حاوره عبدالعزيز جدير: تعتبر الترجمة بوابة إغناء الثقافات وتلاقحها وتقاسم الرأسمال الرمزي بين شعوب العالم. هي ضرورة يومية لا يسلم منها أي قطاع من السينما إلى الإعلام فالمخابرات والمنظمات الدولية. المترجمون أقل الناس استعدادا للحديث عن عملهم أو الكتابة في مجال تخصصهم. وسنعمد في حلقات على تشجيع بعضهم على تقديم تجاربهم. نبدأ هذه السلسلة مع الأستاذ محمد جدير أستاذ اللسانيات بشعبة اللغة الفرنسية والترجمة بكلية الآداب بمدينة المحمدية بالمغرب.

-المترجمون حملة النور... وقد تعددت تعاريف الترجمة تبعا لتعدد المشارب...
لمفهوم الترجمة كنشاط إنساني تعاريف متعددة، فهي قد تعني عملية ما بين لغوية هدفها نقل رسالة من لغة انطلاق أو لغة مصدر إلى لغة وصول أو لغة هدف. وقد تعني عملية تواصل بين متخاطبين أو بين مرسل ومتلق. وقد تعني نصا هدفا بإمكانه أن يغنينا عن النص الأصلي. وقد تعني ارتقاء وتطعيما وتكميلا للنص المصدر وضامنا لبقائه واستمراريته وأيضا تثاقفا ومثاقفة تجعل ترجمة بعض الأعمال الكونية (مثل ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة) تؤسس السرد وتؤثر في الجنس الأدبي وتضمن سفره في شرايين الأدب العالمي. الترجمة قد تكون إغناء وإثراء للغتي الاشتغال (المصدر والهدف) وقد تعني، بلغة الجاحظ، 'ادخالا للضيم عليهما'. وقد تعني، في الوقت ذاته، الممارسة الترجمية أي النشاط الدينامي للمترجم وناتج هذا النشاط أي النص الهدف.. إلى غير ذلك من التعاريف. وقد اهتم بالترجمة أو بعلم الترجمة (traductologie) على الأصح لسانيون من أمثال جورج مونان وكاتفورد وشتاينر ونايدا وطابير وديك... وفلاسفة منهم كانط وفوكو ودريدا ولادميرال... واعتقد أن ما شغل ويشغل بال اللسانيين والفلاسفة والمهتمين بالحقل الترجمي لا يقتصر على وضع تعريف للترجمة بل يتجاوز ذلك إلى محاولة مَفْهَمَتِها. ومن ثم جاءت الاقتراحات النظرية لجورج مونان في quot;الجميلات الخائناتquot; وفي quot;المسائل النظرية للترجمةquot; ولـميشونيك في quot;شعرية الترجمةquot; ونايدا وشارل طابير في أعمالهما النظرية والتطبيقية حول النص التوراتي ولادميرال الذي أقر بصعوبة وضع نظرية علمية متكاملة حول الترجمة فاكتفى باقتراح quot;وحدات نظريةquot; (theacute;oregrave;mes) يسهم تطبيقها في تيسير عملية الترجمة، وديك وفاندر كوست عن مدرسة أمستردام الوظيفية اللذان حاولا منهجة الترجمة ضمن جهاز مفهومي لساني متكامل مُؤَسَّسٍ تداوليا تُجَسِّرُ فيه العلاقة بين البنيات التحتية للغة المصدر واللغة الهدف العملية المابين لغوية للترجمة.

