فجأة توقعت بأنني سأراها في الزحام الذي يفيض من الرصيف إلى الشارع وبالعكس. وقفت أمام مرآة المقهى لارتداء معطفي،فشاهدت وجهي.كان متغضنا لربما بسبب عبوسي المستمر، أو هكذا خيل لي.
ألقيت نظرة إلى الشارع، فرأيت رجالا قد حلقوا رؤوسهم توا، ونساء متبرجات، تبدو وجوههن صافيات دون أدنى ظل للكآبة.
كان ثمة شحاذ مقطوع الساقين، يجلس أمام الجامع مثل صنم بوذي، وصبي حاف يبيع الصحف. كنت أنظر إليهما بدقة وكأنني سأتذكرهما فيما بعد.
كنت أذرع هذا الشارع عدة مرات في اليوم، وغالبا ما كنت أدخل ظلام السينما عند عرض فيلم جيد، جالسا دائما في الصفوف الأمامية القريبة من الشاشة. وكنت أرجع إلى البيت وحيدا بعد انتهاء الفيلم.
شعرت بالغثيان عندما مرت من أمامي المرأة الحولاء التي تبحث عن الزبائن أمام دار السينما والزقاق الموازي لها. كانت تسكن في بيت قريب من بيت خالتي.
في ليلة ما وأنا أذرع الشارع نشوانا،فوجئت بها تطل من باب بيتها وتسحبني بسرعة إلى الداخل.كنت أتوقع أن تحصل أشياء شهوانية مدهشة، غير معهودة. وأنا أضع رأسي في حضنها، أحنت رأسها مقربة وجهها مني. أغمضت عيني متوقعا منها قبلة شهوانية، وإذا بها تقبلني من طرف أنفي وقد إزدادت عيناها جحوظا وحولا عند اقتراب شفتيها من أنفي.
انطلقت في ظلام الشارع، ودخلت في زقاق شبه معتم. سمعت خلفي ضحكات نسائية بالقرب مني. التفت صوب الصوت فرأيت فتاتين تمران من أمامي. كانت المسافة قريبة جدا بيني وبين الفتاة التي مرت من قربي. اختلست قبلة من خدها.لم ترد هي بل ردت صديقتها بصوت عال وسط العتمة التي تقترب من الظلمة:
ـ أدبسز.. روح بوس أمك!
أطلقت ضحكة قوية من شدة إعجابي بالشتيمة. لست مخمورا فأنا لم أشرب إلا كأسا من النبيذ. لماذا قبلت فتاة في الظلام لم أر حتى وجهها بشكل جيد؟ ولما لم أتبعها، مفضلا إشعال سيكارة، والمضي وكأنني أقصد جهة معينة بالذات!.
منذ اسبوع وأنا أتناول طعامي في نفس المطعم، الذي اكتشفته صدفة. كان أحد طرفيه مفتوحا على السوق، والطرف الآخر يؤدي إلى مقبرة لأحد الأولياء كما يقولون. أحيانا كنت أسمع صوت الآذان،وفي كل مرة يبدو لي أنه ينطلق من قلب المقبرة.
كنت تقريبا أتناول نفس الطعام في كل مرة. لم أجد لذلك أي تفسير منطقي. ترى هل كنت مجذوبا إلى هذا المكان بسبب المرأة التي تبدو عاملة، وتتناول عشاءها في نفس المكان. أحيانا كانت تغيب كما في هذه المساء. لست أدري ما الذي كان يهمني من أمرها؟ كانت تبدو عادية في كل شيء.
نهضت لمغادرة المطعم. وقع نظري على لوحة مغبرة، منسية منذ زمن طويل كما يبدو من تراكم الغبار عليها:
ـ الدين ممنوع..والعتب مرفوع.
انتبهت إلى قبح منظر منافض السكائر الموضوعة على الطاولات، كنت اكتشف قبحها لأول مرة. دون وعي قذفت بمنفضة إلى الخارج، فارتطمت بالزجاج وأحدثت شرخا كبيرا فيه.فتحت امرأة نافذتها في العمارة المقابلة للمطعم، وهي تمد رأسها بفضول إلى الخارج.
