نصيف الناصري
فصل من كتاب قيد الإنجاز
حروب نووية
تحتاج البشرية الآن الى أدوية وعقاقير مهدئة غير الدين والفن وأساطير الرياضة التي جعلها مفهوم الاحتراف تخضع للابتزاز وضياع القيم الحقيقية في التمييز بين النبيل والحقير للشيء وماهيته. حياة الانسان الرتيبة التي يمضيها بين الأشجار الوارفة للسأم منذ بداية القرن التاسع عشر. تحتم عليه الآن أن يعمل بجدٍّ من أجل الاعداد لشن حروب طويلة وجديدة، ليس على غرار تلك الحروب التي شُنّت في الماضي. اننا الآن نحتاج الى حروب نووية من أجل القضاء على بعض أجناس الجراد وازالة بلدان معينة من الأرض حتى تستطيع الشمس النبيلة، أن تلبي حاجاتنا الملحة والتي انتظرناها طويلاً، وحتى نستطيع اختراع تسليات جديدة قادرة على ازاحة العبء الثقيل عن رموشنا المريضة.

تلمس الفجر
قالت لي آندريه شديد مرة وهي تناولني أحد كتبها { لا يمنحنا الشعر الشهرة ولا الجاه ولا السلطان، لكنه معلق بين أهدابنا ويدلنا على تلمس الفجر }. منذ تلك اللحظة العظيمة التي التقيت فيها آندريه. قبضتُ بقوة على الجمرة المشتعلة للكتابة وواصلت طريقي الطويل في الظلام من أجل أن أتلمس الفجر، لكنني حتى هذه اللحظة لم أكمل عبور الطريق وفجر حياتي ما يزال بعيداً، بعيداً جداً.
شطحة صوفية لبودلير
بعض الشعراء الحمقى يتأثر في الشخصيات التي يقرأ نتاجاتها ويكثر من الاستشهاد منها. مصيبة الشعر العراقي الراهن انه خاضع لمفهوم الاشاعة. الاشاعة الآيديولوجية والثراثية واشاعات الخدائع المتواصلة التي تركتها لنا الأجيال الشعرية الماضية. قال شاعر ما { أظنه بودلير } في أحدى شطحاته الصوفية وهو يعرّف الشعر انه { الطفولة المستعادة قسراً }. أصبح هذا المفهوم الخاص و هذه الاكذوبة والهلوسة البودليرية حقيقة مؤكدة في أوساطنا الشعرية التي تقدس ثقافات الأحزاب السياسية والدينية. وصلت الى حدّ أن يعنون أحد شعراء السبعينيات مجموعته الأولى بسطرين من قصيدة للشاعر الاسباني انتونيو ماشادو { أنا صحوت من الطفولة. لا تصحو أنت أبداً } واعتقد أن كلمة { أبداً } هنا خاطئة والأصوب هي كلمة { قَط }. الفهم خاطىء والترجمة خاطئة والفعل الشعري خاطىء أيضاً. ما العمل الآن من أجل ترك الشعر يحلق بعيداً عن الأقفاص التي يحاول البعض حشره فيها؟
الطاقة الدائمة للعشق
العشق في الزمان النفسي طاقة مبطنة والسهر تحت ظلالها يمدّنا بالقوة الدائمة. للتسلط على لحظاتنا الخائبة في العيش. ينبغي للانسان أن يقذف نفسه في البركان وأن يعشق وأن { يكون وحيداً في العالم مع المحبوب كي يحتفظ الحب بطابعه كمحور اشارة مطلق } هكذا يقول سارتر في { الوجود والعدم } .
العدم ومتعة السرور
جئنا من العدم والى العدم ننتهي. لماذا يظن الانسان انه خالد في هذا العالم؟ حيواتنا تمرين دائم لتعلم الموت. ينبغي أن لا نبتأس من الحقيقة المرّة. ينبغي أن نحيا اللحظات القليلة الممنوحة لنا في الحياة ببراعة وخفة دم رشيقة من أجل الجمال الساحر للفصول وتنوعها والتعدد البرّاق لأجناس الطبيعة غريبة الجمال، ومتعة السرور التي نخلقها نحن في تخلينا عن الطمع والقسوة والبخل.

ديناصورات
لم أذبح في حياتي طائرا ما، لكنني أستطيع الآن ذبح الكثير من الديناصورات عبر احتقاري واشمئزازي منهم ومن أفعالهم الدنيئة. لا يمكنني تحمّل مشهد شاعر علا رأسه الشيب وهو يسعى الى ترويج بضاعته الحقيرة والكاسدة في هذه الصحيفة أو ذلك المهرجان، من خلال تنطعه ومسكنته وتوسله للشهرة والعطايا.