-لترجمة ضرورة معرفية وحضارية. هل يمكن أن نتصور الوضع المعرفي للعالم العربي لو كانت الترجمة شأنا رسميا بالدرجة ذاتها التي تشتغل بها وزارات الداخلية العربية وتنسق فيما بينها وتمون عملها؟
- صحيح لو شكلت الترجمة إحدى أولويات الحكومات العربية لكان الوضع غير الوضع ولتبوأ مترجمونا الريادة وأحيوا مجدا دارسا يذكر بزمن بيت الحكمة. ولقد أدرك الغرب أهمية الدور الذي تضطلع به الترجمة والمترجمون للتقريب بين اللغات والأمم وهو دور شبيه بالذي لعبه هرقل للتقريب بين قارتين (بلانشو). بعبارة أخرى، فبعدما أرادوا أن يبنوا صرحا أو برجا (بابليا) ليبلغوا الأسباب تشتت شملهم فسُخِّر المترجمون (حملة النور كما ذكرت) وغيرهم لجمع الشمل المشتت بإقامة التعارف بين شعوب وقبائل اختلفت ألسنتها وألوانها. من هذا المنطلق تولدت لدى الحكومات الغربية 'إرادة سياسية' فرصدت مكافآت للمترجمين وشجعت على نقل واستقبال العلوم والمعارف والانفتاح على الآخر بل وغزوه. فالعارف بأسرار الآخر يوازي كتيبة بكاملها كما يقول نابليون. اسبانيا البلد الجار للمغرب والذي لحق 'متأخرا' بركب الإتحاد الأوربي يتجاوز كم مترجماته مجموع ما يترجم في كل أقطار العالم العربي. والحكومة الفرنسية ممثلة في وزارة الثقافة وغيرها تزود سنويا دور النشر بالمغرب بقوائم لمؤلفات قصد ترجمتها إلى العربية كما لا تتوانى في دعم كل الأعمال التي تتماشى وتوجهها والتي يرغب مترجمون في تحويلها إلى لغة موليير. في عالمنا العربي، تظل المبادرات (المجلس الوطني للثقافة بالكويت، المنظمة العربية للترجمة ببيروت، المركز القومي للترجمة بالقاهرة...) غير كافية لإشباع الفضول المعرفي لشعب 'عشرين أمة ونيف'.

- يلاحظ أن معظم المترجمين العرب لم يكتبوا في نظرية الترجمة، على الأقل يكتبوا خلاصات تجاربهم فهي قادرة على أن تنير بعض عتمات الطريق للقادمين...
- أرى في الأمر تكاملا أي أن عملية التنظير تنجم عن الممارسة الترجمية. فلو توفر للمترجمين تراكم هائل كما وكيفا لتيسر عليهم أمر الخوض في مغامرة التنظير. المنظرون في الغرب كانت نظرياتهم أو تنظيراتهم تمرة مجهود مِراسي طويل واطلاع واسع. فالطروحات النظرية لنايدا وطابير وكاتفورد ومونان وميشونيك وغيرهم ما كانت لتكون لولا مِراسهم الترجمي الطويل وتأملهم لتجاربهم وإعمالهم الفِكر فيها... للإشارة فإن إسهام نايدا وطابير، من جهة، وإسهام ديك وفاندر كوست، من جهة ثانية، يتميزان عن غيرهما في مجال التنظير لكونهما يَتِمَّان في إطار نظريتين لسانيتين: النظرية التوليدية التحويلية التي تولي الأهمية للتركيب فالدلالة ونظرية النحو الوظيفي التي تبئِّرُ مستوى التداول مقارنة بالدلالة والتركيب.

-أعرف أنك وقفت على تنظيرات اللساني سيمون ديك، ونايدا ولادميرال.. ضمن تدريسك لمادة الترجمة بالجامعة المغربية. هل تفيد المترجم معرفة نظريات الترجمة، وإلى أي درجة تفيده، أم أن الأمر في نهاية المطاف هو حسن التخلص من مضمون النص المصدر بنقله إلى اللغة الهدف؟..
- وهو سؤال مكمل لسابقه. فلامناص بدءا من التمييز بين أمرين: التنظير والتقعيد للترجمة؛ التنظير يهدف إلى رصد الميكانيزمات التحتية الثاوية خلف العملية الترجمية، أي رصد القدرة التواصلية/الترجمية-الأم للمترجم. فيما يخص التقعيد أو قواعد الترجمة أو بعبارة أوضح 'تقنيات الترجمة' فهناك ما يشبه الإجماع على عدم جدواها إذ لا يمكن سن جملة من القواعد (وَصْفَة) يلم بها الراغب في مزاولة الترجمة إلماما كما يلم الراغب في ضبط لغة بقواعدها النحوية (التركيبية والصرفية والصوتية). فيناي وداربلنت (1968) اللذين وضعا بعض 'تقنيات' الترجمة في إطار ديداكتيكي أسلوبي أقرا بعدم وجودها. صحيح أننا نُعرِّف الطلبة بها ونحرص على التمرن عليها في حصص تطبيقية وذلك ما يجري في المدارس العليا (بفرنسا وببلجيكا كفرانسيسكو فرير وماري هابس والمدرسة العليا للمترجمين والمترجمين الفوريين) التي تربطها بكلية الآداب بالمحمدية علاقات شراكة تخول للهيأة المدرسة بماستر الترجمة الثلاثية المتخصصة المعتمد بالكلية الإفادة من الزيارات في إطار تبادل للخبرات والمعارف وتنظيم الندوات... قلت نُطلع الطلبة على هذه 'التقنيات' لكننا نمرر إليهم وإلينا خطابا مؤداه أن الترجمة تأويل ومِراس.

