مصر ولادة.. سابقا...اليوم.. وغداً
مثقفون: دور مصر الثقافيلا يزال يحتفظ بريادته بالرغم من كل الظروف الصعبة المحيطة به
سلوى اللوباني من القاهرة: الثقافة المصرية في حراك دائم وفي حيوية متجددة باستمرار وقد يكون هو السبب الذي يدفع البعض بين الحين والاخر للسؤال عن دور مصر الثقافي، حيث كثرت في الاونة الاخيرة الانتقادات حول هذا الدور وواقعه واهميته وهل هناك تراجع وما هي اسبابه؟ وهل لا تزال مصر فاتحة ذراعيها لكل الجنيسات والثقافات كما كانت سابقا حيث كانت تحتضن جميع الادباء والمثقفين لتدعمهم؟ وهل من حق احد التهجم على دور مصر ونسيان ما كانت تمثله لكل العرب خصوصا هنا في مجال الثقافة؟ وما هو دور الادباء العرب تجاه دور مصر الثقافي الان؟ يعتقد البعض ان هناك تراجعا في دور مصر الثقافي بسبب ظروف عدة ولم تعد لها الريادة كما كانت سابقا، خصوصا بظهور مبادرات ثقافية في منطقة الخليج العربي مؤخرا. طرح السؤال حول دور مصر الثقافي يثير الحساسية لدى البعض وهذا ما ظهر عند اجراء هذا الاستطلاع الذي شمل كتاب عرب ومصريين حيث رفض بعض الكتاب المصريين المشاركة، اما من الدول العربية فقد شارك المفكر العراقي د. سيار الجميل، ومن السعودية الروائي والاعلامي هاني نقشبندي، ومن الاردن الروائية والاعلامية ليلى الاطرش، والشاعر السوري شوقي مسلماني، ومن مصر الناقد د. صلاح فضل والروائي محمد العشري.
المفكر د. سيار الجميل-العراق:
ان مصرا كانت تفتح ابوابها امام كل المثقفين والادباء والعلماء العرب كونها مكان آمن
لا يزال دور مصر واسعا وكبيرا من الناحية الثقافية ، اذ لا يمكن لأي عاقل ان ينكر هذا الدور الذي اجده بالرغم من كل ما حاق به من ظروف صعبة وتحديات .. هو الاقوى عربيا .. وانه يمّثل الثقل الحقيقي لمركزية مصر ليس الثقافية حسب ، بل الجغرافية لعالمين اثنين على جناحيها تمثل بينهما حلقة وصل لا ينكرها احد. ان دور مصر الحالي ثقافيا لا يقتصر على مجال واحد ، فان كانت الصحافة المصرية مستمرة منذ بداياتها الاولى في القرن التاسع عشر ، فان سوق الكتاب العربي هو الاقوى في مصر .. كما تشهد مصر احتدامات ثقافية من حين الى آخر .. صحيح ان الفن المصري قد ضعف كثيرا مقارنة بما سبق وخصوصا الغناء والموسيقى ، فان الحركة التشكيلية والحركة الدرامية هي الاقوى ليس من ناحية النوع ، بل من ناحية الكم الذي لم يستطع العرب البقاء من دونها . ان الفلم المصري بالرغم من فترات ضعفه التي مر بها ، ولكن اجد ان مصر وحدها التي لم تزل تنتج الفلم عربيا، كما ان سوق المسلسل التلفزيوني هو الذي يفرض نفسه على الساحة، الادب ايضا ليس كما كان ، بل اجد ان جيلا مصريا جديدا له قدرات متفوقة، ان دور مصر الثقافي لم يزل محتفظ بريادته بالرغم من كل الظروف الصعبة المحيطة به وخصوصا الهجمات التي يتلاقاها من اوساط منغلقة داخلية ومن تجاهل خارجي .