شارة الحسين
قبل سنوات كنتُ أعمل بالأسود في حانوت عطّار بمدينة مالمو، من أجل أن أتمكن من شراء زجاجات الخمر. ربّ عملي يعرف طربكَتي ويغض النظر أحياناً حين أجيء الى العمل ورائحة الخمر تعط من فمي. ذات يوم أعلن أحد الأحزاب الدينية العراقية نيته اقامة أمسية للشعر الحسيني في مالمو. وجهوا لي دعوة للقراءة مع عدد من الشعراء مع وعد بمكافأة. اعتذرت بحجة انني أعمل كل يوم 8 ساعات وصاحب الحانوت لا يمنحني اجازة. اتصلوا بالعطّار وطلبوا منه أن يفرغني يوم الأمسية. وعدهم بتأمين حضوري ومنحي مبلغ 500 كرون منه تأييداً منه لحزبهم. حاولت أن أشرح له أن الشعر الذي أكتبه لا يصلح لهذه الأمسيات والمهرجانات وانني شاعر سوريالي وصعلوك، لكنه أصرّ على حضوري بقوة. ماذا أفعل؟ بلوى كبيرة. من حسن حظي أن الموعد الذي حددوه هو يوم سبت. أخذت ال 500 كرون وذهبت الى حانة. بعد منتصف الليل بقليل دخلت ديسكو ورقصتُ حتى الساعة الخامسة فجراً مع نساء عديدات. في اليوم التالي وأنا أهم بارتداء ملابس العمل في الحانوت. قال لي العطّار. { كيف كانت قراءتك لشعرك؟ } { قراءة عظيمة. طلب مني الجمهور مرات كثيرة أن أعيد بعض السطور } قلتُ له وأنا أمسح حبيبات العرق من جبيني. بعد أيام حين علم انني خدعته وكذبت عليه. دعاني وقال لي بصوت هامس كمن يخفي سراً { أكَلك خالي. الحسين يشوّر لو لا؟ } { بالتأكيد يشوّر } قلتُ له وأنا أحاول تأكيد يقينه. { أنت مطرود من العمل الآن }.

تجربة جنسية
أول تجربة جنسية لي مع فتاة في السويد. كانت بعد وصولي بشهور قليلة عام 1998. حصل الأمر هكذا. لي صديق يعمل سائق تاكسي. يعرف انني جلاّق كبير. في يوم عطلة ما بعد أن احتسيت آخر كأس ويسكي وأردت النوم. اتصل بي عبر الهاتف وطلب مني أن أنزل وأفتح باب العمارة. كان يقف معه في الباب رجل بشعر رأس أبيض ويرتدي قرطين، وفتاة شقراء عمرها 19 سنة ترتدي ميني جوب وتزيّن سرتها حلية ذهب. طبعاً لا أعرف التكلم بالسويدية مع ضيفي صديقي. حييتهم باشارة مني وفهماها { هززت رأسي ولوحت بيدي }. أخبرني صديقي بقوله { نصيف. أعرف انك تحتاج الجنس بشدّة. هذا الرجل لا يستطيع أن يضاجع صديقته إلاّ اذا ضاجعها رجل أمامه } طبعاً لم أصدق كلام صديقي أنا الواصل الى السويد حديثاً ولا أعرف أيّ شيء عن هذا المجتمع ولا غرائبه. { هما الآن شاربين ويمكن محششين. حاول أن تضاجع الفتاة في غرفة النوم وهو ينظر اليك، وحين تنتهي اخرج الى الحمّام واتركهما وحدهما. لا تنس انه سيدفع لك مبلغاً من المال } { لا أصدق } قلت له، وأمام حيرتي وغرابة الموضوع طار السكر من رأسي. في النهاية بعد أن أفهمني صديقي أن هذه الأمور عادية هنا وتحصل عند الأشخاص الذين يعانون من البرود الجنسي أو لغرابة أطوارهم. وافقتُ وكأني سأحصل على كنز. سحبت الفتاة التي لا تتكلم من شدّة السكر الى غرفة النوم وتبعنا الرجل صاحب الشعر الأبيض. تجردت من ملابسها تماماً، أما أنا فتعريت أيضاً إلاّ من لباسي الداخلي مخافة أن يرى هذا الضيف الثقيل طيزي. مصصتها ولحستها وشممتها وشهقتُ ونهقتُ والرجل العجوز ينظر إليّ وأنا أطحر. حين انتهيت لم أشأ أن انهض واترك عاشقها يضاجعها. بقيت نائماً عليها وهو يجرّني ويلهث وأنفاسه تتقطع. أردت المزيد لكنهما لم يوافقا. أخذهما صديقي في التاكسي الى بيتهما وبقيت أضرب جلق الى اليوم التالي.

صوت سنبلة قمح لم تولد
تبقى القصيدة غير مكتملة حتى وان نشرت في صحيفة أو مجلة أو كتاب. لا تكتمل القصيدة التي هي مشروع محو واعادة كتابة دائمة إلاّ بموت الشاعر. تضجرني قراءة قصائد الشعراء الرسميين الأحياء في طبعات { أعمالهم الكاملة }. قصيدة الشاعر الحيّ في كتاب، أشبه بجثة في تابوت. في قصيدتها { شبح قايين } تقول إيدث سيتول في أحد السطور { صوت سنبلة قمح لم تولد }. كل قصيدة قبل موت شاعرها ينطبق عليها سطر ستول هذا.