- لعل هذا يطرح قضية الربط بين النظرية والتطبيق... وقد اقترفتَ بعض الترجمات ما الباعث عليها وما صورها؟
- بالفعل، من الأورد أن تكون النظرية في الترجمة ناتجة عن مراس طويل من لدن المنظر ذاته. ذلك سر نجاح منظرين من أمثال نايدا. وفي هذا الباب، يتحدث لادميرال عما يسميه بالإرهاب النظرياني (terrorisme theacute;oriciste)، وينعت به الباحثين الذين لا تستند طروحاتهم النظرية إلى تطبيق. ويمثل لذلك بجورج مونان. وأعتقد أن المثال لم يحسن اختياره فللرجل باع طويل في الممارسة الترجمية. وبخلاف جورج مونان، فتجربتي، وإذا صح القول، فتجربتنا متواضعة لكنها تعد بالمزيد. بدَأَت بترجمة رواية واحد ممن تسميهم في كتاباتك quot;برواة طنجةquot; محمد المرابط The big mirror (المرآة الكبيرة)، وهي نص شفاهي نقله بول بولز من الدارجة المغربية إلى اللغة الانجليزية. صدر سنة 2003 عن دار الجمل بألمانيا. وقد قوبل نص الرواية بترحاب وحماس كبيرين من لدن القراء العرب، فهذه جريدة القدس في عددها (4388، الأحد 30 يونيو 2003) تصنف الرواية ضمن quot;الكتب الأكثر مبيعاquot; بمكتبة ابن سينا بباريس، وظلت تنشر الخبر ستة أشهر كاملة...

- يطرح كل نص صعوبات معينة حين ترجمته، ما الذي لفت انتباهك حين ترجمة نص محمد المرابط؟
- تتميز ترجمة هذا الكتاب بكونها أشبه ما تكون بعودة النص إلى quot;لغته الأمquot;، حيث حضور ما يسميه بولز quot;بصوتquot; الكاتب/السارد الشعبي أي بأناه وبنَفَسه الحكواتي وطغيان البعد السوريالي وامتزاج الواقعي بالخيالي الجامح... وهو ما ينعكس على مستوى السرد في قصر الجمل وتعدد النعوت التي تؤشر على الموقف الذاتي والتكرار المقصود الذي يميز الحكي الشعبي. نقل هذا الزخم الذي يذكر في معناه ومبناه بملاحم الواقعية السحرية يتطلب من المترجم خلق لُغَيَّة ذات منزلة بين المنزلتين: لا هي بالدارج المغربي القح ولا هي بالفصيح الموغل في الفصاحة.
ثم كانت ترجمة نص لبولز نفسه من دون أن يكون هو مترجمه من الدارجة المغربية إلى الانجليزية لتعاد ترجمته إلى العربية. نص بولز، هذا، من تأليفه بما يعنيه ذلك من خصائص كتابة بولز وليس غيره.