والتراجع كما ذكرت حاصل محصلة تاريخية، مقارنة بسنوات نهضة مصر الكبرى التي استمرت قرنا كاملا ، أي بين منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، لا يمكن ان نتخيل كم كان في مصر من عمالقة مثقفين وفنانين حقيقيين مقارنة بما هو الحال اليوم علما بأن ثمة تفوق سكاني كبير ارجع اسبابه الى قتل الحريات باسم الارادة واعتماد الكم على نوعية التكوين واعتماد الثقافة الشعبية على حساب النخب، والترييف المسيّس على حساب القيم المدنية التي خلقتها النهضة، وولادة تيارات الانغلاق وتكوين ثقافة ثقافة مضادة لما اسموه بـ ( جاهلية القرن العشرين ) والاخطاء التي ارتكبت في السياسات التربوية والتعليمية في المدارس والجامعات المصرية، وتخريج الالاف من المتعلمين للقراءة والكتابة من دون الاعتناء بالمثقفين، وكثرة الصحافيين والاعلاميين ومثقفي السلطة على حساب المثقفين الاحرار، وتقييد الحريات، كلها عوامل ساهمت في التراجع الثقافي بمصر، واعتقد ان مصر اليوم تعيد اكتشاف نفسها من جديد حتى ضمن التناقضات التي خلفتها العهود السياسية الثورية ! مصر كانت وستبقى كما قلت في موقع المركزية التي لا يمكنها ان تغلق ابوابها على جانبي المشرق والمغرب ، ولم يكن انفتاحها على العرب لاسباب قومية سياسية ابان المد القومي ، بل وجدناها منفتحة منذ القدم ، بل وكانت مفتوحة بذراعيها على ايام النهضة المصرية ولاكثر من مئة سنة، وتعلمنا حركات هجرة المثقفين التي قمت بدراستها واكملها من بعدي احد طلبتي في الدكتوراه ان اعدادا كبيرة من السوريين واللبنانيين والعراقيين قد استوطنوا مصر لاسباب ثقافية وفنية واندمجوا بسهولة في شرائح المجتمع المصري، واجد ايضا من خلال قراءاتي التاريخية ان مصرا كانت تفتح ابوابها امام كل المثقفين والادباء والعلماء العرب كونها مكان آمن ، فمنذ ايام العباسيين وامثال هؤلاء يهاجرون من بغداد ليستقروا في القاهرة ومنهم الامام الشافعي الذي انقذ نفسه من القتل ليستقر بالقاهرة ويكمل عطاؤه وصولا الى الشاعر عبد المحسن الكاظمي الذي استقر بالقاهرة هربا من مشاكل العراق ! لم يقتصر الامر على العرب من الحجاز وبلاد الشام والعراق واليمن، بل وجدنا كم كانت اعداد الجاليات الاوربية من مالطيين ويونانيين وطليان واتراك وقوقازيين والبان ارناؤؤط وغيرهم من الذين استقروا بمصر ، وساهموا في اثراء نهضتها الثقافية والسياحية والفنية . انني اشمئز جدا من البعض الذي يتنطع بتحجيم دور مصر والتهجم على الدور المصري من دون أي مبرر، في الثقافة السياسة العربية مجموعة واسعة اليوم من التناقضات وخصوصا بعد فشل المشروع القومي في تحقيق ليس اهدافه فقط ، بل ما اصابنا من خلاله من كوارث المشكلة عند الجميع اليوم هو الخلط بين قيم العروبة التي تجمعنا كلنا منذ القدم وبين مؤدلجات القومية العربية التي وصلتنا حديثا تأثرا باوربا واصبحت العروبة ـ ويا للاسف الشديد ـ مدفنا لكل الموبقات لدى الناس وخصوصا عندما احتكر القوميون العروبة سياسيا لهم وحدهم وباساليب فاشية دون الاعتراف ببقية الثقافات المشتركة . اجد من الصعب جدا على أي عربي ان يعبر عن استياء سياسي بالتهجم على مصر كلها ومن الجانب المقابل ، اجد ان البعض من اخواننا المصريين يزيدون من هجمتهم على الثقافة العربية ، وعلى المجتمعات العربية الاخرى لاسباب لا تقدم ولا تؤخر من حركة تاريخ اجتماعي مثقل بشراكاته وتعايشاته .. وسيبقى هكذا .
