فرحان عمران موسى**: شكل التكوين الكوني الأزلي صراعاً ديالكتيكياً بين الثنائيات، بدءاً من ثنائية الخير المتمثلة في منظومة الله عز وجل والشر المتمثل بالشيطان بمفاهيمه المتعددة، لتصل الى ئنائية عصرية أسطورية،هي ثنائية (الحسينquot; عquot; ويزيد)والتي أحتوت كل الثنائيات المنصرمة في جوف التأريخ، وفي منظور فني شكلت هذه الثنائية في الذاكرة الجمعية للمتلقي فيضاً وكماً مستفيضاً، بحيث أصبح ليس من السهولة أمتلاك قناعة المتلقي في أسلوب الطرح، كونه يعلم بحيثيات وأتون الثنائية وأدق تفاصيلها، الامر يستدعي تناسب طردي بين الكثافة الجمالية وبين التراكم الجمعي في وعي المتلقي لأمتلاك سمة الابداع في هذا المعترك.
بدء المنجز الفني يسبح في فضاءات اللا مشروط، وأمتلاك رؤية جديدة تغادر المعنى السائد وتكتسي سمة العصر الجديد وتلامس الواقع المعاصر، بما تنسجم و ذائيقية متلقي هذا العصر، وهذا ما دفع بالمخرج (خضر عبد خضير) من تحويل يزيد وجعله يرتقي الى رمز كل الطغيان والقتل والعنف الدموي في (مجموعة الكراسي)والتي أعطت دلالة لكل العصور التي حوت عروش الدم... عرش فوق عرش فوق عرش، ماهي الا ملك ليزيد وبناء من هندسة يزيد.
أن عملية أستحضار يزيد من التاريخ (المكتبة العليا) لمحاكمته من المزدوجة نفوسهم، اولئك الذين غاصوا في فقدان الذات وسحقهِ في هوة النفاق والمؤطر عقائديا، بحيث جعلوا من ذواتهم حالة عدمية معجونة برائحة الرذيلة التي تتهاوى حتى أسفل سلم الجرائم ((ها قد عرفتم من أنا... فمن أنتم))، ففقدان الهوية والتهاوي في هاوية التيه الاجوف أمرٌ أضلُ من الانعام بل وأكثر قيلا، وهذا ما جعلت ذات المتلقي تمتلك عطفاً منطقي لحظي مع شخصية (يزيد) رغم التراكم الجمعي لمعرفة من هو (يزيد).
لقد أحال المخرج المحاكمة سيل من دبيب النمل الاسود وهي تأكل صوَلجان الحكم بيد الآخذين الموبؤين، هذا بالاضافة الى تحويل المدرك القلق في الذاكرة الى محسوس (اللوحة الاخيرة) حيث يقبع (يزيد) على كل عروش الازمان ونحن من نهيأ له مائدة الأكل الدموي، وفي المشهد الذي سبقه جَسَدَ في صورة مشحونه بالحمى الجمالية كل الآخذين والمنتفعين ممن يمتلكون صفة التفكير المزدوج وأحالهم الى بطونِ جوفاء كمقبرةٍ لكل جرائم العصر وهي تمتلك روؤس عدة مختلفة، ولكن جوفهم متحد لم يصل حد التخمة الى الان، وبالمقابل شكلت أتحاد غرائزي وليس عقلي بين الآخذين وفق معطى صوري فكري بانه سبب توحد المنطق النفاقي،وكذا محاولة لايجاد مدلول في التوحد مع الجاني الملعون كقرين صوري وقد تجلى ذلك في قول شخصية يزيد ((فأنا ظاهركم وأنتم تتنفسون برئتي))ومنذ بدأ توقيع الكتاب لقتل الحسين داخل الخيمة الحمراء كرمز دلالي للمؤامرة والخديعة كانت أعمدتها هم نفسهم الآخذين، أنها عملية أعادة ترتيب سلوك الانسان وأتهامه بدائرة الشوك التي قد يكون جزاً منها ((من قال اني قتلتُ الحسين)) وفي صورة أخرى ((من قال ان الحسين مات))، أن صناعة المفهوم وفق هذهِ الدلالات والافتراضات للذوات المتصادمة، ذاتين طرفي النزاع وذات المتلقي جعلت من دفاتر ذاكرتنا المؤلمه بأن تحيلنا الى نماذج عدة من واقع العصر المعاش التي تجثم فوق جوع المنسييّن، نماذج متخمين غير عابئين بجراحاتنا... هل كانت التخمة تخمة فكرية فاسدة أم تخمة فرعونية متجبرة على أساطيل الكراسي المتنفذة.