أرض الجحيم
قبل ألف عام كتب أبو العلاء المعري { وبالعراقِِ وميضٌ يَستهِلُّ دماً. وراعدٌ بلقاءِ الشرِّ يرتجزُ }، ويبدو أن رعود وبروق الموت بالعراق ليست لها نهاية، وستبقى أنهار الدم التي يحفرها الانسان العراقي في ذبحه لأخيه وجاره في الحيّ الذي يقطنه على مدى التاريخ مستمرة دائماً، طالما أن الانسان في هذا المجتمع المزدوج الشخصية والممتهن لحرفة القتل وقطع الطريق والسرقة والايمان بالخرافات والعقائد المتناقضة. لا يستطيع التخلي عن الطينة التي جبل عليها. ليست الشرور الراهنة بالعراق الآن والمذابح الطائفية وتفخيخ السيارات والعمليات الانتحارية والقتل على الهوية وليدة صدمة ما أو نتيجة تغيير النظام السياسي الديكتاتوري السابق. انها الحصيلة المضمرة للشخصية العراقية التي تخزّن في ضميرها عبر كل الأزمنة. أنواع الشرور الفتاكة التي تحرق البيدر والحقل في أرض العراق. الشعر العراقي والمناهج المدرسية والنظريات الآيديولوجية لأحزابنا الوطنية، والتربية الفاشية الصارمة للأبناء من قبل الآباء. تغرس كلها بذرة التطرف والجنون في الأعماق السفلى لشخصية انساننا منذ طفولته ولا تدع له المجال لينمو بشكل حرّ وسويّ.

حسين مردان
أصدرت دور النشر والمطابع في العراق خلال السنوات التي أعقبت موت حسين مردان. آلاف الكتب التي لم يقرأها أحد عدا استثناءات قليلة. لم تكلف جهة ما نفسها ولا اتحاد الأدباء والكتّاب في العراق ولا دائرة تعنى في الثقافة. مهمة اصدار الأعمال الكاملة لحسين مردان، بودليرنا بامتياز. هل هو حظ الشاعر في أن يبقى في القلوب والضمائر بعيداً عن مؤسساتنا الطائفية والحزبية التي لا تهتم في الابداع الحرّ والحقيقي؟
العشيرة الفلسفية
عندما كنتُ في العراق لم يكن يسمح لي والى صلاح حسن في الجلوس بنادي اتحاد الأدباء على الطاولة الخاصة بالعشيرة الفلسفية. كنّا ننزوي وحدنا في طاولة بحديقة الورد ونشرب الخمر ونعاهد نفسينا على الاصرار في الامساك بجمرة الكتابة الى الأبد. كانوا يقولون اننا { لا نفهم ولا نناقش في الفلسفة }. هذه العشيرة كانت تتكون من شعراء وكتّاب ومن الفيلسوف خضير ميري والمفكر الشاعر عادل عبد الله. كل ليلة في جوٍّ صاخب من الخمر والنقاشات السخيفة المكررة. تدور الجلسة حول مفاهيم المطلق والصيروة و{ الاشكالوية } وما وراء الطبيعة والعدم والزمن والوجود والتحول. سمحوا لنا مرة واحدة في الجلوس معهم وحين حاول صلاح أن يبدي رأيه في مسألة معينة قمعوه وأجبروه على الصمت. الآن بعد أن { أخنى عليهم الذي أخنى على لبدِ } وتفرقوا شذر مذر والقسم الأعظم منهم هجره الشعر الى غير رجعة، وتخلى الفيلسوف والمفكر عن أحلام التحول والصيرورة. راح عادل يكتب عبر تقليده لمواقف ومخاطبات النفري. قصائد عن الحسين { نشرها بموقع ايلاف قبل سنوات } ويقارن في كتاب أصدره بعد التغيير ببغداد، بين فلسفة هيجل وفلسفة الصدر، وميري يعلن بعد أن استقر في القاهرة، انه كان يعارض نظام صدام حسين عبر ادعائه الجنون، ويكتب روايات عن بطولاته في محاربته للفاشية. ناسياً دراسته في كلية الفنون الجميلة التي لا تقبل إلاّ البعثيين وحفلات زواجه مرتين في نادي اتحاد الأدباء وسنوات بحبوحته عبر الراتب الذي خصصه عدي صدام للأدباء حين ترأس { التجمع الثقافي }. بعد سنوات عديدة كتب لي أكثرهم اهتماماً في الفلسفة والتاريخ والدين والفن ونظريات الشعر يقول { أشو قصيدتك هاي هم فلسفية؟ }.
قصيدة جورج سفيرس
في سنوات بلوغي الأولى عانيتُ صدمات كثيرة بسبب الجوّّ الصارم الذي نشأت عليه في محيط العائلة. العفة الزائفة والاحترام والخوف من ارتكاب المعصية والطاعة الشديدة لأوامر الزجر التي تتوالى عليّ. كانت رغباتي وأحلامي وكوابيسي الجنسية في صوب وضميري الذي يصرخ في زيفه بصوب آخر. أدمنتُ العادة السرية وظلت وظائف أعضاء جسدي المهمة معطلة تماماً. الآن وأنا أحاول استرجاع جحيم تلك السنوات البعيدة لمراهقتي. يحلو لي أن أغني هذه القصيدة لجورج سفيرس التي لا علاقة لها بمشكلتي هنا، لعلها تعينني على التخلص من ما أدمنت عليه حتى هذه اللحظة على الرغم من تملكي لنساء كثيرات في حياتي.
{ أنامُ ويظل هو يقظان
ملأه النوم أحلاماً عن فاكهة وأوراق شجر
بينما حالت اليقظة بينه وبين التقاط حتى حبة توت.
افترسه الاثنان معاً. اليقظة والنوم،
ووزعا أطرافه على الباخوسيات }.

امرأة الأرض الخراب
تعرفتُ في حانة الى امرأة تعيش وحيدة { أعمل موظفة كومبيوتر في دائرة الكهرباء وأسكن وحدي في شقة صغيرة. راتبي بالكاد يكفيني. الحياة ومتطلباتها ومصاريف المعيشة صعبة جداً } قالت لي. بعد أن أغلقت الحانة دعتني الى شقتها. حين وصلنا وفتحت الباب اكتشفت انني التقيت هذا المرأة في مكان وزمان ما. نعم أعرفها، لكن أين؟ لست أدري. ربما في { الأرض الخراب } ل ت س اليوت.
