عشرون مطراً رأيتُ في مطرِ هذا الصباح. واحدٌ كانَ يقفُ فوقَ سطح البرج، ويطوحُ جسده في هواء وغبار. يدلي لسانهُ فوقَ الجثثِ، يمسح الدماء، ويكشطُ الرصاصَ عن اللغة!
واحدٌ آخر يحاولُ اقناع الصاروخِ بوجهةِ نظر اسبينوزا في الحرب، ويصححَ أفكاره التي تكونت بطريقةٍ خاطئةٍ بعد قراءة نيتشه عشر مرات متتالية. هذا المطر الآخر كان له يدا من ماء وأخرى من لهبٍ أزرق امسكَ بهما بيتاً في آخر الشارعِ ونقلهُ بحركةٍ رشيقة إلى أول الشارعِ بعد فشله في اقناع الصاروخ.
المطر عشرون بالتحديد كان يزعقُ في الأزقةِ وفوق الدمار، ومعه مكباراتِ صوت عظيمه، وفي حقيبته بندقيةٍ وموس حلاقة، يرتدي ثوباً أبيض، يتقافزُ فوق الحجارة وأسياخ الحديد، الزجاج، الاطارات، الأوراق، الملفات، والتنك... يقفز كسعدانٍ على كلِّ ما يتطاير من الغيظ والحريق!
العشرون كان نبياً صغيراً يتجول في شارع عمر المختار، ويأكل من ضبابٍ يتطوحُ نشواناً على جثةِ هذا الخراب. أيقظته أنا مذ اللحظةِ الأولى وضعت فتائل النار في أذنيه، وأخبرت اطارات السيارات، وأرغفةِ الخبز، والجدران، أعمدة الكهرباءِ، وشبكات الهاتف، المصارف الآلية، بطاقات الفيزاكارت، مواقع الشبكة العنكبوتية... أخبرت كلَّ شيءٍ ونسيت أن اخبر نفسي بما سوف يقترفونه!
عند بوابةِ دار الشفاء رأيت مسيرةً من الأيدي المقطوعة لكنها كانت تحتج، انها تخرح من لوحة لسلفادور دالي وتسير مع أرجل ورؤوس مبتسمة.
عند بوابةِ دار الشفاء أيضاً يمكنك أن تكتب مجلدات من الشعر الحقير بدماء الأطفال، يمكنك أن تضرب رأسك بالفراغ فيشج وتخرج جمجمتكَ بأفكارٍ حقيرة وتافة.
تنتابني الان رغبةً بالتعري حداداً على ما يحدث لأـصدقائي وجيراني وزملائي، رغبة حارقة مثل قرن فلفل في الشرج، وشظية عظيمة في المعدة ورأس مقطوع في البنكرياس، وحمامة ميتة في الالية، وغراب مجروح في العين... رغبة في السقوط فوق المطر اللعين رغبة في السقوط عن شرين برجٍ مدمر، وتحت طائرة كبيرة الحجم إلى حد يعجز أمامة الله!

* شاعر مقيم في غزة