الناقد د. صلاح فضل (مصر): الثقافة لا تعني قوما بذاتهم
الذي قال ان الثقافة تعني قوما بذاتهم؟ عندما تنتسب الى افق ولغة وافق وفضاء يشارك فيه كل العرب. في تقديري ليس هناك ثقافة مصرية واخرى سودانية وثالثة شامية انما هناك ثقافة عربية بالطبع تأخذ مياسم متنوعة بتنوع الجذور التاريخية والتشكيل البشرية والعوامل الاقاتصادية والاجتماعية والبيئات المختلفة لكنها مادامت تكتب بالعربية وتستمد جذرها الاساسي من التراث القديم ومن محصلة الثقافات الشعبية المتعددة فهي ثقافة عامة فبالتالي تصبح اشكالياتها متوحدة ومتعددة في ثرائها. اما سؤالك ان يناقش عربيا ملمحا مصريا ثقافيا او مصريا ملمحا عربيا هذه حساسية يبدو انها نجمت في العقود الاخيرة نتيجة لبعض التوترات في المنطقة ونتيجة اساسية لجذوة الفكر الطائفية التي تزرعها القوى الخارجية التي لا تريد للعرب ان تتحد وفي مقدمتهم القوى الصهيونية التي تريد ان تقضي عليهم اشتاتا لانها لا تستطيع ان تواجههم مجتمعين وتجر ورائها القوى الامبريالية الامريكية. لكننا لا ينبغي ان نستسلم لهذا التمزيق باي حال ولا ان يأخذنا نعرة الطائفية ونحن نتحدث عن الثقافة لانها هي التي توحد العرب.وما تم تحميله لعصر النهضة العربية في القرن التاسع عشر لمصر والشام لم يتم على الاطلاق مراعاة الفوارق الجغرافية فيه فمصر كانت تهيأ الحضن الدافئ والفضاء الذي يستطيع ان يلتقط احرار المبدعين في الشام على وجه التحديد وتبسط عليهم جناحها ليبذروا في تربتها العناصر الاساسية التي اثمرت نهضة الاعلام في الصحافة العربية في مصر ونهضة المسرح في الثقافة ونهضة الشعر في مرحلة الاحياء التي لم يقم سامي البارودي وشوقي وحدهم بل شاركهم مطران وشاركهم جبران ومدرسة المهجر في مطلع القرن واستطاعت مصر بفضل هذا الاحتضان ان تصبح المهاد الذي تحمرت فيه بذور النهضة العربية بمعنى ان الشرط الذي توفر فيها هي ان تكون ملجآ ومفرا لكل الاحرار والمثقفين والمبدعين وبيئة لاقطة، في اللحظة التي تفقد فيها هذه الخاصية تفقد امتها تفقد شرقها في الانتاج الثقافي. وهذا تدعمه كل الدراسات التحليلية لمختلف جوانب النهضة خاصة الفكرية والثقافية او حتى العلمية فيها لا بد ان نراعي ان هذه المسالة جوهرية في انتاج الثقافة العربية فيها انها اذا انحصرت في اطارها الاقليمي اختنقت. تكامل الامكانات المادية والبشرية وتجانس الرؤى وتنوع المصادر هو الذي يمد دينامية التجديد باليتها الحقيقية. المجتمع الذي ينعزل يجتر لنفسه ويتلاشى اثره، والذي يتواصل وهذا هو القانون الحضاري في التلاقح ان نرى حاضرنا او ماضينا اذا اغفلناه.د.صلاح فضل و هاني نقشبندي
الروائي والاعلامي هاني نقشبندي (السعودية): مصر هي التي تعطي اليوم الفرصة لمن لم يحظ بها في وطنه.
