الناقد حيدر سعيد

محمد غازي الأخرس من بغداد: ما من شك أن سنوات التسعينيات كانت الأكثر صخبا من غيرها وقد طالت شظاياها كل شيء بما في ذلك الثقافة. الناقد حيدر سعيد أحد الذين ما زالوا ينصتون لجلبة الانتلجنيسيا وهي تنفض معاطفها من آثار الحربين العدميتين. يقول سعيد عن أبناء جيله أن quot;علاقة بعضهم بالبعض الآخر ربما تتعدى مجرد النشوء في سياق ثقافي واحد، والإنصات لمؤثرات بعينها وغير ذلك من quot;موحداتquot; تذكرك بما يتناقله أبناء الأجيال الثقافية غالباquot;. وإذ ترد مفردة quot;الثقافيةquot; هنا فإن المقصود بها هو quot;الشعر ولا شيء غير الشعر. فمنذ الخمسينيات اعتادت الثقافة العراقية على ظهور أجيال شعرية مع كل عقد، خمسينيون، ستينيون، سبعينيون، ثمانينيون.. الخquot;.

الأمر مع حيدر سعيد وزملائه الذين ظهروا بعد حرب الخليج الثانية يتعدى ذلك، ليصل إلى فكرة مركزية من المهم التوقف عندها. يقول سعيد لـquot;إيلافquot;: quot;جرت العادة في كتابة التاريخ الثقافي العراقي أن نتحدث عن تقسيم هذه الثقافة أو تحقيبها من حيث الأجيال الأدبية. من جهتي أعتقد أن التسعينيات شهدت أمرا مختلفا رغم أن البعض زعم عام 1994بولادة جيل شعري سمي جيل التسعينيات. الأمر كما أظن هو أن تلك السنوات لم تنتج جيلا أدبيا بل أنتجت جيلا من الباحثين والنقاد. ونحن، هنا، نتحدث عن طيف واسع ظهر بعد حربي الخليج، وأبناء هذا الطيف اتجهوا، كل بطريقته، إلى العمل النقديquot;.

ويستطرد حيدر سعيد قائلا: quot;كان جزء أساسي من محاولة هذا الجيل بتقديري هو إعادة تعريف المثقف. المثقف عندنا عرف بوصفه الأديب أو الفنان ولذا فأن تاريخ الثقافة العراقية يطرد خارج ساحته أسماء مثل علي الوردي أو عبد العزيز الدوري أو صالح أحمد العلي أو سواهم من الباحثين في حقل العلوم الإنسانية. ما حاوله جيل التسعينيات، وهو جيل غير أدبي، تمثل بإعادة تعريف الثقافة العراقية بما يمكن أن يشمل هؤلاءquot;.

ما يقوله حيدر سعيد هنا ليس مفاجئا أو جديدا ففي عام 1999، مثلا، نقصد بعيد تكليفه هو وعلي بدر وأحمد الشيخ علي وجمال العميدي بتحرير مجلة quot; الطليعة الأدبية quot;، كان كتب في مقالة بعنوان quot; كنايات عن تاريخ ثقافيquot;، كتب : quot;لقد ظلت الثقافة العراقية إلى الآن ثقافة شعراء، بمعنى أن الوقائع التي كان يتشكل منها تاريخ هذه الثقافة هي وقائع شعرية. هكذا كان يكتب تاريخ الثقافة العراقية الحديثة، مشهد طويل للشعر وتحولاته وللشعراء وحركتهم وتجمعاتهم، وكل ما سوى ذلك يختفي بطريقة ما تحت هذا الشعر أو يظهر غريبا.. إننا لا نعرف أين نضع علي الوردي أو ياسين خليل أو حتى الزهاوي أو الرصافي، المفكرين لا الشاعرين، في هذا التاريخ quot;. ـ quot;الطليعة الأدبيةquot; ـ العدد الأول شباط عام 1999 ص 24
كانت تلك المناسبة من المرات النادرة التي يلتمع فيها نقاد ما بعد الحربين فيكشفون في عدد يتيم من quot;الطليعة الأدبيةquot; عن مشروع ثقافي مختلف تماما ربما كان نتاجا لحقبة جديدة، حقبة يسميها حيدر سعيد بحقبة quot; نهاية الدولتيةquot;. يقول لـquot;إيلافquot; : quot; أتصور أن ما حدث بعد الحرب العراقية الإيرانية تحديدا هو انهيار الدولة، تلك التي كانت نتاج الصراع الإيديولوجي الذي ساد منذ الخمسينيات والستينيات. لا أقصد انهيارها تماما كما جرى بعد 9 نيسان 2003 إنما أعني ضعفها وتفكك مفاصلها وهو ما سمح بظهور جيل من خارج الحقل الذي رعته الدولةquot;.

