اعتاد أبو صالح أن ينهض مع خيوط الصباح الأولى، يمدُ بصرهُ بعيداً في أفق البحر، يملأ صدرهُ بهوائه المشبع بالرطوبة، تفقد بحارته وهم يغطون في نوم عميق، كان لنسمات البحر الصباحية الباردة، تأثيراً كالسحر عليهم، لكن أبا صالح.. كان يحرصُ على رؤية الشمس وكأنها تخرج من البحر، إن هذا المنظر، الذي يعجز أي رسام على مَزجِ هذه الألوان الرائعة، إنه سحر الطبيعة الخلاب، ويكحل عينيه بأشعتها الجميلة، وهي تخترق بعض الغيوم الداكنة، وقد شكلت خيوطاً ذهبية، دَفَعتْ بآماله أن تتعلق، وتصعد لتكون سببا لبناء غدٍ جديد..
ــ صاح أبو صالح، بطاقم البحارة ــ يا شباب انهضوا، توكلوا على الله قبل حَر الشمس، وقبل اشتداد الرياح، هذا اليوم البحر هادئ ويبشر بخير ــ دبت الحياة على سطح السفينة التي ارتفعت في وسطها سارية طويلة، وقوية يقاطعها شراع مطوي على عمود كبير، الزورق متوسط الطول ويطلقون عليه ((اللنج)), ومزود بمكانة قوية تعمل على دفع الزورق.. هيأ البحّارة أنفسهم لتناول الفطور.كانت مهام العمل موزعة,على كل بحّار، في الوقت الذي يعدُ أحدهم خبز الصباح على نار هادئة، يكمل الآخر الشاي، وصحن بطاطا مقلي، إنها أسرة مثاليه،، أحب بعضهم البعض.. كانوا يعملون كخلية نحل، بدون ملل وبعد الحين والآخر.. يعنون أغاني البحر الجميلة، وترتفع صيحاتهم، ودبكاتهم الايقاعيه، ترافقها الضربات الموزونة على الطبل، بعد أن أكملوا فطورهم الصباحي، وجه أبو صالح بحّارته إلى العمل، ألقى البحّارة الشباك، ورفعوا المرساة، أخذتهم مياه الجزر بهدوء، إلى عرض البحر وأغاني البحر ترافقهم مع (هيه يا مال.. هيه يامال..) الله معين.. الله معين.. ويستمر يومهم بإيقاع واحد.. يلقون الشباك وينتظرون وقتاً محدداً ثم يسحبونها ويجمعون السمك.. إنها حياة رتيبة، تعودوا عليها.لولا جلسات السمر الليلية الجميلة هي سلواهم الوحيدة، تعينهم على ثقل الحياة... !
صراع مستمر مع أمواج البحر و عواصفه، وشمس أعطت لأجسامهم لوناً مميزاً. أما الوجبة العمل الليلية.. تمتاز بالهدوء، وتمتزج بزخرفة السماء الصافية و القمر والنجوم يتنادمان مع لألأ البحر الهادئ، وكان كل بحّار، لهُ قصة مع إحدى النجوم، يسامرها، يسألها عن البر وعن ساكنيه على مقدمة (اللنج) يجلسُ أحد البحّرة.. يناجي نجمته المرسومة على وجه البحر.. تتكسر ثم تكتمل، يسألها هل يرجع بصيد وفير إلى أهله، إنه يُعِدُ للزواج من حبيبته، يقول أتدرين كم هي جميلة مثلك صافية القلب، لكنها سمراء. أخذت سمارها من الأرض.. ارض الوطن الحبيب،جاءت الغربان وشوهت وجهها الجميل، وكم ريح صفراء مرت عليها.. لكنها ستبقى ارضي أيتها النجمة، كان صوت أبو صالح ينهي أحلامهم الجميلة مؤقتاً..ومع النغم ينشرون في عرض البحر، وموجات خفيفة يهتز لها اللنج، طرباً وضربات أكف ألبحاره، ووقع أقدامهم، تشكل إيقاعاً وموسيقياً، يضيف لعملهم طعما خليجياً، يمتازُ به أهل هذه المنطقة.
رفع احد البحار رأسه إلى السماء، كانت هناك غيمة تمر عبر ضوء القمر تٌعطيك انطباعا..إنه يسير باتجاه معاكس.
ــ صاحَ احد البحارة يا نوخذه (اصطلاح يطلق على ربان السفينة في البحر)... يا أبو صالح، أنظر إلى القمر.. القمر بلعتهُ الحوت،اتجهت العيون إلى السماء، لمشاهدة المنظر.
