في تلك الليلة الماطرة... البرد يعلن سطوته وتهزأ الريح بأغصان الشجر لتصارعها بجبروت طائش.. قسوة الطبيعة تزامنت مع قسوته عليها.. فتعاهدتا على إخضاع كرامتها. وصلت بوابة سور قصره مذعورة.. وترددت متحيرة في الدخول وأختراق المجهول.
بينما جلس هو على الأريكة البيضاء منتشيَّا بكأسه وحمّامه البخاري، وراح يتنقل بين قنوات التلفاز، ليتتبع خبر الثورة في بورسو* هنا عاوده صداع أمانيه المزمن في أن يعود ليسلك الطريق ذاته منذ مطلعه.. في أن يكون هو أحد هؤلاء الثوار ويبدأ مشوار ثورته من جديد. عاد بمخيلته إلى مبادئه التي حملها على كتفيه كطفله المدلل طيلة سنين الدراسة ، إستحضر مواهبه في شدّ إجلال زملائه له، وكم تنامى حينها وعيه برجولته أمام ذاته الحرّة.. أما كانت عدالة جرأته تمد الملهوف نجوى المشورة والمعونة؟ حتى بات، وهو المحاميّ البارع، يدافع عن حقوق الشعوب المقهورة، لتعكسه المرآة بطلاً يلبسه الفخر والزهو لأنه هو.. العفيف والمتجرد.. الثائر، الجليل.
إنه كان يترجم بلاغته الثورية إلى مُعطيات، هازءاً بالشر وأنماطه ألوضيعه لدى الخونة والغادرين.
لكنه الآن قد تسيّد وأستبد، بعد أن كان الهارب المطارد، وصادرالحريّات بعد أن نأى عنه شبح المعتقل وأمن شر التعسف.
إجتهد في تصوير مخيلته بألوان السراب،ليبرر ويداوي وجع الضمير بأن الحزب مصدر الأوامر، وهو مناضل وعليه الإنصياع لرؤى الرفاق الأعلى..
في البدء ألبسه سرابه حلّة قوس قزح بمنظور الأوامر.. ثم راحت تتلاشى حدودها مع حدود سيل الرغبات وجموح النفس للسلطة. فمضى يصادر، بسبب أو بدونه.. مساكن وممتلكات الناس حتى تخمّر قناع السلطة على وجهه، ولم يعد يراه أمام المرآة.
تذكر سيناريو المسرحية التي قرأها يوماً في مطلع شبابه لسارتر. خطا نحو مكتبته وسحب الكتاب، إنها (الدوامة). وقرأ ما كتبه من هامش يومها على الصفحة الأولى خلف الغلاف.. سطـّر آنذاك:
(لايمكن لي أن أصدق موت الثورة على كرسي الحكم.. لا ذريعة تبرر ذلك)
كان قد كتب أسمه ووضع التوقيع.
لكنه الآن يبرر..
العبارة التي خطـّها منذ سنوات أصبحت صكّاً مُلزماً عليه.. بينما هو الآن يسخر من كاتبها، يبغض ذكراه، يتمنى لو انه لم يعرفه يوماً،فتمادى في تجاهله.
المرء ذات المرء.. الجسد نفس الجسد.. ما سرّ تبدل العقائد؟! الروح لا تتجزء، لكن ما تحوّل هو العقل. يتمكن الإنسان من أن يجعل عقله خزانة يضع فيها ما راق له من بنات أفكار ، ويزيح عنها ما يرغب. لكن يعلم بأن خزانته القديمة كانت أكثر تنسيقاًً وإنتظاماً، رغم بساطتها،من خزانته الجديدة ذات المقابض الذهبية والطلاء الفاخر وأبوابها المشغولة بنقوش من الحقبة الإستعمارية.
كان كلما تلاطمت في بحر ذهنه أفكار الماضي بحاضره،يقاسي،يكابد،لكنه في النهاية يجد ما يُسكّن العاصفة بيسر، ويتمكن من خنق الصرخة الدفينة براحة تامة. لكنه هذه الليلة، يسعى للفرار دون جدوى. فما السر؟ أهو خبر الثورة والثوار في بورسو.. أم مجيء حبيبة صباه إليه الليلة. الحبيبة التي تمنى أن ينال قلبها، وأن تكون زوجته، الحبيبة التي رفضت الاقتران بالمجازفة وأحجمت عن الزواج من سياسيّ،يُعتقل كل يوم، ومنتهاه نحو مفرق دربين.. حبل المشنقة او تحت عجلات سيارة مسرعة في طريق مظلم. ترجته ان يكون زوجها لها وحدها، لا ملك جميع أفراد الشعب، يرقد في سريرها لا مختبئاً في زوايا مجهولة. إنها لم تعتزم الزواج من ميت.. فلو كان طيباً قتله الأشرار، وإن كان شريراً أماته الطيبون. رفضت حبه رغم محاولاته المتعاقبة.. وفي النهاية تزوجت الأستاذ الجامعي.
اليوم هو في قبضته ، معتقلاً في أحد سجونه الواسعة الانتشار، ويمتلك الفرصة المؤاتية في الثأر لنفسه، وها هو قد تمكن من إرغامها على القدوم إلى سريره، أبرم معها الصفقة المُلزمة للإفراج عنه بعد أن اتصلت به عبرالهاتف..
وبعد توسل ورجاء، مصاحباً لصوتها البكاء،قال لها بنبرة المتشفي:
-اليوم أنتِ في سريري.. غداً سيكون هو في سريركِ. وافقي على العرض.. لن تندمي.
جلست في صالة الضيوف، ترتعش مرتعبة، تلتمس دفء المكان. بينما راح الخادم الشخصي يخبر سيده بمقدم الضيفة.
همّت الجميلة واقفة حينما ولج السيّد الى الصالة ،لم تتبدل قسماتها.. تطلّع إليها وتذكر وجهها البريء في أول نظرة منه سقطت عليه، النظرة التي أشارت له بأنها حب حياته.. وقررت بدلاً عنه انه لن يحب بعدها امرأة أخرى.. وتذكر الحب.. الحب.. الحب.
من الجائز ان ماتت فيه مشاعرالمناضل الثائر.. بعد أن تحول الى حاكم.. لكن مشاعر الإنسان لم تزل تحيا فيه.. كانت تراوده بين الحين والحين.. فتخنق صوتها البريء متطلبات السياسة وإغراءات الرفاهية. لكن الحب.. وحده من يحررها.. ونبله فجر صمام الأمان..
رفع سماعة الهاتف، تلمست أصابعه مواضع الأرقام وحيّا محدثه قائلاً:
-اطلق سراح الأستاذ الجامعي فوراً.
نادى الخادم وقال له:
-ليوصلها السائق.. فوراً.. حيث ما تشاء.
دخل غرفته وكتب الأستقالة.
*بورسو:مدينه من خيال الكاتب