{ عاملة الآلة الكاتبة في منزلها في وقت استراحة الشاي
تنظف بقايا فطورها. توقد مدفأتها..
تفرغ الطعام المعلب
و خارج النافذة انتشرت باهمال
قمصانها الداخلية التي لفحتها آخر آشعة الشمس
و على الأريكة - وهي سريرها في المساء -
تكومت الجوارب، الخف، الصديريات، المشدات }.
في هاوية رعونتي
في السنة الرابعة من الحصار الذي فرضته الأمم المتحدة على نظام صدام حسين. دعاني صديق مطرب مزعوم في يوم ما وكنت جائعاً ومستلباً الى حفلة خاصة مدعو هو اليها. زوجته راقصة متقاعدة وتعمل قوادة ارستقراطية، الحفلة يقيمها أحد الضباط الذين منحهم الطاغية { وسام الرافدين } أعلى وسام بالعراق. لدورهم في قمع انتفاضات الشعب العراقي ضد الظلم والقهر. { كل شخص ينعم عليه الريس بوسام الرافدين. يشتري بستان فيه منزل بمنطقة خان سعد على ضفة نهر ديالى ويشّغل فيه عامل مصري، يكون حارس وبستنجي وخادم } قال لي المطرب المزعوم. { الوسام فيه امتيازات كبيرة. شقة فاخرة. سيارة حديثة. أموال طائلة } قال لي مرة أخرى وهو شعر بنشوة عظيمة. { أنا أعرف أغلب هؤلاء. انهم يدعونني دائماً لأغني لهم } قال المطرب مرة ثالثة. حين وصلنا الى بستان الضابط صاحب وسام الرافدين. كانت الراقصات الجميلات اللاتي يتم جلبهن من الملاهي والذبائح المشوية التي قُدمت وأصناف الفاكهة والخمور التي أريقت وكروصات السكائر الفاخرة. أشياء لا تصدق. هل نحن في الفردوس أم نحنُ في سنوات الحصار الرهيب الذي أطبق على كل شيء في حياتنا بسبب مغامرات طاغيتنا؟ تعتعتني الخمرة ووجدتني أهوي في هاوية رعونتي وأقف على المنصة الى جانب المطرب ملقياً خطبة عصماء على صاحب الحفلة وضيوفه الجنرالات الكبار، حول ضرورة ترشيد الاستهلاك ومساعدة الفقراء بدلاً من هذا البذخ غير المبرر. حاول صاحب الدعوة في البداية اسكاتي بلطف كونني صديق مطربهم المزعوم وسكراناً. حاول آخر وآخر لكنني بقيت أرتجل خطبتي الاخلاقية، وحين انتهيت بعد أن ماتوا من الضحك والسخرية من بلاغتي المفتعلة. أمسكني أحدهم ورفعني في الهواء. سقطت على الأرض مغمى عليّ وتناوب بعدها أكثر من 34 شخصاً على ركلي وصفعي وشتمي. احدى الراقصات السكرانات لم تكتف بركلي، بل حاولت وضع حبة خيار في طيزي. أتساءل الآن: أين حلّ الدهر بهؤلاء الذين كان يقمعوننا وينعم عليهم الرئيس في الأوسمة والأوشحة والأنواط؟ هل ظلت لهم لقية أو أثر، أم ترى نهبت بساتينهم وقصورهم وأطبق عليهم هادم اللذات؟

قوة الشعر
حين شعرتُ أن صديقتي الأولى بدأت تتململ مني وتحاول قطع علاقتها بي. تذكرتُ بيت شعر لأعرابي يقوله عن زوجته التي كانت تسعى الى طلاقه، في حمّاسة أبي تمّام بباب المُلح والطرائف. أكثرتُ عليها النيك فصارت لا تتخلى عنّي حتى مللتُ منها.
بعوضة الطاغية
كان صدام حسين قد أمرّ بتجفيف المستنقعات المائية بجنوب العراق وردم كل الأنهار والحقول، عقاباً للناس الذين عارضوا سياساته المدمرة. أولئك الناس كانوا يعيشون في هذه المستنقعات منذ العهود السومرية على زراعة الرز وصيد الأسماك والطيور وتحدوا جميع الجبابرة في تاريخنا. حين أصعدوا الطاغية الى منصة الاعدام. جاءت بعوضة مهاجرة من الأرض المردومة وراحت تطنّ في اذنه. بين لحظة اعدامه ومحاولته طرد البعوضة. نسى قبل الشنق أن يهتف ويحيي سنوات حكمه المقيتة ونضال حزبه في قمع الناس الفقراء.

الأفاق الرحبة للقلق
هل يتوجب علينا أن نرفض التصور الحتمي للتاريخ؟ الذوبان في الديمومة هو ما يجعلنا نواصل العيش في اللحظة الراهنة واللحظة الماضية. كل فعل يخلو من حرية الارادة ناقص ويدمر الطاقة العظيمة للمادة. يخفي الوجود نفسه دائماً، لكننا نستطيع تلمسه عبر العلو المعلق في جباهنا. يسطع القنديل الأزرق للكينونة بين المتناهي واللامتناهي كلما تخلصنا من عبوديتنا وصعدنا صوب الأفاق الرحبة للقلق.