النموذج الثاني، بالفعل، لممارستنا الترجمية (مجموعة quot;رباعية الكيفquot; (The Quartet of Kif) لبولز، الفنك، المغرب، 2009) يؤالف ويخالف النموذج الأول. فالمتتبع لأدب بولز يلاحظ حرصه على اختيار شخوصه الرئيسية من محيط شعبي واعتماده في كثير من قصصه وجهة نظر سارد/شخصية طبيعية بسيطة، غير متورطة في الحضارة الحديثة. وهو اختيار واع بطبيعة الحال لأنه ينسجم مع اتجاهه الواقعي ومع خصائص الكتابة لديه. وقد حرصنا خلال ترجمتنا لنصوص بولز على أن لا نضحي بمجموع الخصائص التي انتبهنا إليها ونذكر منها خاصيتين اثنتين (وقد عرضنا لهذا الموضوع بشيء من التفصيل في مقال لنا بمجلة نزوى العدد (16) 1998):
أولهما مستوى اللغة: يسعى بولز في قصصه المغربية إلى عدم تجاوز المستوى المعرفي لشخوصه. فالحكي يتم على لسان هذه الشخوص ومن ثمة يحرص بولز على تحقيق نوع من التطابق بين لغته ككاتب ولغة شخصيته كشخصية quot;طبيعيةquot;. وعند نقلنا لنصوص بولز إلى لغتها الأصل، عمدنا إلى خلق لغة بسيطة لكنها تحافظ على خصائص اللغة العربية التركيبية والدلالية والتداولية؛
وثانيهما موضوعية الكاتب/السارد: أذكر أن بولز قال يوما أن لا فائدة من تقديم رأيه ما دام هو ككاتب غير موجود في النص. 'لست طرفا في القصة... إذا فرأيي لا قيمة له.' وكذلك، بالنسبة إليه، الموضوعية هي الطريقة الوحيدة لكتابة القصة القصيرة وهي الحكمة من وراء كتابتها. ويحرص بولز على أن لا يتدخل في نصوصه ويمكن أن نستشف هذه الموضوعية من خلال مجموعة من العناصر اللغوية: أولها أن المعطيات توحي بأن الكاتب السارد يغالي في استعمال الضمائر وقد يحتفظ بها حتى في حال تغيير quot;مركز الحديثquot; (Universe of Discourse) ولو كانت هذه العملية على بعد مسافة إحالية طويلة شرط ألا يؤدي ذلك إلى لَبْسٍ مرجعي كما يتبين أساسا من خلال قصة quot;بوجماعةquot; (He of The Assembley). وثانيها أنه وعيا من الكاتب بأهمية الضمائر وتوزيعها داخل النصوص مقارنة بأسماء الأعلام، فإنه لا يلجأ إلى هذا الضرب من العبارات المـُحيلة (Identifying reference) إلا في حالات خاصة أهمها حماية شفافية النص وضمان تناسقه. عندما يضطر إلى استعمال الأسماء (والنعوت) لرفع لبس ما ناتج عن طول المسافة الإحالية أو عن تعدد الضمائر واشتباكها، فإن هذه الأسماء (والنعوت) تكون محايدة قدر المستطاع وخالية من أي تأويل قد يحيل على موقف المؤلف من الشخوص أو الأحداث. فهو يفضل quot;الرجلquot; أو quot;الفتىquot; على quot;القاتلquot; أو quot;المجرمquot; أو quot;السارقquot; أو quot;الضحيةquot;، وquot;الأشياءquot; على quot;المسروقاتquot;... وثالثها أن أفعال الإنجاز تتلخص لدى بولز في فعل quot;قالquot; (to say) وهذا يضمن له درجة عليا من الموضوعية، ذلك أنه يندر إن لم نقل لا يوجد فعل من قبيل quot;يزعمquot;، quot;يدعيquot;... والذي يدل على موقف السارد من المحتوى القضوي. ورابع هذه العناصر أنه بدلا من استعمال محمول فعلي للتعبير بدقة عن واقعة معينة (State of Affairs) قد يلجأ الكاتب إلى شرح مدلوله (to paraphrase) وذلك حرصا منه على الموضوعية، مثال ذلك، استعماله التعبير quot;كانت المرأة أيضا خبيرة في نقل بعض الأشياء خارج منازل النصارى دون أن يكون لهم علم بذلكquot; بدل quot;تسرقquot; والتعبير quot;فبعد أن رحَّلته زوجته خارج المنزلquot; بدل quot;طردتهquot;...
ولعل استلهام بولز للواقع الذي يُتَرْجَم، سرديا ولغويا، وغوصه فيه إنما يستجيب لأحد الشروط التي يعتقد منظرو الترجمة وجوب توفرها في كل ممارس؛ الشرط الذي يصطلح عليه هنري ميشونيك (1973) في شعرية الترجمة بـquot;اللغة-الثقافةquot; (langue-culture) أو بلغة جان-روني لادميرال (1994) quot;اللغة الموسعةquot; (la peacute;rilangue)، وقد يكون في استجابته اللاواعية لهذا الشرط ما يفسر توفقه فنيا في تجسيد مفهومه للواقعية والموضوعية والحياد. ولعل الإلمام بشرط quot;اللغة-الثقافةquot; قد يكفل لكل راغب في ترجمة بولز وعالمه الرحيب درجة عليا في الفلاح في مسعاه.