حقق الخطاب الاندماج اللحظوي فضلاً عن بث ذرات التساؤلات التي أطلقها في وعي المتلقي،حيث تماهت الصورة في بنائها الانشائي في شبكة من التكوينات المتقنه،وجسد ذروتها مشهد (الاستحمام بشلال الدم) عبر أمكانيات جدُ بسيطة حققت أسيقاظ جمالي عبر نزول القماش الاحمر من ممو ضيق.
لقد هندس المخرج (خضر عبد خضير) خارطة خطابه بشكل جعل من نفسه متلقي قبل ان يكون مخرجا وسعى الى تحويل مستوى التلقي بأن يتجاوز التقليد الى حدود الابتكار وهذا ما تجلى في حركة تجسيد كل العذابات البشرية عبر (سلايت الداتا شو) الذي زاد من ديناميكية السينوغرافيا والتأكيد على نوعية التجربة والخروج بأساليب مقترحة غير تقليدية تكاد تمتلك لحظة الحدس في الكشف عن ماهيات (المونادا) الصوري وتحويله الى رمز جمالي مرتبط المعنى والى تأمل ملتصق بذاتية المتلقي.
سعت ألية التمثيل لكل من ((غفران عبد الكاظم و أبراهيم عرمش ومحمد وجدي)) الى أيجاد تنوع من زمن مولدات الصراع والخيمة الموبوءة الى الزمن الحاضر، من خلال تبديل الزي، فتحول الممثل بجسده الفيزيقي و مركب الأيماءات والاشارات الى منظومة فكرية في تحقيق التمظهر المنافق مع الحق وفق شخصيات مركبة تدخل في الدايلكتيك وترسم وتنتج تارةً سيل من الدلالات التي تستفز وعي المتلقي وكشف سرية وغموض الصورة الجمالية تارةً اخرى.
تحررت المنظومة الحركية من التموضع والاسفاف وأعتمدت ألية التدفق المرافق للفعل المرئي بغية تحريك المناطق الساكنة في فضاء العرض بأستثناء السلميين حيث شحت جماليات المخرج من ان تمتلك الاشراك في هدير الصور المرئية، كما بدت المفردة الحوارية تحرك فعالية المرئي وتستنطق البؤر الجمالية وصولا لولادة الدهشة، وخصوصاً في المشهد الذي سعى الى تكوين جسد واحد في ثلاثة رؤوس.
كما ان ألية أشتغال المركب الضوئي عند ((قصي شفيق)) أضافت شحنه هرمونية لمركب الصورة المرئية، الا أن شحة المواد أضهرت شحة التنوع والخلط في بؤرة معينه مثل بؤرة(النوم وقوفا) والتي أمتلكت حركة جمالية سحبت منطقة التلقي اليها،كما ان المركب الضوئي أطر الدوال داخل العلامة الكبرى بشكل يزيد من عامل التأثير البصري دون التأثير على شبكة العلاقات بين الدوال.
شكل الخطاب المرئي عند (خضر عبد خضير) كثافة جمالية وشبكة من التكوينات الرشيقة لعكس التناقض النوعي بين الثنائية، الا انه لم يتجاوز ماهو عاطفي في مناخات التراكم الجمعي لدى المتلقي.
----------------------------------------------------------------------------
*- عرض مسرحي من اخراج وتأليف (خضر عبد خضير) قدم ضمن مهرجان مسرح الحر \بغداد \ اب 2009
**- مسرحي عراقي يعمل حاليا مدرس في جامعة بغداد-كلية الفنون الجميلة ndash;قسم الفنون المسرحية


كلية الفنون الجميلة \ بغداد
[email protected]