ــ ردّ عليه أبو صالح يا مجنون، أية حوت هذه؟
ــ كرر البحّار قوله واللهِ القمر بلعتهُ ألحوته، وهذا نذير شؤم، لنسحب الشباك ونتوجه الى الميناء. إنها العاصفة لم يكترثْ أبو صالح لكلام البحار، واستمروا بغنائهم. لكن البحار لم يكن مرتاحاً لهذه الظاهرة لأنها ارتبطت عن قصة حكتها جدته منذ طفولته، إن خسوف القمر يعني تبلعه الحوت. ازداد خسوف القمر حتى وصل النصف، صاح مرة أخرى.
ـ ياجماعه.. أطيعوني.. القمر بلعته ألحوته, كانوا يضحكون ويفنون، بدأ الجو يتنفس، وارتفع صوت الرياح قليلاً، ازدادت حركت اللنج، أحسَ البحارة إن خيوط الشباك، شدت، أخذت صواري السفينة،تصدر أزيزاً، غطست الشباك، كأن شيئاً ثقيلاً أخذها إلى الأسفل، هلل وصلوه البحارة بأعلى أصواتهم.
ــ ناداهم أبو صالح، عليكم بحبل الشباك.. أمسكوه جيداً، إنً الوتد سينكسر, تغيرت نغمة البحّارة، إلى التهليل والتكبير، وهب ً أبو صالح لمساعدة البحارة، وهو يشدُ من عزمهم.
ــ إخوتي اسحبوا.. لف الحبل على عضده، لكن يبدو، إن حبل الشباك أقوى من البحارة مجتمعين. كان صراعاً بين البحر والبحارة والشباك، صراعاً من أجل لقمة العيش صراعاً من اجل الأرض الحبيبة،كانت نخوة من طراز فريد، تعالى صراخ أبو صالح، انجدوني،ذراعي ستنكسر،تناخا البحارة لفك يده من الحبل، كانت قوة الحبل قد أصابت ساعده، مما جعله يغيب عن وعيه، وبعد أن خَلَصَ البحارة، يده من الحبل، أصبح اللنج وما فيه أشبه بالفوضى، البعض منهم اخذ يسعف أبو صالح، وربطوا ساعده بكوفية احدهم، كان صراعا حقيقيا مع البحر والسفينة والبحًارة، وما هي إلا لحظات كان النصر هذه المرة محسوما لما تضمه الشباك أدار مساعد الربان الماكنه لسحب الشباك، فكانت النتيجة،إنً الحبل قد أُقتلعَ وتد السفينة، وغاص في البحر، أحدث موجة عارمة.. دارت كأنها لولب، ابتلعت الشباك وما فيها، ثم ارتفعت فظهر حبل من الماء لم ينتبه البحارة.. ما هو، انقلبت أفراحهم وأهازيجهم فجأة إلى خوف،دعاهم إلى الانسحاب فوراً في جنح الظلام إلى الشاطئ.. الذي غاب عن سماءه القمر.!!
ــ ناداهم نفس البحار.. ألم أقل لكم، يل إخوان همتكم لنعود. سادهم الهدوء.. ومسحة من الحزن والمؤاساة لربانهم (النوخذه).
ألقى اللنج مرساته قرب الشاطئ، منتصف الليل في الوقت الذي بدأ القمر بالظهور من جديد، ويرسم بنوره صورة للشاطئ وهو يرقد بهدوء تام إلا من بعض الحركة، استعداداً ليوم جديد، أخلد الجميع للنوم ما عدا أبو صالح كان يعاني من الألم، بانتظارضوءالصباح.. لكن التعب أخذ منه قوته فنام قليلا،.. أيقظتهم أصوات عمال البحر وهم يهرولون نحو الشاطئ.
ــ أحدهم كان ينادي يا جماعه و استيقظوا سفينة حربية قد رست على الشاطئ وهي تحمل أسماكا, كان الجميع في دهشة و من هول ما رأوه، نهض أبو صالح وبحارته، ووقفوا صفا ً وهم ينظرون، لهذا الشيء الرهيب، الذي أخذ آمالهم، وقضى على أحلامهم، وتعب الأيام..!
ــ ناداهم البحار ألم أقل لكم،, القمر بلعته ألحوته.. هل صدقتم !؟
تزاحمَ عمال البحر لمشاهدة هذا المنظر العجيب !
- آخر تحديث :
التعليقات