التحرش بالأطفال في الشعر العربي
كتب الإمام والفيلسوف شيخ مشايخ الصوفية محيي الدين ابن عربي ديوانه { ترجمان الأشواق } عن ابنة شيخه مكين الدين أبي شجاع زاهر بن رستم أبي الرجا الاصفهاني. { النظام وتلقب بعين الشمس والبها }. يعرّفها في مقدمة شرحه للديوان بعد أن سمع بعض الفقهاء بمدينة حلب ينكر أن هذا من الأسرار الإلهية، بقوله: { وكان لهذا الشيخ رضي الله عنه، بنت عذراء، طفيلة هيفاء، تقيّد النظر، وتزيّن المحاضَر، وتحيّر المناظر، ساحرة الطرف، عراقية الظرف. إن أسهبت أتعبت وإن أوجزت أعجزت. حقة مختومة، واسطة عقد منظومة. يتيمة دهرها، كريمة عصرها } الخ. هذا الامام الكبير في تاريخ تصوفنا الاسلامي وفلسفته. عاش حياته في ظل الاستيهامات الجنسية الحارة لامتلاك هذه { الطفيلة } من دون أن يحظى بها. بعد أن سمع فقهاء حلب يشنعون عليه غزله بابنة شيخه. ابتكر طريقة طريفة للتخلص من تشنيعاتهم. كتب شرحاً مطولاً ل { ترجمان أشواقه } للطفلة { عين الشمس والبها } وأسماه { الأعلاق في شرح ترجمان الأشواق } وحاول أن يخدعنا في شرحه لكل بيت عبر اعلانه انه يخاطب الذات الإلهية وأسرارها في هذا الديوان من خلال قناع النظام الذي اتخذه معبراً لبث لواعجه للحضرة الإلهية. على سبيل المثال هذا البيت { وغادرةٍ قد غادرت بغدائرٍ. شبيه الأفاعي مَن أراد سبيلاً } يشرحه هكذا { وغادرة، يشير الى صفة مكرية تركت بفنون علومها الغيبية التي هي من حضرة الهيبة والجلال من أراد الوصول اليها لذيعاً من حبها } والبيت الذي يليه { سليماً، وتلوي لينَها فتثذيبُهُ. وتتركهُ فوقَ الفراشِ عليلا } يشرحه بقوله { وتلوي لينها، يريد نظرة عطف من الجانب الأيمن فتذوب تلك النظرة كما قتلته أيضاً من خلف بغدائرها } في البيت الثالث والأخير من المقطوعة. يشطح في شرحه ويتناسى علته. يقول { رَمت بسهام اللحظِ عن قوس حاجبٍ. فمن أيّ شقّ ٍ جئتَ كنتَ قتيلا } ويشرحه هكذا { رمت بسهام اللحظ عن قوس حاجب، يقول، وهو أيضاً قتيل بما حصل له من المناظر العلى عند الشهود بالوسائط وغير الوسائط } الخ طبعاً كلنا نعرف أن التحرش بالأطفال وعشقهم والتغزل بهم في تاريخ شعرنا العربي، مشكلة واضحة ومقبولة في أغلب بيئات هذا الشعر المكانية والاجتماعية. يفخر المنخل اليشكري في قوله:
{ ولقد دخلت على الفتاة الِخدر فى اليوم المطير.
الكاعب الحسناء ترفل فى الدمقس وفى الحرير }
والكاعب الحسناء هذه هي الفتاة التش ظهرت للتو أثدائها. ربما كان عمرها 12 سنة أو 13 أيّ طفلة. ليس هناك فخر في الدخول عليها وهي في خدرها، ولو تصفحنا آلاف الدواوين التي خلفها لنا أجدادنا البدو لوجدنا مشكلة التحرش هذه والاغتصاب التي تعرضت لها الفتيات الصغيرات موجودة في ديوان كل شاعر.

هواة ما بعد السيّاب
من المعلوم اننا ورثنا أشكالاً وأساليب تمتد جذورها الى العصور السومرية وبما انني اعتبر نفسي شاعر { حداثة } فأسعى من هذا المنطلق الى تقديم قصيدة تغاير ماسبقها ذلك لأن التجارب التي سبقتني كانت محكومة بهموم وموضوعات فيها الكثير من { اللاشعر } وهذا ماحصل في مسيرة ثورة الشعراء الرواد، لكن الخطأ الاساسي في التجني على فهم وظيفة الشعر كان على أيدي { هواة مابعد السياب }. لم يعد شاعر الحداثة الآن { فطرياً } يكتب قصيدته وفق ما تمليه الظروف الاجتماعية والايديولوجية بل أصبح الشعر من خلال وجهة نظري عملية خلاص شخصي. اختراق الواقع وتهريج بوجه الحياة.
