عبد الله كرمون من باريس: يوائم البعض، فيما مضى، ما بين حمل السلاح وحمل القلم، بل كثيرا ما يحدث أن يصير عسكري منته كاتبا، لكننا قلما نجد كاتبا بعينه يتحول إلى عسكري، خاصة بعد أن يكون قد نشر كتابا هاما مثل quot;فالبيريهquot;. يدعى الاستثناء الذي نحن بصدده الآن: بول مولين (1821_1862) وهو كاتب أصيل.
لا يعود سبب اهتمامي بهذا الكاتب الفرنسي المغمور إلى كونه كان ضحية نسيان فظيع دام طويلا فحسب، لكن ذلك يعود تحديدا إلى سبب أهم بكثير، يتعلق طرا بإنجازه لرائعته quot;فالبيريه: مذكرات نبيلquot;، والتي أعيد نشرها هذه الأيام من قِبل دار كاستور أسترال في ما يقارب من أربعمائة صفحة من القطع المتوسط، في حين أنها نُشرت في أربعينيات القرن التاسع عشر في جزأين.
قد تحُول أسباب أخرى بيننا وبين قراءة تركة الرجل، أجلّها أنه كان ملكيا في نزوعه السياسي، بل إنه قد انتسب إلى الحرس الوطني إبان ثورة 1848، ويكاد يفرقنا، بالتالي، كل شيء عنه، إلا نصه في ذاته. لم يعر حتى من انتقدوه في عصره اهتماما لهذه الأمور نهائيا، بل كان أعظم ما استرعى اهتمامهم هو الوازع الأخلاقي الغالبة بصماتُه على مؤاخذاتهم عليه. غير أن الذين استهجنوا موضوعه أنفسهم قد استحسنوا بلا منازع قوة كتابته، ولم يكن لهم بد من عمدهم إلى إطراء أسلوبه ولغته وما لجزالتهما من اعتبار.
وضع مولين روايته على شكل حكاية فلسفية، وعمد إلى حصر زمن أحداثها في خضم القرن الثامن عشر، كما درج على ذلك من سبقوه، ثم أنه جعلها رسالة مطولة كتبها فالبيريه إلى امرأة في أربعة وثلاثين فصلا، أهداها لها صديقه المقرب إليه بعد موته.
لا يمكن كتمان ما للكتاب إذن من شأو مضطرب في المجون والتهتك، ثم إن همه الكبير هو فتح باب اللذة والنشوة على مصراعيه. فلا عجب أن نقرأ فيه ما يلي: quot;طردونا من بيت المجون وحملنا المجون معناquot;.
يتعلق الأمر إذن بمذكرات نبيل، لا مجال فيها للحرمان فهي مجرد سرد طويل لسيرة الرخاء واللامبالاة التي تسم حياة تلك الفئة من المحظوظين.
هناك غلالة من السر تحيط مع ذلك بمنشأ وبمسعى بطل هذا النص الإشكالي. هذه الغلالة نفسها هي أساس ومبرر التجاوزات الهائلة التي استفاض في عيشها فالبيريه وفي سردها مولين. تتراوح موضوعاته بالتالي ما بين الجنس والقتل، وكأن بالأمر إيحاء للحياة والموت.
سيسعد قارئا مثلي أن يكون بودلير قد عرف مولين في حياته بل أنه هو من كتب مقالا تأبينيا عنه، لم يوقعه باسمه، أشاد فيه بفرادته وجمال فنه، كما أن كاتبا إشكاليا آخر قد نوه به وبكتاباته، هو دو أورفيللي. في الوقت الذي لا يسعني إلا أن آخذ على أندريه بروتون، الذي لابد أنه قد عرف كتاب مولين، نظرا لمعارفه الواسعة، أن يكون قد حرم مقاطع من فالبيريه من البروز بين دفتي المنتخبات الغريبة التي كان قد نشرها.
سيكتشف فالبيريه فيما بعد أن ولادته كانت غريبة، إذ كان سليل ثعبان! ما يفسر اضطراب عواطفه، وميله الهائل إلى القتل والقسوة. ثم إلى الجنس، الذي يتجاوز في طرقه لقضاء وطره كل مرة، ألاعيب الماركيز دو ساد وساديته.
إن ما سوف يبتهج له القارئ الحصيف عندما يفتح هذا الكتاب ليست هي مشاهد القتل الدموية، ولا دموع النساء المتروكة لمصائرها التراجيدية، ولا ما قد يسميه البعض بالرذيلة، ولكن بجمال الجِدة في الكتابة والفن، في الإشادة بجماعة أقرباء إزيس التي انتمى إليها مولين وانتشى برؤيتها الإباحية للعالم، وكذا بالاتصال الجميل ما بين قريحة كاتب موهوب وعقل شاعري، أسست فيه الفلسفة عروشا لملكوتها.
[email protected]