محمد الحمامصي من القاهرة: عرفته شاعرا متميزا منذ أوائل الثمانينات، بدأ قبلي بعامين أو ثلاث رحلة الشعر والحياة في القاهرة بعد أن هجر الصعيد، وقتئذ كانت كتابة القصيدة تشكل فرحا خاصا لابد من الاحتفاء به، كنا نلتقي في مقاهٍ وسط القاهرة، نقرأ الجديد مما كتبناه، نناقشه سعيا إلى خصوصية، كانت التجربة تتطور وتأخذ شكلا مختلفا ومغايرا لما سبق وللسائد وقتئذ، لكن الشعر لم يكن ليكفي لتسير الحياة، فكانت خيارات العمل هنا وهناك، نجحت في الالتحاق بإحدى المؤسسات، وظل الحظ السيئ يطارده كما طارد غيره من شعراء الجيل القادم من الصعيد خاصة، لكن الشعر ظل الحبل المتين الذي لم يفلت من أيدينا ليجمعنا كل عدة سنوات مرة أو اثنتين، وعندما أصدر الشاعر الصديق حمدي عابدين ديوانه quot;صانع العاهاتquot; قرأته أولا بعين المحبة والصداقة، فأحببته، ثم قرأته بعين الشاعر فوجدت أنه لا يزال قابضا على روح تجربته، قادرا على تحقيق إضافة، فهو على الرغم من ظروفه السيئة حافظ على الشعر على مواكبته، فكان هذا الديوان الحافل بلغة الحياة والمشحون بآلامها ومحبتها أيضا.
صانع العاهاتquot; ديوان يمثل إضافة حقيقة لتجربة جيل قصيدة النثر في مصر، يرد لصاحبه مكانته ويؤكد إخلاصه لتحقيق شعرية خاصة لهذه التجربة.
وفي هذا الحوار نتعرف إلى آراء الشاعر وتجربته مع الشعر والحياة.

** لماذا تأخرت في إصدار ديوان على الرغم من أنك تكتب منذ الثمانينات؟
** لا توجد أسباب يمكن الحديث عنها، فأنا لا أحب الحديث في ما أعتقد أنه مجاني، رغم أن الكثيرين لو حدث معهم ما حدث معي ربما كانوا أقاموا الدنيا ولم يقعدوها، لكني إن شئت أن أحدثك عنها، فلك ذلك خصوصا أنها صارت الآن مجرد ذكرى لا معنى لها، فقد خرج الديوان وانتهي كل شيء، أما عما حدث بخصوص تأخري في إصداره، فيتخلص في أن ديوانا غير هذا كان من المفروض أن يصدر منذ 6 سنوات، لكن الناشر الذي لا أرى ضرورة لذكر اسمه أضاعه بعدما سلمه للمسؤول عن سلسلة كان يصدرها في داره، ذهبت إليه ومعي مخطوطة الديوان، ولم يكن لدي سواها، كنت قد قمت بتغليفها، وكانت نيتي أن أصور نسخة منها،هو قال لي إنه سوف يتولى تصويرها بنفسه، مشيرا إلى أن الدار آمان ولا داع للقلق، وقتها أعطى الناشر النسخة لمسؤول السلسلة، لأنه سكير كبير، وأقصد هنا مسؤول السلسلة، ذهب بها على ما أظن إلى البار، وهناك فقدها، وعندما عاد في اليوم الثاني أنكر أنه أخذ المخطوط، وبهذا ضاع ديوان كان من الممكن أن يصدر قبلquot; صانع العاهاتquot;، الذي في يدك، وكنت قد قاربت على الانتهاء منه، فطلبه الناشر نفسه، بعدما وعدني أنه سوف يصدر سريعا، بعد أسابيع قليلة كان في يده، كنت في هذه المرة قد احتفظت في حوذتي بنسخة إلكترونية حتى لا يضيع مثل سابقه، وقد دخلنا في وعود استمرت لسنوات، وعود تكاد تكون أسبوعية، بعدها سافرت لسنوات أخرى خارج مصر، ولم أستطع متابعة الناشر، حتى عدت للقاهرة منذ أشهر، ووجدت الوعود نفسها، وكان قراري أن يصدر الديوان في دار أرابيسك خشية أن يدخل في مأزق آخر مع صديقنا الناشر الذي لا يفي بوعوده.
يبقى أن تعرف أنني أصدرت ديواني الأولquot; لكننا لسنا دائما على ما يرامquot; عام 2000، وأنquot; صانع العاهاتquot; صدر بعده بعشر سنوات، لتعرف أنني شخص سيئ الحظ، فلو أن الأمور سارت كما ينبغي أن تسير بالنسبة إلي لصدر لي ديوان شعر للأطفال أيضا من سلسلة قطر الندي بهيئة قصور الثقافة، أضاعوه أيضا في زحمة أزمات النشر، زمن الدكتور مصطفى الرزاز الذي قرر بمجرد توليه رئاسة الهيئة إلغاء سلسلة قطر الندي، وقد سألته في وقتها عن سبب ذلك، فأجابني بما أدهشني أن السلسلة استنفذت الغرض منها، ولأنه رأى ذلك تم إلقاء ما كان لدى الهيئة من أعمال معدة للنشر في سلة المهملات، لأن سعادة رئيس الهيئة الفنان التشكيلي يرى أن سلسلة أدب أطفال تصدر عن مؤسسته لا توجد ضرورة لها.