صعاليك
كنّا جنوداً نهرب من الخدمة العسكرية الاجبارية دائماً ونسير في الطرقات والميادين العامة بنماذج اجازة مزورة { جان دمو لم يكن يملك حتى بطاقة الأحوال الشخصية }. كان انحدارنا الطبقي من قاع المجتمع وكان أقراننا طلبة في الكليات والمعاهد أو يمضون خدمتهم العسكرية في { دائرة التوجيه السياسي } التابعة لوزارة الدفاع ببغداد. لم نستطع أن نصدر كتبنا في طبعات أنيقة عند دار الشؤون الثقافية بوزارة الثقافة والاعلام مثلما كانوا يصدرون كتبهم لنتمكن من الحصول على عضوية الاتحاد العام للأدباء والكتّاب العراقيين الذي يشترط في الحصول على العضوية أن يقدم الأديب مع استمارة القبول على الأقل كتاباً مطبوعاً. عشنا على الهامش حياة حرّة وكان دخولنا الى اتحاد الأدباء يتم عبر شخص منتسب وحاصل على بطاقة العضوية. يدخل أحدنا بحجة ضيف عليه مقابل دفع ربع دينار الى مسؤول الاستعلامات. سنوات طويلة كانوا يمنعون جان دمّو ويمنعون حسن النواب من الدخول ويمنعوني أنا وربما منعوا كزار حنتوش في مناسبات ما ويعلقون اعلاناً في الباب الرئيسي لمبنى الاتحاد يؤكد المنع { منعاً باتّاً ولمدة سنة }. هل كانت قصائدنا تفي بالغرض المطلوب في سنوات الحروب الظالمة التي كان يشنها النظام الديكتاتوري على جيران العراق؟ يعتقد الكثير من الأوباش أن مجموعة كزار { الغابة الحمراء } التي صدرت عام 1986 عن دار الشؤون الثقافية مكرسة كلها للحرب. لقد أًصرّ كزار الشيوعي القديم على اختياره للعنوان وكان له ما أراد. طوال عشر سنوات في الأوساط الأدبية والثقافية لم نتمكن من انتزاع فرصة واحدة للاعتراف بنا أننا شعراء وبشر لنا طموحاتنا وأحلامنا الشعرية والانسانية. كان عزاؤنا يكمن في حياة البارات التي كانت ملاذنا الأخير من التفاهة الرسمية والهروب من أولئك الذين يرتدون البدلات الكلاسيكية السود وبدلات الزيتوني العسكرية مع حقائبهم اليدوية ومسدساتهم. لماذا كانت موائدنا محاطة دائماً في بار اتحاد الأدباء وبارات { الباب الشرقي } و{ ساحة النصر } وغيرها من البارات بالمتزوجين والرسميين والأكاديمين وأدباء دائرة التوجيه السياسي؟ هل كنا نذكرهم وننبهم من دون قصد الى تفاهاتهم وتفاهات حيواتهم المستكينة والمتنطعة؟ هل كانت ثقافاتنا ورؤيتنا الى الشعر والحياة تدغدغ ما عجزوا عنه على مستوى الحياة والانجاز؟ كانت الأمسية الشعرية اليتيمة للصعاليك في اتحاد الأدباء العتيد فضيحة كبيرة لتلك المؤسسة الرسمية عام 1993 حيث كان حضور الجمهور كبيراً وبشكل لافت للنظر لم تألفه أمسيات الاتحاد الثقافية { أقيمت في الحديقة وليس في القاعة الكئيبة }. قال لنا جان في ذلك اليوم الصيفي:{ اليوم سيتم الاحتفال بنا لأول مرة منذ أكثر من عشر سنوات وسنشرب بالمجان وننام في أراجيح حديقة الاتحاد. لا فندق ولا مصطبة. لا تطيلوا القراءات من أجل الشراب المبكر }. كان جان قد قرأ قصيدة قصيرة جداً وأثناء قراءته صرخ رجل يرتدي بدلة سوداء اللون وتجلس الى جنبه امرأة انيقة: { الله. أحسنت. أعد. أعد } نظر اليه جان دمو بامتعاض وغضب وصرخ في وجهه: { إنجب لك }. بلع الرجل الذي فاجأته المصيبة ريقه وإنجب طوال الأمسية التي لم تستغرق أكثر من نصف ساعة { الأمسية خصصت ل جان دمو. كزار حنتوش. حسن النواب. نصيف الناصري }. فتح بعدها بار الاتحاد للرواد أبوابه التي كانت تفتح دائماً بعد نهاية كل أمسية.
تجمعات
لم يتغير فيّ أيّ شيء على صعيد التمرد. أنا مطرود هنا من كل التجمعات العراقية التي يسمونها الثقافية { دكاكين حزبية }. أقيمت هنا في السويد قبل مدة { أيام الثقافة العراقية } بتنظيم من السفارة العراقية وبمشاركة 17 حزباً سياسياً وحركة وقد شارك فيها أدباء وكتّاب وووالخ ولم تتم دعوتي اليها لأنني خارج هذه التجمعات الرسمية والطائفية.

استلاب
لطالما بحثت في شعري عن الماوراء وعن الحيرة في متاهات الوجود واللاوجود. ليست هناك بيئة معينة تشغل قصيدتي. ماذا يمكنني أن أكتب عن مقهى { حسن عجمي } أو ساحة { الميدان }؟. هذه المهمة ليست مهمتي. طوال 34 سنة أمضيتها بالعراق كنت أشعر دائماً في الاستلاب والاغتراب الروحي والجسدي ولم أشعر بانسانيتي قط.