ويستطرد سعيد لشرح الفكرة الأخيرة :quot; معظم الأدباء الذين ظهروا منذ الستينيات كانوا ينتمون إلى أحزاب وكانت الدولة ترعى هذا الحقل الإيديولوجي في الجانب الفني تحديدا. والحال أن نهاية هذه الدولة وتفكك مفاصلها بعد حربي الخليج كانت تعني، بشكل ما، نهاية للتجييل بوصفها طريقة تحقيب للثقافة العراقية، وهو ما أدى، من ثم، إلى ظهور جيل لا ينتمي أبناؤه إلى الأدب بل إلى الفكر والنقدquot;.

ويضيف حيدر سعيد العائد إلى العراق منذ أكثر من شهر بعد هجرة دامت خمس سنوات أنهquot; بسبب ارتباط المثقف العراقي بالأحزاب ومن ثم إخضاعه في إطار الدولة منذ نهاية الستينيات على الأقل، فانه مثل دائما أداة لإنتاج فكرة الدولتية.

والفكرة هذه موجودة داخل المجتمع وخلاصتها أن ليس هناك أمكانية أو ليس هناك ناظم اجتماعي خارج إطار الدولة. أنموذج المثقف العراقي كما عرفناه كان أداة أساسية من الأدوات التي كرست هذه الفكرة، فكرة الدولتية، لكن ما أن انهارت الدولة نفسها حتى انهار ذلك الناظم الاجتماعي ومع الانهيارين انزوى المثقف الذي رعته الدولة وولد على أنقاضه جيل جديد قوامه مثقفون تجسد بهم أنموذج المثقف اللادولتيquot;.

المنطق الداخلي ذو البعد المحلي الذي يتحدث عنه حيدر سعيد لم يكن ليمنع من الالتفات إلى نوع المثاقفة التي حكمت الجيل. يقول سعيد لـquot;إيلافquot;: لقد قرأ هذا الجيل النسخة البنيوية من الفكر الغربي وهي نسخة ضمت أسماء كبيرة مثل ميشيل فوكو وكلود ليفي شتراوس ورولان بارت وحتى ما تلا ذلك من نسخة نقدية لهذا الفكر مثل جاك دريدا. بالتأكيد تأثر جيلنا بهذا الجو لكنني أقول أن جيلنا لم يتأثر بالشكل الذي جعله ينتج أعمالا في نقد الغرب نفسه. بل أعتقد أن ما حاول جيلنا فعله هو استلهام الروح المنهجية لهذا التيار في الثقافة الغربية ومحاولة تطبيقه على الثقافة العربية.quot;

ويضيف: quot;هذا من جهة المؤثر الخارجي لكنني أعتقد أن المؤثر الداخلي يظل أقوى فهذه الروح، أي فكرة نقد أسس الثقافة، أفضت بأبناء التسعينيات إلى أن يتجهوا إلى نقد الدولة وإلى نقد الثقافة العراقية الحديثة وإلى نقد الإيديولوجيات التي قامت عليها الأحزاب الكبرى. أي كان الاتجاه واضحا إلى نقد المرويات الكبرى في العراق الحديث. ويجب ألا يغيب عنا أن هذا العمل لم ينضج بوضوح إلا في مرحلة ما بعد 2003 لأنه لم يكن ممكنا قبل ذلك. أعني أنه لم يكن مسموحا لنا، نحن الباقين داخل العراق، أن ننتج أعمالا في نقد الدولة العراقية والبحث عن أزمتها البنيوية ونقد مروياتها الكبرى. هذا العمل ظهر بشكل واضح ما بعد 2003.quot;

أخيرا سألت حيدر سعيد عن الأسماء التي يعتقد أنها تمثل عينة للجيل الذي تحدث عنه فأجاب دون أن يصاب بحرج كبير : quot;هو جيل واسع وممكن أن أذكر لك عشرين أسما من الأسماء البارزة والمهمة التي ظهرت في مجالات النقد الأدبي واللغة وعلم الاجتماع والفلسفة. لكنني سأكتفي بالإشارة إلى حسن ناظم، ناظم عودة، علي بدر، صفاء صنكور، جمال العميدي، محمد غازي الأخرس، سعيد عبد الهادي، يوسف اسكندر، علي حاكم، قاسم محمد عباس، أسماء جميل، يحيى الكبيسي، وثمة أسماء أخرى بالتأكيد شكلت هذا المشهد. لا يجب أن ننسى أن مجالات الاهتمام التفصيلية اختلفت من واحد لآخر، هناك من لا يزال يمارس النقد الأدبي، وهناك من اتجه إلى فحص تاريخ الثقافة العراقية ونقد أسسها. هناك من اتجه إلى الرواية لكنها ليست الرواية بالمعنى التقليدي إنما هي الرواية التي تستلهم العلوم الإنسانية. هذه الأسماء التي ذكرتها هي التي تشكل عماد هذا الجيلquot;.