إلى صديقي العزيز quot;كامل شياعquot; الذي اغتيل في بغداد في 23 أغسطس 2008

أبطال كاتمات الصوت
يتربعون فوق عروشٍ من حجر
مهترئة الجذور من ريح السموم وشحة المطر
وعلى الضفاف من نهر الفرات حيث تجمع الأطفال الحفاة
وحيث يلتهم الصمت بقايا التذكر ويزحف كسلاحف أزمانٍ غابرة
جلست الأمهاتُ بسواد الليل يندبنَّ
من آماقٍ مشدودةٍ.. تفوحُ بحرارة الدم
ما حل بنا من فواجعِ
ونكوصٍ في رقة المعنى وعودة الإنسان
يرششن الماء على قبورٍ تتراصُ كل صباح مثل فيالقٍ راقدة
ينشدن تراتيلَ معابدٍ ممزقة الأردان والأزياق
يتواصلن في نواحهن عن رجالٍ شجعانٍ.. عن القتلى في الطف وشوارع بغداد
فكأنَ لا لُقيا تحدث عقب المنافي
إلا مع هذه الرملة التي تحتجز الكون بالصفرةِ ورائحة القبرْ
فمن يريدُ أن يتغير
ويسمو بروحهِ الثكلى: أغصان زيتونةٍ محترقةْ
فليمدَ الجسد قريبا.. وأكثر مما يتصور
في العدم الكلي
أين ترتعُ أرتالُ الصمِ البكمِ.. متغيري الوجوه.. أقلُ من عضايا مجاعة قاهرةْ
أين يُجمعُ دخان فوهات البنادق
داخل كهوفِ أرائهم المختمرة على تراكم الدماء
من أجل البسالة وتاريخ المجد الضائع
أبطالٌ موسومون بالخناجر وكاتمات الصوت
يهيئون مجد هولاكو على أهرامات تسيل دماؤها كخيوط العناكب
وتسطعُ عليها شمسُ غروبٍ مُرهَقٍ بالنحيب
إذ تصفرُ خلل المحاجر الفارغة كرعبٍ كوني لا تتمثله الأرض
رياحُ الجهاتِ الأربعْ
وضمن ميلان الضياء بألوان قانيةْ
على الصرائفِ والبيوت الخربة تمتد الظلالُ وتسكن
كأن كل هذه المتشبثات بسلاسل صدئةْ
تمائمٌ يعلقها الضياء على الهواء
فلنتبارك إذن مثل أشجار الأثل وقوفا
ما بين القطعان وهي ترعى أفكار أحزاب موهومةْ
وترعى أعلاف الجرائد والصديد الأهوج
بعد أن صُبَ عليها زيت القرون ومخلفات التتر
كذلك على هدايا مُسيري طاقم القتلة
يحلمون مجددا بدولتهم، البدو الفاشست، والعالم
يتفتت.. يحترق في أروقة التيه البيضاء، ومن لا يدركُ هذا ؟
يحلمون بالقيادة والقائد المعمد بأصناف جحافلهِ
على الحدود وممرات الهواء في quot;الأهوار وحلبجةquot;
يحلمون ببائعي الأعلاف quot;والجتquot; ضد مجاعات الأغنام والماعز
ثم نأتي إليك مطأطئي الرؤوس
يا صديقا باعدته عنا
مسافةٌ من الرمل والحجارة النديةْ
مسافةٌ لا يخترقها العويلُ ولا صدى التفجيرات المتكررة
مُكللين بما لا نعرف: حيوانات غاب ونسور جائعة
نشكو إليك الغدر وسياسة الوجهين
وبقايا حثالة القتلة وما جروا من قبل ومن بعد
من مآس على الشعب المسكين
نشكو إليك الأخوان على المقاعد من مدن مسورة
بعيدا عن المشاعل الجوالةِ كوضح النهار
يتقاتلون على أطنان الزيت والزفت
على ما تأكله الطير في قحاف الجماجم
يباركون بعضهم كالممسوسين بانتظار الجولةِ القادمةْ
نأتي إليك لنصحح أخلاق الملثمين بخناجرهم المعقوفة إلى الوراء
وننقذ ما تبقى قبل أن يتم الالتهام العظيم لكيان البساطةْ
فجلستَ أنتَ مثل مُعلمٍ قديم لا يُعدد أمجادهُ أمام تلال الرمال
جاء عبر الخلاف والزمن
يضعُ حجارةً فوق أخرى
متأبطا الأوراق وبطاقات التموين
في شوارع quot;الوركاءquot; وquot;أريدوquot;، وquot;آورquot;
جالسا في همه المغرق خلف الضياء
مثلما جلس السومري على أعتابِ السماء
يخطُ للآلهة كلماتها الأولى على الغرين
يُرتبُ أحجارَ الطين واليقين الأرضي
مواشير على خطى تقدمهِ داخل الذكرى
بين العوسج وأعثاق النخيل والقصب والبردي
لكننا جئنا بلا حظوظٍ في مواطن الأعراب القحاح
يأكلوننا من أربعمائة وألف عام كثمر الطلع
ومازالوا يستثمرون على أطرافٍ عاريةٍ فوق الرمل
يشغلوننا في القتلِ
واللصوص منشغلون في حفر الأرض
وما يَعترفُ به الناس: الدم الأسود
يستلقي وسطَ البحرِ النيلي تنوحُ عليه الأساطيل
قرب أمةٍ تستعبد نفسها طوعا من طول زمن الخوف
تنام بانتظار بزوغ القمر