بالنسبة لي شخصيا فأنا ارى أن دور مصر ريادي, كان وما يزال. أعلم ان هناك من سيقول بعكس ذلك ربما, لكني دعيني اسأل: من هو الافضل, ومن المنافس؟ في لبنان هناك حراك ثقافي كبير. لكنه يأخذ منحى تجاريا صرفا. كما انه اصبح يقوم على الاثارة اكثر منه الأدب. في السعودية والخليج ما يزال هناك الكثير من المحاذير في نشر هذا ومنع ذاك. في شمال افريقيا حيث دول المغرب العربي, للأسف نحن بعيدون أدبيا وثقافيا عن بعضنا, وبالكاد يسمع أحدنا بالآخر. بالعودة الى الحديث عن دور مصر اقول انه ليس هناك تراجع في الدور الثقافي المصري, فما تزال الموسيقى المصرية مسيطرة, وكذلك الفن رغم المنافسة السورية القوية. ايضا بالنسبة للأدب والشعر والمسرح, كل ذلك حراك ثقافي تنتصر فيه مصر مقارنة بكل الدول العربية. ولعل ما يخدم هذا البروز الثقافي المصري هو الاعلام المصري المنتشر. اما بالنسبة لسؤالك ان كانت مصر ما تزال فاتحة ذراعيها لكل الجنسيات والثقافات فأقول نعم. بل اقول اكثر من ذلك ان مصر هي التي تعطي اليوم الفرصة لمن لم يحظ بها في وطنه. أقول ذلك من تجربة شخصية. فما حظيت به أنا شخصيا من تكريم في مصر لم احظ به في السعودية وهي موطني وترابي. فيما يتعلق بمسألة ان كان من حق احد التهجم على مصر اقول ان من حق اي انسان ان ينتقد لا ان يهاجم, لا مصر ولا السعودية ولا لبنان. لماذا نريد من احد ان يهاجمنا؟ الانتقاد مهم, الهجوم يجرح. من اجل ذلك من حق الكاتب ان ينتقد. واريد ان أقول هنا ان البعض في مصر شديد الحساسية لمسألة النقد. وهذا لا ينبغي ان يكون. فعندما انتقد موقفا او حدثا معينا فما ذاك إلا طمعا في وضع افضل ونجاح اكبر. لا ينبغي افتراض سوء النية في من ينتقد. نحن في العالم العربي شديدو الحساسية لمن ينتقدنا من خارج ارضنا. سنراه خصما. سنراه عدوا. ونبادر باطلاق مدافعنا ورصاصنا تجاهه. وهذا خطأ كبير.
الروائية والاعلامية ليلى الاطرش (الاردن): إن أي مبدع عربي لا يحس أنه تكرس في مجاله إن لم تعترف به مصر
ما زال لمصر الدور المؤثر في الحركة الثقافية العربية، انتاجا ونقدا ورعاية وتكريسا، وهو استمرار لدورها الثقافي الريادي الذي اضطلعت به منذ نهاية القرن التاسع عشر، ولكن مساق العلاقة مع المحيط الثقافي العربي بدأ يتخذ شكلا آخر، فلم تعد الريادة هي المعيار فقط، ولم تعد العلاقة أبوية بطريركية فيها سطوة الأب الذي يرى في الآخرين أبناء شبوا عن الطوق، وقد يفاجئه أن تتجاوز أجيال رعاها قدراته وإنتاجه بعد أن بنت عليه وجددت فيه. ومصر هي الوالد الذي رعى أبناءه بحب وعطف وتوجيه، ولكن أصبح للأبناء تجاربهم ورؤاهم وانفتاحهم على العالم، وبدأت العلاقة تتسم بندية ومساواة رغم احترام تجارب الأب، المشكلة أن الآباء عادة مكتفون بماضيهم وخبراتهم وإنتاجهم، وقلما يقدرون قدرات أبنائهم. فيتمرد الأبناء على السلطة الأبوية أو يتنكرون لفضلها. واذا كان هناك تراجع في الثقافة المصرية الأسباب عديدة، أهمها المنافسة المشروعة بالخبرات والانفتاح والتعليم لدول كانت تعاني من الأمية حين كانت مصر رائدة،، ثم تراجع الدور السياسي لمصر في العالم العربي لأسباب مختلفة مما انعكس سلبا على دورها الثقافي. فقد ظلت مصر اللاعب الوحيد في الساحة