** هل لذلك علاقة بطبيعة تجربتك أم بالحياة؟
** بطبيعتي مقل في كتابة الشعر، ولا أكتب إلا إذا شعرت أنني في حاجة للكتابة، لا أكتب إلا إذا شعرت أنني سوف أكتب شيئا حقيقيا تشبعت به تماما، الكتابة لها في روحي مكانة كبيرة، ولا أذهب إليها إلا إذا شعرت أن الموت دونها، الكتابة نوع من البعث لروحي، إنها هي التي ترد لي الإنسان الذي يسكنني بعذاباته، وانكسارته وطموحه، هي التي تجعلني أحبه، وأشعر أنني ما زلت أحيا، هي التي تكسبني الثقة بقدرتي على مقاومة الروائح الفاسدة التي تنبعث من كل مكان أذهب إليه، مقاومة كل روح مزيفة تخرج عن إنسانيتها، الكتابة عندي هي الحياة، ولك أن تعرف والحال هكذا أنني أعيشها مثلما أعيش الحياة، إنني أتنفس الكتابة والتجربة قبل أن أمسك بقلمي لأخط ما بداخلي.

** تأخرت طويلا ومع ذلك خرجت تجربة ديوان quot;صانع العاهاتquot; لتؤكد أنك لم تغادر المشهد بل جزء من نسيجه بماذا تعلل ذلك؟
** قلت لك من قبل إنني لا أكتب إلا إذا شعرت أن شيئا حقيقيا يلمس روحي ويعتمل بداخلي، أنا لا أستسهل في الإمساك بقلمي أبدا، كما أن لدى كتابتي الخاصة، وأسلوبي ورؤيتي في الكتابة وأسعى دائما للتمسك بما أملك حتى لا يضيع مني آخر ما لدي من بواعث تدفعني للاستمرار في الحياة، ومقاومة ما بها من قبح وفجاجة، الكتابة هي الشيء الأخير الذي يدفعني للاستمرار في زمن يعج بالأقزام والشائهين وتجار البشر وقطاع الطرق.

** في quot;صانع العاهاتquot; تتجلى النثرية دون أن تفقد روح الشعر هناك صورة قوية وبعد لغوي مجازي وهناك إيقاع باختصار تشكل نسيجا غير متشابه فهل عمدت إلى ذلك تأكيدا على عدم انفصالك عن الشعر؟
** أحاول دائما أن أكون مختلفا، وهو ليس اختلافا مفتعلا غرضه الاختلاف فقط، لكن ذلك لأني سعيت له منذ زمن مستغلا حساسيتي وقدرتي التي منحها الله لي في كتابة ما هو إنساني، مما لا يراه ولا يشعر به سواي، قال لي أحد الأصدقاء الشعراء منذ أكثر منذ خمسة وعشرين عاما لو أنني أملك صورتك الشعرية وقدرتك على رسمها لأصبحت واحدا من أهم شعراء العربية، وها انا أملك هذه الصورة وما زلت أمسك بها لكنني لست واحدا من أهم شعراء حتى مصر، والادهى من ذلك ونحن في عصر ثورة معلوماتية ضخمة تراني أسعى أن أكون معروفا بين جموع الكتاب من المصريين وهم إذا قسناهم بالمبدعين أبناء لغة الضاد المنتشرين في أنحاء المعمورة، سوف تكتشف أنهم لا يشكلون سوى قبيلة صغيرة.

** على الرغم من طول القصيدة في صانع العاهات، لكن حيوية الصور تصنع حالة لا يستشعر المرء معها بالإطالة، فهل تحاول الاحتفاظ بشيء ما أو قول شيء ما؟
** أسعى فقط للاحتفاظ بروحي ممسكة بلحظة الكتابة، بمشاعري الطازجة حتى لا أفتعل شيئا ما، من هنا تبقى للكتابة طزاجتها وحميميتها بعيدا عن الافتعال والكذب، ببساطة حينما أمسك بقلمي وأبدا في الكتابة لا يكون لدي تواصل في هذا العالم إلا مع نفسي بآلامها وحنينها، بأحزانها الكثيرة وأفراحها النادرة، بتاريخها وإحباطاتها الكثيرة، من هنا أجدني أستشعر الكلمة واللغة وتفاصيل ما ترسمان من حالات شعرية أو مشاهد أسعى دائما أن تشكل بكليتها قصيدة أحبها وأتفاعل معها أنا قبل أن يتفاعل معها سواي، ولك أن تعرف أنني أبكي في بعض الأوقات عندما أقرأ شيئا ما يلمس روحي وانكساراتها، وهذا الشيء قد يكون لي، وقد يكون لغيري.

