صالح كاظم من برلين: لم يأت خبر موت المخرج المسرحي بيتر تزاديك (1926-2009) مفاجئا لجمهوره وللإعلام الألماني، فقد كان من المعروف أنه يعاني منذ فترة طويلة من مرض عضال، لم يثنه عن مواصلة عمله الإبداعي حتى اللحظات الأخيرة. يتفق النقاد أن بيتر تزاديك كان واحدا من المسرحيين الذين تمكنوا من أن يحدثوا نقلة كبيرة في المسرح الألماني المعاصر الذي وجده كما يقول quot;جامدا وخطابيا وتقليديا..quot; من خلال عمله المتواصل من أجل تنقيته من السائد عن طريق تغذيته بخبراته التي كان قد أكتسبها في بريطانيا على خشبة المسرح هناك. وللواقع فأن تزاديك لا يتحدث هنا عن التجربة المسرحية في quot;المانيا الديمقراطيةquot; التي كانت بحد ذاتها تجربة مثيرة، من خلال وجود تجربتين متناقضتين تجسدت في عمل برتولت بريشت والبرلينر إينسامبل وما كان يدعو له من quot;مسرح ملحميquot; أو quot;مسرح ديالكتيكيquot; لاحقا من جهة، وغوستاف فون فانغنهايم (1895-1975) في المسرح الألماني (دويتشس تياتر) وما رسخت فيه من تقاليد المسرح الواقعي التي جعلته لاحقا متفتحا امام التجارب الطليعية على شحتها في الجانب الشرقي. من هنا فأنه ليس من المستغرب أن يتحدث تزاديك بشئ من الإنبهار عن إحتكاكه للمرة الأولى بفرقة بريشت في لندن في العام 1956 quot;بريشت لم يكن يهمني، ولم أكن قد قرأت له شيئا، لأني لم أكن أهتم بالسياسة. إلا أني كنت قد سمعت بأن الفرقة تجمع ممثلين ممتازين. الناقد المسرحي الأمريكي الذي كنت أعرفه هنري هيوغس قال لي ذات يوم quot;سأشاهد غدا عرضا لبريشت، ألا تريد أن تأتي معي.quot; وهكذا وجدنا أنفسنا في المسرح وشاهدنا quot;الأم كوراجquot; و quot;دائرة الطباشيرquot;، تمثيل هيلينا فايغل. هذه التجربة هزتني بقوة، وفي النتيجة فكرت: المسرح يمكن أن يكون ذكيا أيضا.quot;
لقد جاء بيتر تزاديك الى ألمانيا حاملا في جعبته العديد من التجارب الحداثية للمسرح البريطاني إضافة الى قناعاته البعيدة عن السياسة حول طبيعة المسرح من ناحية توظيف مجمل الطاقة الجمالية في خدمة العمل المسرحي بما في ذلك ما يمكن أن يوضع في خانة quot;مسرح البوليفارquot; وquot;المسرح الغنائيquot; ndash;ميوسيكال-. محملا بهذه القناعات فاجأ بيتر تزاديك المسرحيين الألمان وجمهور المسرح الألماني بأعمال أقل ما يمكن أن يقال فيها أنها تخرج عن الأطر المعهودة في حينها، فقام بعد فترة قصيرة من إنتقاله من أولم الى بريمين بتكوين ما يسمى quot;الطريقة البريميةquot;، تميزت بتقديم مشاهد مثيرة من إخراجه وسط quot;تشكيلات مسرحيةquot; للرسام المعروف فنفريد منكس. وكان تزاديك قبل عودته لألمانيا قد أسس لنفسه سمعة في المسرح البريطاني بصفته quot;مسرحيا إستفزازياquot;، إذ قام للمرة الأولى بتقديم أعمال للكاتب الفرنسي الكبير جان جينيه للمجتمع البريطاني المحافظ في خمسينات القرن الماضي، ذلك في الوقت الذي كان جينيه فيه يعتبر حتى في بعض أوساط المثقفين quot;كاتبا مثليا منحطاquot;، إذ قام بإخراج مسرحية quot;الخادماتquot; التي تعرضت للنقد بسبب نزعتها quot;الداعرةquot;، غير أن جينيه رحب بهذا العرض وأعتبره نموذجيا في تقديم أعماله. إلا أن موقف جينيه من تزاديك سرعان ماتغير، بعد أن قام الأخير بطلب من جينيه بإخراج عمل مسرحي آخر له ألا وهو quot;الشرفةquot;، حيث شن جينيه حملة كبيرة على المخرج بتهمة تزويره لجوهر العمل: quot;جئت الى المسرح، لا أتذكر إذا كان هذا خلال البروفة الرئيسية أو البروفة النهائية. كان الممثلون يقفون على الخشبة وهم يحيطون بجينيه الذي كان يحمل في يده مسدسا، فقال لي quot;سأطلق عليك النار.quot;quot;، والسبب في ذلك، هو وفق رواية تزاديك أنه كان قد أخرج العمل بطريقة واقعية جدا، إذ حول خشبة المسرح الى مبغى، بكل تفاصيله، غير أن جينيه لم يكن يريد هذه التفاصيل في الإخراج (رغم وجودها في النص)، بل كان يريد أن يجري إخراج العمل بصيغة رمزية خالية من quot;الإبتذال والدعارةquot;، وكان قد سبق لتزاديك أن التقي بجينيه في باريس للحديث حول تصورات جينيه عن العمل quot;سافرت الى باريس للقاء بجينيه، ولم يكن لدي تلفونه أوعنوانه، وقد التقيته في إحدى زوايا باريس في وقت محدد، حيث انه بالتأكيد يواجه كالمعتاد مشاكل مع البوليس... أردت أن أتحدث معه عن المسرحية، غير أنه قال لي: quot;أريد أن أريك شيئا.quot;..قادني الى متحف كلوني، حيث علقت مطرزة جدارية من بوساك quot;السيدة ووحيد القرنquot;.. كان جينيه يريد أن يريني طقوسا، كمثال لتصوره عن إخراج العمل.quot; بعد هذا، وفق رواية تزاديك، تجول مع جينيه بعض الوقت في شوارع باريس مصغيا لأحاديثه، حتى توقف جينيه عند زاوية ما وقال: quot;الآن علي أن أذهب.quot; فقال له تزاديك: quot;لكننا لم نتحدث عن المسرحية.quot; فأجابه جينيه: quot;لقد تحدثت بما فيه الكفاية.quot; وتركه واقفا هناك.