- ترجمة السرد تختلف، بالطبع، عن ترجمة كتاب نظري حول الترجمة ويتميز بتداخل التخصصات حيث يجمع كتاب جان-روني لادميرال، quot;مقدمات في الترجمةquot; ما بين الفلسفة وعلم الترجمة والديداكتيك لأن الرجل فيلسوف ومترجم ومنظر للترجمة ومربي. لا شك أن خلاصات أخرى أزهرت على أديم حقل التجربة.
- قد نقر منذ البدء أن هذه التجربة تختلف عن سابقتها بحكم تغييرنا لنمط النص، أي انتقالنا من ترجمة الإبداع إلى ترجمة الدراسة؛ وقد لا نغالي إذا أقررنا بأن كتاب جان-روني لادميرال Traduire, theacute;oregrave;mes pour la traduction كتاب ذو قيمة علمية كبرى، كما أنه كتاب صعب المنال بالنسبة إلى قارئه (الذي لم يهيأ معرفيا لخوض غماره) وبالنسبة إلى مترجمه.
ويمثل كتاب لادميرال، الذي ستصدر ترجمته العربية عن المنظمة العربية للترجمة قريبا، أحد المؤلفات النادرة المنجزة بالفرنسية ويتناول إشكالا صعبا، إشكال التنظير في ميدان الترجمة إلى جانب أعمال ج. مونان المشار إلى بعضها أعلاه. للإشارة فالتجارب المعروفة في باب التنظير اضطلع بها باحثون انجلوساكسونيون من قبيل أ. نايدا وش. طابير وكاتفورد...إلخ.
ويضم الكتاب فصولا أربعة تباينت أحجامها ومراميها. تنطلق من التعريف 'البسيط' للترجمة (ما هي الترجمة؟ فصل 1)، إلى علاقة البيداغوجيا بالترجمة (الترجمة والمؤسسة البيداغوجية، فصل 2)، إلى الخوض في مسألة تهم ممارسي ومنظري الترجمة، أي إمكانية أو استحالة الترجمة، إنها مسألة quot;الإعتراض الإستباقيquot; (فصل 3): هل يمكن ترجمة الأدب؟ هل يمكن ترجمة الشعر أم أنه جنس تتعذر ترجمتهُ؟...
وقد أفرد الفصل الرابع والأخير الذي يمتد على صفحات عدة (150 صفحة) لإشكال ترجمة ظاهرة التضمين (Connotation). وقد عرض لادميرال لمجموع المنظرين الذين عالجوا الظاهرة (مونان، بلومفيلد، مارتينيه، لاينز...) لكي يخلص إلى استنتاج مؤداه أن فشلهم في إيجاد حل كاف للمشكل يكمن في الطابع النظرياني الذي يميز أبحاثهم. بعبارة أخرى، فإن الباحثين الذين ركبوا مغامرة التنظير كانوا أشبه ما يكونون بحمامة كانط أي أنهم ينظرون quot;في الخواءquot;، أي أنهم لم يكونوا من زمرة الممارسين للترجمة في مجملهم بخلاف لادميرال الذي استنبط تنظيره من عشرات الكتب الفلسفية التي ترجمها عن الألمانية (أدورنو، هابرماس، فروم... وأقطاب مدرسة فرانكفورت عموما).
اقترح المؤلف جملة من 'الوحدات النظرية من أجل الترجمة' (Theacute;oregrave;mes pour la traduction)، أي مفاهيم- مفاتيح، أو عناصر نظرية quot;مُتشظية/فُتاتيةquot; (en miettes) أو هي في طور التشكل ترمي إلى رفع التحدي المتجدد للمشاكل المادية المتعددة التي لا تفتأ تطرحها ممارسة الترجمة. ويسفر مسعى لادميرال عن اقتراح وحدات نظرية 'سيميائية دلالية' وظفها لمفهمة تصور التضمين للدفاع عن خصوصيته اللسانية وعن إمكانية ترجمته (بخلاف ما ذهب إليه غيره من كونه مفهوما 'نفسيا' (مونان) أو قيمة إضافية 'فردية' 'أسلوبية' (بلومفيلد...) ومن ثم تتعذر ترجمته.