الثقافية كلها، ولكنها ركنت إلى استمرار الدور الريادي رغم ظهور منافسين حقيقيين نتيجة التعليم وانفتاح العرب على العالم في عصر الاتصالات والفضاء والتعليم التقني. وانفتاح الثقافة العربية تماسا وتعليما على النظريات الأدبية الغربية والتقنيات والأساليب الحديثة في الآداب والفنون، وفي الإعلام والانتاج السينمائي والتلفزيوني، وحتى الصحافة المتخصصة في أمور النساء والفن رغم أن مصر هي المصدر الأول والأكبر للأحداث والصناعة الفنية، ومثلها ظهور دول الوفرة الاقتصادية التي تحاول سحب البساط الثقافي من تحت قدمي مصر بمؤتمرات ومهرجانات باذخة وجوائز مجزية وفضائيات وخبرات عربية متعددة. ثم السبب الرئيس الآخر هو مشاكل مصر الداخلية الفقر والانفجار السكاني، والردة الدينية التي تحارب التنوير والفنون والآداب. إلى حد كبير، فما زالت مصر تفتح ذراعيها للتجارب العربية، ولكن تعدد المنافسون لها في دور الرعاية هذا بما يملكون، وتعددت وسائط الظهور والانتشار ولم تعد قصرا على مصر في عصر الفضاء والانترنت. ثم إن أي مبدع عربي لا يحس أنه تكرس في مجاله إن لم تعترف به مصر، وما زال حلمه هو الشهرة في مصر، لدورها وحجم سوقها. كما أن مصر مهمومة بمشاكلها، وربما تحس أحيانا أنها مكتفية بأبنائها، ولكن الدور القيادي يتطلب التضحية. من المؤسف أن يتطاول أحد على دور مصر الثقافي الرائد وحضارتها العريقة، ومساهمتها في نشر الثقافة العربية والانفتاح على ثقافة وفنون العالم، السينما والمسرح والصحافة والأدب، وترجمة المعارف الإنسانية الشرقية والغربية وتقديمها لمثقفي العرب، وما زالت متسيدة في مجالات الفنون السينمائية والمسرحية والتلفزيونية رغم التجارب اللافتة في دول عربية، كما أسهمت مصر في إنشاء ثقافة في دول عربية عديدة بخبراتها ومثقفيها، ولكن على مصر أيضا الانتباه للمنافسة الحقيقية رغم أنها أكبر دولة في عدد السكان وأعرقها حضارة، إلا أن عصر الفضاء والاتصال لا يعتمد على هذين العنصرين، بل على مواكبة التطور العالمي.
الشاعر شوقي مسلماني(لبنان): مصر quot;ولاّدةquot; سابقاً، اليوم .. وغداً
لا يجحد دور مصر الثقافي إلاّ جاحد مهما تذرّع بأسباب هي في المحصلة تعبير عن قصور. كيف مصر لا تفتح ذراعيها فيما قصور الثقافة فيها تطبع وتنشر لعرب؟. مصر سابقاً، ولا تزال، هي في قلب العطاء على الصعد كافّة: الرواية، القصّة، الشعر، النقد، السينما، المسرح، الموسيقى .. إلخ، وبنكهة. مصر احتضنت الأقلام منذ بدايات القرن الفائت، أرسلتْ المئات للتعليم بالقلم، إذا لم نقل الآلاف، إلى العديد من الأقطار العربيّة. لا يليق بمن تعلّم على مصر أن يتطاول بالباطل عليها. البعض يردّ على استنفار مصريين دفاعاً عن أدبهم وثقافتهم مدّعياً أنّه التعصّب والنرجسيّة، وهذا كلام لا يُعتدّ به فضلاً عن إمكان توجيه الإتّهام ذاته للبادئ المتعصّب الحقيقي والنرجسيّ بعد فاقة، ربّما يضيق صدر مصر ببعض مثقّفيها، وعلى رغم خطأ ذلك فأي قطر عربي لم يضق صدره ببعض مثقّفيه؟ وإذا مراوحات في مصر أحياناً فأي قطر عربي يخلو من هذه المراوحات؟ متى كان جزءٌ هو عين الصورة. دور الأدباء العرب تجاه مصر الثقافة هو التواضع. مصر quot;ولاّدةquot; سابقاً، اليوم .. وغداً.