أثار هذا العمل ضجة كبيرة في الأوساط المسرحية والثقافية البريطانية وأنقسمت آراء الجمهور حوله، منذ ذلك الوقت ألصقت صفة quot;مخرج فضائحيquot; ببيتر تزاديك، هذه الصفة التي لم يتخلص منها حتى موته. في المانيا واصل تزاديك نهجه الفضائحي في أول أعماله التي قدمها على مسرح أولم في العام 1961، حيث قام بإخراج مسرحية شكسبير quot;تاجر البندقيةquot; مقدما شخصية شايلوك اليهودي بكل ما أتسمت به من عنف ووحشية في النص الشكسبيري، مضيفا اليها بصماته الشخصية، مما ألحق به تهمة quot;معاداة الساميةquot;، وهو اليهودي الذي كانت عائلته أضطرت لمغادرة ألمانيا الى بريطانيا بعد إستلام النازيين للسلطة. وكان تزاديك قد أختار الممثل الألماني المعروف جورج كابين لإداء دور شايلوك. إلا أن هذا، كما يروي تزاديك اعترض على تكليفه بهذا الدور قائلا: quot;بيتر أن من الممكن ان تعالج موضوعا كهذا، أما أنا فأني ألماني ولا أستطيع أن أمثل يهوديا على هذه الدرجة من الوحشية. كما لا يمكنني أن أنسى ما حصل هنا في ألمانيا خلال العشرين سنة الماضية.quot;، مع هذا تمكن تزاديك من أن يقنع كابين بأن يتجاوز مخاوفه هذه، مشيرا الى أن المسؤولية الأخلاقية تقع في النتيجة على عاتق المخرج. بعد العرض الأول للمسرحية، هكذا تزاديك، التقى في الحفل الذي أقيم بعد العرض بهذه المناسبة مع الناقد هيلموت كاراسيك الذي قال له: quot;تاجر البندقيةquot; كما قدمته هنا هو عرض معاد للسامية تماما. كيف يمكن أن تفعل شيئا كهذا؟ الست يهوديا؟quot; فكان جواب تزاديك: quot;بالضبط. كوني يهوديا يعطيني إمتياز أن أفعل هذا في المانيا. كما أني لا أطيق quot;حب الساميةquot; ndash;Philosemitismus المنتشر في المانيا.quot;
من خلال طروحات كهذه وأعماله المسرحية الإستفزازية الصقت ببيتر تزاديك صفة quot;انفان تيريبلquot; المسرح الألماني التي قد تعني عربيا quot; شخص صعب المراسquot;، رغم تأكيده في العديد من المجالات انه أبعد ما يكون عن السياسة وإصراره الدائم على تنقية المسرح من الأغراض السياسية المباشرة، على عكس تلميذه ومنافسه لاحقا بيتر شتاين. ربما بقصد أو بغير قصد أصبح بيتر تزاديك واحدا من الرموز المسرحية المهمة لجيل الستينات، وذلك من خلال أعماله التي جاءت كما لو كانت تحفيزا على التمرد ضد القيود الإجتماعية السائدة (quot;الصاع بالصاعquot; لشكسبير، quot;الإستيقاظ ربيعاquot; و quot;لولوquot; لفرانك ويدكند..الخ)، وذلك رغم رفضه المعلن للنهج الستيني في السلوك السياسي اليومي وفي مجال الفن، منوها بذلك الى مايسميه بquot;التأثير السايكولوجيquot; الذي كان يمارسه ndash; حسب رأيه- بيتر شتاين على الممثلين لدفعهم في إتجاه سياسي معين. أما من الجانب الفني فقد ساهم بيتر تزاديك بطريقته الخاصة في إيصال بعض الإتجاهات المسرحية الحديثة في أمريكا وبريطانيا ومن ضمنها quot;مسرح الشارعquot; الى ألمانيا التي وصلتها هذه الإتجاهات في وقت متأخر قبل وأثناء الثورة الطلابية في العام 1968.