***
وخلف الأسوار تمطرُ السماء: هذا هو الصيف الماحل ينزلُ.. عند أسفل النافذة وكانت الأعشاب تنمو، خضرة يانعة، بهجةٌ حقا، تهبُ الروح نصيبا أخر. واكتشفتَ يا محاربٌا نادرا، أن هناك موازين أخرى من الفهم الديمقراطي.. يتحولُ فيها العدو بعيدا عن المناكدةِ، إلى صديق همهُ أن يصلحَّ أخطاءه، ضمن روح العراق القديم. ضمن التسامح العظيم.. ضمن quot;سومرquot;. فكأن هذا الفعل الإنساني الخطير يشغل بال العتاة، أحفاد جموع البدو؛ فقرروا أن يقتلوك، أن يمسوا جسدك، يطلقوا روحك، حرةً إلى الأبد. تشاركنا تبدل الساعات والنواح تحت رحمة الغسق. فلن يقلعوا الذاكرة، الملايين تنتظر، لن يقلعوا الصورة التي تشربها الماء، وجرت بها هناك بعيدا، أين النخيل والمُدن العتيدة، ينابيعُ المطر.


***

جلستُ أرقبُ خاتمة المساء
لا قلب ليّ ولا عقل فأنا في بهوت quot;كاملquot;
جسدي ينحلُ في عمق رائحة التراب
وتخفُ روحي من وطأة الألم
أحاولُ أن أغفر
فكل هؤلاء الخطاةْ بأرواحٍ متخشبة
سوف تلتهمهم الأرض
رأفة وغفرانا لأبعاد كيانهم الزائل
وفي الأفق البعيد
حيث يتصاعد اللهب كان قلبي
قلبُ فتىً عاشقٍ
تشبُ فيه النار
ويضيع في منفى السماء
رمادا قانيا
يغور في الامتزاج
السحيق الدائم

***
أنظرْ.. آهٍ أنظرْ
البلبلُ العراقي ينشد خلف أسوار الشوك هناك في اكتظاظ خضرة النخيل وسدرة المنتهى
يُسمعُ غناءهُ مُهجَا قد نَسيتْ
أن هناك قادمٌا ثانياٍ.. سيأتي.. ويأتي بعده أيضا..
سيقفُ مليا والليل يتغلغل في ثنايا الثياب
يستمعُ الى الغناء الهيمان الصادح كيف سيطوي القفار
متعجبا من هذهِ الأجساد المريرة والرماد
يتأملُ في اتساع خياله:
أن تغيير العالم احتمال قائم
وعرائش الربيع تصطف راقصات حفلٍ مهيب
يتنعمن فوق الشرفات بمرور الهواء
ووقوف الأحبة تشعُ في أقداحهم ينابيع الضياء.

الشاعر فنان تشكيلي يعيش في بلجيكا