وقد صاغ المؤلف جهازا مفهوميا تتعدد الروافد التي يقترض منها وقد نجملها بالأساس في ثلاثة حقول معرفية: الفلسفة بمعناها الواسع الذي يشمل علم النفس والعلوم الإجتماعية... واللسانيات وعلم الترجمة (la traductologie). ومن المفاهيم التي يستند إليها مفاهيم من قبيل:
(interpreacute;tation minimale, langue-culture, (primat de lrsquo;impeacute;ratif de) lisibiliteacute;, meacute;diation hermeacute;neutique de la subjectiviteacute; traduisante, mise en locution (syntagmatisation), quasi-perfection, (sur-)terminologiser, trascodagehellip;)
والظاهر أن لادميرال يلجأ في الغالب الأعم إلى توليد مصطلحات (neacute;ologisme) تجد مصدرها الأثالي في الإغريقية باعتبار الكاتب فيلسوفا (مفردات من قبيل quoditeacute;)، ومصطلحات يتغيى من خلالها شحن المفردات المتوافرة في اللغة بمعاني إضافية (كمفردة intra-duction التي تعني introduction وintraduisible في الوقت ذاته و peacute;rilangue وpeacute;ri-paraphrase)... وهذا ما يفسر اضطرار كل مترجم لعمل لادميرال إلى quot;تفجيرquot;، بتعبير المؤلف، اللغة المترجم إليها (اللغة العربية في حالنا)، وهو تفجير مارسه لادميرال بدوره حينما تعرضت اللغة الفرنسية quot;لعنفquot; اللغة الألمانية كلغة أولى (substrat).
للإشارة فإن ترجمة هذه المصطلحات والمصطلحات المولدة تطلب الاستعانة بما تيسر من قواميس أحادية أو ثنائية اللغة ومناقشة بعض اللسانيين الذين خبروا اللغة واشتغلوا على صرفها وتركيبها وكان لهم احتكاك بالمصطلح.

-قد تشكل مسألة quot;وحدات الترجمةquot; الحجر الأساس في التنظير للممارسة الترجمية؟
-عرض المؤلف لإشكالية قديمة متجددة تهم كل ممارس للترجمة وهي إشكالية quot;وحدات الترجمةquot;، إشكالية طرحها وناقشها وفحصها، quot;دون جدوىquot;، عدد من الباحثين وعلى رأسهم مالبلان (1966) وجون-بول فيناي وداربلنت (1968) في دراستهما حول الأسلوبية المقارنة في الفرنسية والإنجليزية. والسؤال الرئيس هو: ما هي حدود وحدات الترجمة؟ أنترجم وحدات ترجمية دلالية؟ أم وحدات ترجمية معجمية أم وحدات فكرية؟ بعبارة أخرى، أنترجم مفردات أم جملا أم فقرات أم نصوصا (أي 'رسالات' بتعبير جاكوبسون (1963))؟ ويعتقد الكاتب أن الحل ينبغي البحث عنه بمساءلة الممارسة الترجمية للمترجم الذي يُقَطّع السلسلة الكلامية/الكتابية أثناء اشتغاله المابين لغوي تبعا للمواقف، وهو ما يصطلح عليه لادميرال بـquot;الإختيار الترجميquot;.
ويختم الكتاب بملحقين اثنين على درجة قصوى من الأهمية لما يمكن الإفادة منهما. فالمؤلف يعرض تجربته الترجمية لاثنين من أقطاب الفلسفة الألمانية هابرماس وأدورنو. وقد ساق أمثلة بعضها مأخوذ من تجربته الخاصة كمترجم (المفردتين الألمانيتين naturwuuml;chsig و kommunikativ) وبعضها الآخر اقترضه من اثنين من كبار ممارسي الترجمة التوراتية (المثال المقتبس من الطايلاندية-البودية الهدف). ويهدف المؤلف من خلال أمثلته إلى فحص quot;وحداته النظريةquot; وتمحيص مدى كفايتها الإجرائية وبالخصوص مصطلحاتconnotateur (متضمن)، increacute;mentialisation (ترجمة بالزيادة)، entropie (تبدد)، dissimilation (مغايرة)...