من جهة أخرى يمكن إعتبار تزاديك من أوائل من عملوا في المانيا على بناء نظرية quot;شموليةquot; للمسرح من خلال إستخدام مختلف الأدوات الفنية (موسيقى، فيديو، رسم..الخ) في أعماله المسرحية، كما يعتبر أول من قدم عملا في المانيا على طريقة المسرح الغنائي الذي كان قد اطلع على أصوله في أمريكا وبريطانيا: quot;ايها الرجل البسيط، ماذا ستفعل؟quot; وهو عمل مأخوذ عن رواية معروفة للكاتب الألماني هانس فالادا (1893-1947)، أعدها للمسرح الكاتب والمخرج تانكريد دورست. وقد عبر قبل موته بفترة قصيرة عن أسفه، ليس بسبب العمل الذي كان من الأعمال المسرحية المتميزة في حينها، وإنما لكونه فتح الأبواب أمام تسرب النموذج الأمريكي لما يسمى quot;ميوسيكالquot; الى المانيا. في مذكراته التي سماها my way تيمنا بالمغني الأمريكي فرانك سيناترا يعالج تزاديك مراحل تطوره الإبداعي مرورا بالعديد من المبدعين الذين مروا في حياته من منظور يسعى لأن يكون موضوعيا، غير انه لا يخلو من النظرة الذاتية التي تضفي عليه شيئا من السحر في تجاوز حدود كتابة السيرة من خلال نظرته الثاقبة تجاه الأفراد المحيطين به والأحداث التي شكلت محيط تجربته الحياتية والمسرحية في كل مرحلة من مراحل حياته. من منطلق حداثي ربما يكون ما جاء به بيتر تزاديك الى مؤسسة المسرح يتطابق مع المهمة التي حددها أدورنو للفن: quot;مهمة الفن هي تسريب الفوضى الى النظام.quot; لذلك فأنه من غير المستغرب أن يعتبره الكثيرون رغم تحقيقه النجاحات الكبيرة من خلال عمله المسرحي فاشلا في الجانب الإداري بسبب عدم إهتمامه بالجوانب الإقتصادية للمسرح كـ quot;مؤسسةquot; إجتماعية ترتبط بالسعي لجذب الممولين إليها وإرضاء ميولهم بهذا الحد أوذاك. أما بالنسبة لتزاديك، وهذا ما يتفق فيه مع هاينر ملر، فأن المسرح هو quot;ورشة للمخيلة الجماعيةquot; الهدف منها تحقيق التواصل بين الممثل والجمهور من خلال تحفيز نقاط الإلتقاء عبر اللاوعي بين الطرفين دون قصدية. حول لاقصدية الفن يقول تزاديك: quot;لاحظت بالتجربة أن العمل يكون رديئا كلما فكرت مسبقا بنتائجه (في الواقع). غير أن هذا لا يعني أني لا أهتم بالواقع، بل يعني أني لا أستخدم المسرح فقط لهذا الغرض.quot; ربما كان هذا واحدا من الأسباب التي جعلت من تزاديك عرضة للنقد من قبل اليمين واليسار على حد سواء، بدءا من البوسترات الإستفزازية التي كان يختارها لأعماله وإنتهاءا بالعمل بحد ذاته، حتى قيل عنه أن عمله المسرحي لا يتجاوز الإستفزاز. ولوضع القارئ في الصورة سأتطرق هنا الى ما حصل في برلين أثناء الثورة الطلابية في العام 1968 أثناء عرض مسرحية ldquo;Savedrdquo; للكاتب المسرحي الإنجليزي ادوارد بوند، حيث ووجه العرض بإحتجاجات كبيرة من قبل الجمهور ndash; اليساري على الأغلب-، أمتدت عدواها الى بعض الممثلين لاحقا، أدت الى إيقاف العمل وتحول العرض الى نقاش بين الجمهور وإدارة المسرح مع التاكيد من قبل الجمهور والممثلين المتمردين على أن العمل يفتقر الى الخطاب الإجتماعي، بل ويتعارض بشكل واضح مع quot;الوظيفة الإجتماعيةquot; للمسرح كمؤسسة quot;تربويةquot; من خلال التحريض على quot;القتلquot;.
لقد تمكن تزاديك أن يضع أسسا متينة لمسرح جديد، يعتمد على تنوع الأدوات في إطار جمالي يبعده عن متطلبات الساعة، فكان المسرح بالنسبة له عبارة عن تجربة جمالية تشع على ما يحيط بها، ربما تحمل في داخلها quot;طاعونquot; أنتونين آرتو. ولا شك بأن رحيل بيتر تزاديك قد ترك فراغا كبيرا في المسرح الألماني والمسرح العالمي.