** تعيش داخل مشهد قصيدة النثر منذ زمن طويل وتعرف بدايات شعرائه وتطور تجاربهم، فهل تكشف لنا عن رؤيتك له ولتجاربه؟
** بين تفاصيل أي مشهد شعري في مصر، أو في أي مكان آخر في العالم، هناك ما هو حقيقي، وما هو مزيف، هذه طبيعة كل إبداع إنساني، أن تجد بين مبدعيه أصحاب مواهب كبيرة، وآخرين من صناع الكتابة ومزيفيها، وهم بالطبع أصحاب مهارة لكن لأن مواهبهم أقل من غيرهم تظل تجاربهم بعيدة عن روحك، لا تستطيع تلقيها ولا التعاطف معها، هؤلاء الناس كثيرون، وهو طبيعي أيضا لأن ليس من المنطقي أن يكون كل شعراء قصيدة النثر من أصحاب المواهب الكبيرة، لكني هنا وبهذه المناسبة أريد أن أقول للكبير الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي إن في مصر شعراء كبارا يكتبون شعرا حقيقيا عبر قصيدة النثر، تجاوزوا فيه بكثير ما قدمته قصيدة التفعيلة.

** المشهد الشعري في مصر مضطرب وقد تجلى هذا الاضطراب في الانقسامات التي حدثت بين الشعراء في موضوع مؤتمر قصيدة النثر، كيف ترقب الأمر؟
** في الحقيقة دائما ما أبعد نفسي عن المشاركة في أي من هذه الملتقيات، فأنا بطبيعتي لا أحب الضجيج ولا أحب الزحام، ولا أرى شيئا مفيدا من ورائها، كما أنني رغم تقديري واحترامي لكثيرين من الأصدقاء الذين شاركوا فيها، أعتقد أنها أساءت كثيرا بما صاحبها من لغط للكتابة ولقصيدة النثر في مصر، بما فجرته من صراعات بعيدة عن موضوع الشعر، انحرفت بعربة قصيدة النثر للحديث في أمور لا شعرية ولا علاقة لها بالفن أصلا، أيا كان نوعه، وذلك سببه كله بروز ذوات راحت تتصارع على تصدر المشهد.

** برأيك لماذا وصل الحال بالمشهد الشعري المصري عامة وليس مشهد قصيدة النثر فقط إلى ما هو عليه؟
** الحقيقة أن أي شعر وأي نوع من الفن يمثل منتجا إنسانيا يقدمه أبناء مجتمع ما في لحظة تاريخية معينة، وهي بالطبع تنضح بما تحمل من ثراء إذا كانت لحظة عامرة وغنية، كما أنها وهو ما يمكن ملاحظته في مصر الآن تكشف عن الكثير من الأمراض التي يمكن ردها إلى المشهد العام في مصر.

** ألا ترى للنقد مسؤولية في ذلك الأمر؟
** حتى لا نحمل النقد والنقاد فوق طاقتهم، ونتهمهم بأنهم لا يقومون برسالتهم، سوف أقول لك إنهم جزء من المشهد العام في مصر، حيث يغيب الجميع عن القيام بما هو مطلوب منهم، لكن دعني أسألك، لماذا تطالب الناقد أن يقوم بدوره، في الوقت الذي لا يقوم فيه الطبيب بدوره ولا المهندس ولا الضابط ولا حتى بائع الخضراوات، في بلدنا الذين يقومون بدور واضح وجلي وعلى أكمل وجه، هم اللصوص والمرتشون، فهم أصحاب الصناعة الوحيدة المزدهرة الرائجة هنا، أما أصحاب الصناعات غير الرائجة فعليهم فقط أن يوجهوا اللوم لأنفسهم فقط، لأنهم لا يقومون بما هو مطلوب منهم.

** هل ينتظر أن تفتح خزانتك الشعرية وتواصل النشر خاصة؟
** أعد الآن ديوانا جديدا، كتبته خلال فترة غربتي في الخليج، لكني وهذا ما أريد أن يكون له ردة فعل جيدة لدي قرائي، أعد أيضا لإصدار روايتي الأولى التي أنجزتها هناك.