أبي جان دمّو
من الصعب محو جان دمو من الضمير الشعري العراقي، وكونه ظاهرة فريدة من دون انجاز فهذا لايعني انه سيموت، ذلك لأن هذه الظاهرة لن تتكرر في يوم ما. جان كان أحد الأدلاء الكبار في شعرنا العراقي، وقد أرشدني في بداياتي الى المنابع الأصلية للشعر. حين تعرفت اليه عام 1980 في مقهى { البرلمان } كان أبي وأمي قد أكملا استعداداتهما لتزويجي من ابنة عمتي وكنت أرتدي دائماً الملابس الأنيقة، واستلم راتبي من وزارة النفط. سحرتني شخصيته الصعبة المتحررة والنبيلة منذ البداية. دعوته الى حانة، وحين بدأ يسكر تجرأت وقلت له: هل أستطيع أن أقرأ لك قصيدة كتبتها قبل أيام. قال: حسناً اقرأ. قرأت قصيدتي وقبل أن اكمل. صرخ في وجهي: اسكت يا حمار، يا قاذور، هذا ضراط وليس شعراً. في نهاية الجلسة وكان يترنح وعدني انه سيعيرني في المرة القادمة قصائد لعبد القادر الجنابي وسركون بولص ومجموعات لسعدي يوسف وانسي الحاج وتوفيق صايغ وشعراء آخرين { طبعاً لم يقدم لي أية مجموعة لكنه دلّني على هؤلاء الشعراء }. في اليوم التالي استلمت خرقة التصوف منه وخلعت ملابسي الرسمية وخسر أهلي مشروع زواجي واعادتي اليهم الى الآن. طوال 18 عاماً مع جان استطعت أن اكتشف الجوهر الحقيقي للشعر وعرفت انه لا يكمن في تلك الأصوات المشهورة والمهووسة بالمشاريع القومية والخزعبلات السياسية، وحتى الآن مازلت أعرف أن الشعر الأصيل والذي يبقى ولا يزول، هو ذلك الشعر الذي يكتبه أولئك الذين ابتعدوا منذ البداية عن طلبات القطيع ومشاريع السياسين، وأود هنا أن اذكر حادثة تتعلق بما أقول: أقيمت أمسية للشاعر سميح القاسم عام 1996 في غاليري الفينيق بعمّان وحضرها جمهور كبير غصت به القاعة حد التخمة. أخبرنا سميح انه سيقرأ لنا قصائد من مجموعته { الكتب السبعة } الصادرة حديثاً { عن دار الجديد } وقال: انها مجموعة جديدة في رؤاها وموضوعاتها وأساليبها وراح يقرأ. ظل الجمهور واجماً طوال نصف ساعة، وبدأ البعض يتململ والبعض الآخر خرج من القاعة، وحين تنبه سميح الى حالة الجمهور قطع القراءة وقال: سأقرأ لكم الآن قصيدة عن فلسطين. أظن أن عنوانها { جئتم أولاً } وحين بدأ يقرأ هذه القصيدة التهبت القاعة بالتصفيق الحاد، وعاد أولئك الذين خرجوا. بصراحة لقد أشفقت على سميح في تلك الأمسية حين تخلى عن قراءة قصائد من مجموعته الجديدة وراح يلبي ما يريده هذا الحشد الذي يجهل الشعر. الشعر من أصعب وأقدس الفنون التي تستطيع كشف وتعرية الوجود والموت والميلاد، ولذلك نلاحظ أن المنجز الأصيل في جميع العصور قليل جداً. لا يمكن للشعر أن يكون وثيقة أو تسجيل وقائع آنية، ومن هذا المنطلق نستطيع أن نعول على جلاله ومجده. أردت عام 1987 أن أحيي جان دمو وصداقته من خلال الشعر، فكتبت عنه 37 قصيدة ضمتها مجموعة { ولاء الى جان دمو } وذكرت في كتابي { معرفة أساسية } أن أختي الكبرى كانت تسخر مني عندما أهرب من الخدمة العسكرية وأعيش متخفياً خوفاً من عقوبة الاعدام وتقول لي: { لماذا لا تكتب مجموعة ولاء الى الريس حتى يتم نقلك الى بغداد في دائرة التوجيه السياسي؟ }. كانت الصعلكة مع جان بالنسبة لي اختياراً واعياً وحراً، لأنها تمنحني فرصة أن أعيش للشعر وحده وأكرس كل حياتي له بعيداً عن الالتزامات السياسية والاجتماعية وسواها اعترف. لقد حاولت أن أتبرأ من تهمة الصعلكة عدة مرات لكنني أخفقت. ماذا أفعل؟ لقد تشكلت حياتي على هذا المنوال منذ جان دمو، وبالنسبة للافلاس فلا شيء تغير هنا. مرت وستمر أيام يكون طعامي فيها العجين بالزيت والشاي والبطاطا وأحياناً البيض، من أجل أن أوفر مبلغاً لشراء الكتب أو احتساء بضعة علب من البيرة. ينبع حزني الدائم وهو حزن سري. من اللاجدوى وخواء الحياة الانسانية في هذا العالم الذي يستلبنا في كل لحظة. يظن الانسان انه مقدس، لكن الحقيقة أن هناك أشياء في الوجود أعمق من القداسة. بحثي عن الشعر الذي كلفني حياتي كلها. كان شبيهاً بالبحث عن الذهب وسط أكوام عظيمة من التراب والرمال والقمامة. لم أعثر على القصائد الأصيلة والبهية على الرغم من ملايين الشعراء العرب، إلاّ عند أولئك الشعراء العظام القلائل الذين أداروا ظهورهم منذ أول حرف كتبوه للمؤسسات بكافة أشكالها. هذه المؤسسات المنحطة لم تقدم أي منجز حقيقي طوال ربع قرن في العالم العربي، وأسألك هنا: ماهي الرواية العظيمة أو المجموعة الشعرية أو المجموعة القصصية أو أي كتاب آخر له علاقة بالفكر. استطاع أن يشدنا ويجبرنا على قراءته طوال هذه المدة؟ هل تعلم أن الشعراء في العراق الآن بعد زوال نظام البعث قد بدأوا يكتشفون تجارب هؤلاء الذين أعنيهم. كانت أعمال هؤلاء الشعراء تكاد أن تكون شبه مجهولة بسبب منعها والتعتيم عليها في سنوات الطغيان. ويطيب لي أن أذكر لك هنا هذه الحادثة التي تتعلق بالشعر الأصيل. أردت مرة بعد التعرف على جان دمو أن أشتري ديوان محمود درويش وفي الطريق الى المكتبة صادفني جان في شارع الرشيد فأخبرته بالأمر. اقترح عليّ أن نذهب الى غرفته المقابلة لمقهى { حسن عجمي } ويبيعني كتاب { السوريالية وتفاعلاتها العربية } لعصام محفوظ، وفيه ملحق عن عبد القادر الجنابي، يتضمن سيرة ومختارات، ونشرب الخمر بالثمن. أضاف لي هذا الكتاب الكثير ودلّني على الينابيع الشعرية التي لم تلوثها العنتريات العربية الثقافية، حتى انني عندما طلب مني أن أشترك في ملف { فضاء الحداثة } الذي أعده صديقنا الشاعر سلام كاظم بعد سنوات ونشر في مجلة { الطليعة الأدبية } وخصص ل5 شعراء. سطوت على كتابة عبد القادر فيما يخص سيرته ونسبت أسلوبه وطريقته الى نفسي. هذا الكتاب الذي عرفته من خلال جان دمو، هو الذي جعلني أكتب تلك القصائد التي ظنها ذلك الجهبذ { الشاعر المفكر } انني قد سرقتها من الشعر الفرنسي. لقد منحني جان فرصة مناسبة لكي اقترب قليلاً من السوريالية وابتعد عن الشعر الجماهيري الآني.
شاعر غجري مجنون
أنا الوحيد من الشعراء العراقيين مكتوب في جواز سفره. المهنة شاعر. وربما كان المرحوم جان دمو أيضاً. طوال 30 عاماً كرّست حياتي كلها من أجل الشعر الذي لا يعنى بقضايا وموضوعات الإيديولوجيا. في العام 1986 أصدرت بخط اليد مجلداً ضم 4 مجموعات شعرية بعنوان { جهشات } وصرفتُ راتبي من أجل 50 نسخة فقط، وزعتها على عدد من الشعراء الأصدقاء العرب والعراقيين. حين كتب الناقد حاتم الصكر عن هذا المجلد في العام 1989 في صحيفة { الجمهورية } مقاله {جهشات الغجري الملعون } قال: ان شعر نصيف الناصري لا يشبه أيّ شعر سوى شعر الغجر في العالم، ومن هنا جاءت هذه التسمية التي التصقت بي { الغجري }. في تلك السنوات كانت وزارة الثقافة عندنا تطبع المجموعة الشعرية للشاعر ب 5000 نسخة وتمنحه مكافأة يحلم فيها أيّ شاعر في البلدان العربية. لم تكن أيّ من مجموعات { جهشات } صالحة للنشر في وزارة الثقافة، والسبب أنها لا تعنى إلاّ بالشعر وجماله الخالص. لا تمجيد للحرب ولا اشادة بنظام الطغيان ولا ولا الخ...
حرب ضد الرداءة
أعترف أن حربي ضد الشعر الرديء في العالم العربي قد خلقت لي عداوات مع المافيات الشعرية في لبنان ومصر والأردن والعراق وسواها من البلدان. حاول ويحاول الكثير من هؤلاء الذين يتحكمون في المواقع الشعرية في الإنترنت والصحف والمهرجانات التعتيم على كتاباتي، ولكنني لا أعيرهم أيّ اهتمام. قبل أيام قرأت المجموعة الرابعة عشرة لفاروق شوشة { الجميلة تنزل الى النهر } من أجل الكتابة عنها. بعد جهد وضياع وقت ثمين اكتشفت أن هذا الشاعر الفطحل يمدح عمرو موسى أمين الجامعة العربية ويثني على الرئيس حسني مبارك ويتغزل بـ 400 سيدة كنّ يحضرن أحد المؤتمرات الدعائية لنظام صدام حسين ب { فندق الرشيد } في احدى سنوات الثمانينيات. صرفتُ النظر عن الكتابة حول هذه المجموعة التافهة لأنني أحسستُ أنني لا أستطيع أن أغيّر شيئاً في هذه الرداءة المقيتة.
الشاعر الغطّاس والشاعر العائم
1
أدونيس
انسي الحاج
سركون بولص
عبد القادر الجنابي
سليم بركات
أمجد ناصر
عباس بيضون
خزعل الماجدي
وديع سعادة
سيف الرحبي
زاهر الغافري
سماء عيسى
قاسم حدّاد
جمانة حداد الخ
2
أحمد عبد المعطي حجازي
أمل دنقل
أبو سنّة
أبو دومة
شوشة
الفيتوري
شوقي بزيع
محمد شمس الدين
نور الدين الجرّاح
فاضل العزاوي
شوقي بغدادي
ممدوح عدوان
سعدي يوسف
محمد جميل شلش
رشدي العامل
هاشم شفيق
عدنان الصائغ
ابراهيم زيدان
محمد الكعبي
الصغير أولاد أحمد
أبو الشمقمق
دريد ابن الزفرة الخ