنجزت في 1987ترجمة مقطتفات مختارة من شعر جون وين إلى اللغة الكردية، مشفوعة بمقالة تعريفيةمركّزة، لم تر النور إلاّ بعد عقد، وعلى ثماني صفحات من مجلة(به يف/الكلمة)ع(5)1997-دهوك.
المصادر:
1-WWW.Wikipediahellip;hellip;.
2-Anthology of Modern Poetry,
Edited by: John Wain,1963
3-Wildtrak, John Wain,1965
4-The Penguin Book of Contemporary Verse,
Edited by: Kenneth Allott,1968
5-The Oxford Book of Twentieth Century English Verse,
Chosen by: Philip Larkin, 1974
6-Anthology of Contemporary Poetry Post-War to the present,
Edited by: John Wain,1979
7-مجلة(الثقافة)ع(4-5)نيسان-مايس1982بغداد/
الكاتب وعصره(قضايا العصر في إستفتاء كتّاب عالميين)
8-الأدب الإنكَليزي المعاصر/د.عادل سلامة/دار المريخ-الرياض1984
[email protected]
1-WWW.Wikipediahellip;hellip;.
2-Anthology of Modern Poetry,
Edited by: John Wain,1963
3-Wildtrak, John Wain,1965
4-The Penguin Book of Contemporary Verse,
Edited by: Kenneth Allott,1968
5-The Oxford Book of Twentieth Century English Verse,
Chosen by: Philip Larkin, 1974
6-Anthology of Contemporary Poetry Post-War to the present,
Edited by: John Wain,1979
7-مجلة(الثقافة)ع(4-5)نيسان-مايس1982بغداد/
الكاتب وعصره(قضايا العصر في إستفتاء كتّاب عالميين)
8-الأدب الإنكَليزي المعاصر/د.عادل سلامة/دار المريخ-الرياض1984
[email protected]
التعليقات