الروائي محمد العشري (مصر): المشكلة تكمن في حالة الشقاق المسيطرة على الجميع
بالتأكيد، هناك تراجع على عدة مستويات، وترجع الأسباب الأولى إلى تخلي مصر عن ذلك الدور بإرادتها، نتيجة حالة العشوائية المتفشية في كل شيء، وهو ما ينعكس على المنظومة الثقافية، التي نعيش في داخلها، ويمكن للمتابع أن يرصد الكثير من الحالات التي تظهر ذلك، آخرها ما حدث في مؤتمر الشعر، الذي نظمه المجلس الأعلى للثقافة، واستبعاد شعرية القصيدة النثرية بكل شعرائها، بحجة أنها قصيدة غير معترف بها، من جانب من بدأوا في كتابة قصيدة التفعلية، من قبل، وثاروا على تقاليد القصيدة العمودية. الأمر الذي دعا شعراء قصيدة النثر لإقامة مؤتمر موازٍ، للدفاع المشروع عن توجههم الشعري، الذي حقق شرعية ومصداقية على مستوى الشعرية العربية قبل زمن، ولا زال يكتسب جماهيرية يوماً بعد يوم، ويتماشى أكثر مع روح العصر. هذا سبب يعكس حال الشتات والإنقسام الداخلي، يُعلي من دور الفرد، ويقلل من قيمة الشعرية، ومعناه، وبالتأكيد ليس في صالح القصيدة أن تجد من يضربها على رأسها، في ظل ما نعيشه من متغيرات عصرية، أولى بالإنتباه لها. أيضاً، إتجاه الكثير من دور النشر quot;الخاصةquot; في تصدير إتجاه كتابي معين، والترويج له بإعتباره النموذج الأمثل للكتابة خاصة في مجال الرواية، على حساب الاتجاهات الأخرى، وهي كلها حالات تمثل دكتاتورية في التعامل مع الثقافة، لم نشهد له مثيلاً من قبل، بعد أن تخلت دور النشر quot;الحكوميةquot; عن دورها في تقديم كل أنواع الكتابة، وترك القارىء لينتقي ما يريد، إضافة إلى رداءة الطباعة، التي تصنع حاجزاً منفراً، وتقلل من قابلية القارىء تجاه ما تطبعه تلك المؤسسات. هذا في ظل ظهور الحقبة النفطية، التي فتحت المجال لدول خليجية كثيرة، لسحب البساط من تحت قدمي مصر وغيرها من البلاد، بشراء كل ما يمكن أن يُشتري، وزرعه في صحرائها، وأرضها، وهو ما وسع الهوية، وقلل من قيمة الإنتماء، والإخلاص لمحبة الوطن. سأخبرك بأمر، قبل عام ونصف أسرّ لي صديق (كاتب ومترجم) أن جائزة quot;البوكر للرواية العربيةquot;، كان من المفترض أن تنطلق من مصر، وبالفعل، بدأت خطوات أولى للتنفيذ، لكنها لم تجد من يرعاها ويتحمس لها، ووجدت ذلك في الإمارات، التي تبنت وتحمست للفكرة، وأبرزتها بشكل كبير في الواجهة الثقافية لها، وكان خيراً، حيث نالها مصريان على التوالي، الأمر الذي لم يكن ليتحقق لو كانت على أرض مصر. صحيح أن مصر لا تزال فاتحة ذراعيها لكل الجنسيات والثقافات، كما كانت سابقاً، حيث ولا زال الإنطلاق من أرض مصر يمثل مركزية لها قيمتها ووزنها، لكن المشكلة تكمن في حالة الشقاق المسيطرة على الجميع، والتصارع على أمور وجوائز لا تضيف شيئاً للجوهر، بقدر ما تنتقص منه، إذا ما تأملنا المشهد جيداً، لأن الكثيرين أصبح يعنيهم أمر تلك الجوائز أكثر من الكتابة نفسها، وكأن المسألة فيها نوع من القصدية للتكريس لنوع خفيف، متسرع، من الكتابة العشوائية، وكأنها منظومة يجب أن تدمغ الجميع بختمها. لست متشائماً بقدر ما أحاول أن أتأمل المشهد بهدوء، لأنه ليس من حق أحد التهجم على دور مصر، ونسيان ما كانت تمثله لكل العرب، خصوصاً في مجال الثقافة، لكن يجب أن نعيد النظر في ذلك الدور من جديد، من خلال منظومة ثقافية حقيقية جديدة، بهيكل جديد، تنأي عن المصالح الشخصية، وتعيد للكلمة وزنها، وللثقافة سلوكها الحقيقي.
التعليقات