-اشتغلت ضمن حلقة أمستردام الخاصة بالنحو الوظيفي، وقد قمت بترجمة نصوص من كتب رائد هذه المدرسة (في النحو الوظيفي): سيمون ديك إلى اللغتين العربية والفرنسية. ما الصعوبات التي طرحتها هذه الترجمة عامة، وبالخصوص على مستوى المصطلح المنتمي إلى اللسانيات الوظيفية. ثم هل الترجمة من الإنجليزية إلى الفرنسية، بالفعل، أسهل لتقارب اللغات الغربية من حيث الأصل، واشتغال اللسانيين الغربيين ضمن مجموعات، حلقات.. ثم إن بنية معظم اللغات الغربية واحدة: إسمية..
- صحيح أن كل باحث يعد مترجما سواء مارس الترجمة فعليا أم لم يمارسها. فكل باحث يستعين بمراجع أجنبية يقتبس منها قطعا للاستشهاد بها أو لتضمينها نصه. وقد يوظف نصوصا ترجمها غيره فيعيد ترجمتها وفقا للسياق... وبحكم انتمائي إلى شعبة اللغة الفرنسية (تخصص لسانيات) وتدريسي للترجمة (بماستر الترجمة الثلاثية المتخصصة) وبما أن جميع أدبيات اللسانيات الوظيفية التي نشتغل ضمنها مكتوبة بالانجليزية، فإننا نمارس الترجمة باستمرار. وقد تَوَضَّح ذلك في مؤلفينا بالفرنسية حول quot;تناسق الخطابquot; (2005) وحول quot;الوسائط في تحليل الخطابquot; (2006) (أو في الكتابين اللذين أشرفنا عليهما quot;تطورات جديدة في نظرية النحو الوظيفيquot; (2003) وquot;الوظيفية ووصف اللغاتquot; (قيد الطبع)، أسهم فيهما باحثون من دول مختلفة فرنسا، انجلترا، هولندا... إلخ.) أو باللغة العربية quot;مقاربة وظيفية في رواية ضحايا الفجر البوليسيةquot; (2007)... هذا وقد مكننا اشتغالنا الطويل نسبيا في ميدان اللسانيات الوظيفية على جمع كم هائل من المصطلحات يغري بالتفكير في إصدار معجم وظيفي ثلاثي اللغة (انجليزي-فرنسي-عربي) إذا سمحت الظروف بذلك.

- سبق لك أن ترجمت بعض قصص الروائي طالب الرفاعي (quot;شمسquot; وquot;وجوه المساءquot;...). وقد اقتُرِحتَ لترجمة روايته الأخيرة إلى اللغة الفرنسية. هذه الترجمة المعاكسة، من العربية نحو الفرنسية، ما هي ملامح صعوبتها؟
- يوصي منظرو وممارسو الترجمة بنقل الأعمال من لغة أجنبية إلى اللغة الأم. وقد يحدث أن تكون الغلبة في الاتجاه المعاكس، أي بممارسة ما سميته بالترجمة المعاكسة. في حال الروائي طالب الرفاعي نعمل على نقل بعض إبداعه إلى اللغة الفرنسية. ينصب الاهتمام على خصائص اللغة المنقول إليها ومحاولة تكييفها والخصائص اللغوية والأسلوبية لكتابة الرفاعي. وتتميز طريقته في الكتابة بالإيجاز والاقتضاب والابتعاد، ما أمكن، عن الجمل المعقدة والمركبة. ناهيك عن اللعب بالحروف وبخاصة حرف الواو كدال على العطف أو الاستئناف أو ما يمكن أن يخرج إليه من وظائف أخرى. كما أن استعماله المكثف للنعوت يبتعد عن الاستعمال المألوف وقد يلاحظ تنافر بين النعت والمنعوت وربما غياب لقيود الانتقاء التي يستلزمها ضم كل فعل لازم لفاعله أو متعدي لفعله ومفعوله أو منعوت لنعته... إلا أن تعامل الرفاعي الرفيع مع مكونات لغته يجعلك تستنبط الانسجام والاتساق من نص أحكم تماسكه. ولعل نقل هذه المميزات الأسلوبية (إضافة إلى المميزات السردية والفنية) إلى لغة تختلف نمطيا عن لغة الضاد يتطلب من الوسيط إلماما باللغتين (المصدر والهدف) يجعلك لا تضحي بروح النص ولا تلحق الضيم بلغة موليير.

[email protected]