أخرجت محفظتي، سائلا النادل عن ثمن زجاج جديد.
ـ لا أعرف بالضبط.. ربما بعشرة أو عشرين ألف دينار.
قدمت له ثلاثين ألف دينار للنادل. تساءلت ترى كم كيلو من اللحم يساوي هذا المبلغ؟ فوجئت في هذه اللحظة بوجود المرأة العاملة على الطاولة المعتادة.كيف لم أرها في الوهلة الأولى؟.
لم أنظر إلى وجهها بل أبصرت يدها اليسرى الموضوعة على الطاولة. كانت تبدو يدا ناعمة وكأنها تتحدث.
انطلقت من المطعم إلى الشارع.كانت السماء رمادية، محملة بغيوم سوداء على وشك أن تسقط مطرا على الناس والبيوت والشوارع والسينمات والحانات. عند خروجي فوجئت بأمطار مجنونة في الخارج. هرعت نحو موقف الباص الخالي. كانت ثمة نخلة تقف وحيدة بالقرب من الموقف، وكأنها زرعت هناك عنوة. حاولت النظر إلى قمتها لكنني لم أرها بسبب شحوب نور المصباح الذي بالكاد يضيء المكان شبه المظلم.
مر بائع للسميط.. أوقفته وابتعت منه حلقتين من السميط. في هذه الأثناء كانت إمرأة تقف في الشرفة. ترى هل كانت تتأملني أنا؟.
اتجهت بعد هدوء المطر نوعا ما صوب سينما العلمين. كانت الأنوار تنير الرصيف و الشارع. استغربت من الزحام الموجود أمام السينما في مثل هذا الجو المنقبض الذي لا يصلح إلا للكآبات. لا غرابة في ذلك فالفيلم المعروض هو فيلم هندي.
كانت (القشلة) تبدو على يسار دار السينما، مثل سر تاريخي لا يظهر منه إلا مبنى غارق في الصمت والعزلة من رأسه حتى قدميه. بدا لي أنها بناية بلا ذاكرة لا تعلم متى غادرها آخر جندي عثماني.
دخلت الصالة و بدأت بقضم حلقة من السميط.أحسست بعد فترة أن البعض مما يتأملون صور الفيلم ينظرون لي باستغراب، أو هكذا تهيأ لي. ترى هل في عرف هؤلاء من العيب على من يلبس بدلة أنيقة أن يأكل السميط داخل صالة السينما؟
قررت الخروج من سينما العلمين، وكأنني على وشك اتخاذ قرار مهم. طلبت من سائق سيارة الأجرة أن يتوجه بي إلى مقبرة (تعليم تبه). أحسست بأن السائق ينظر لي باستغراب.
نزلت من السيارة على مسافة قليلة من المقبرة. انطلقت السيارة بسرعة وكأنها تفر من لعنة سيصيب صاحبها الذي أيقن أن زبونه ليس إلا معتوها.

وقفت تحت مظلة شرطي مرور مهجورة، يتوسط الشارع.كانت قطرات المطر تبدو تواقة للهبوط على الأرض تحت نور العمود الشاحب. ترى لماذا جعلوا العمود طويلا إلى هذا الحد، هل لكي يرتكب مجرم جريمته دون أن يرى الضحية أو شاهد عيان وجهه؟.
هل جعلوه بهذا الطول وبهذا النور الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة عن قصد للتستر على المجرمين واللصوص المسرعين للجريمة وسرقة البيوت؟.
وصلني نباح كلب.نباح غريب ممتزج بالاحتجاج والأنين. مرت من أمامي سيارة تبدو وكأنها في رحلتها الأخيرة. كان سائقها يغني بصوت مزعج. عند مروره من أمامي.استرعى انتباهي هذه العبارة المكتوبة خلف السيارة:
ـــ بلبل الصحراء يغني اسأل المرسيدس عني
ربما بهذه العبارة يريد صاحبها أن يضيف لنفسه وسيارته التي تهتز أكثر مما تسير قيمة إضافية.
فجأة وقفت سيارة شرطة النجدة بحدة أمامي، نزل منها شرطي. كنت لا أزال واقفا تحت المظلة المرور. هرع الشرطي بخطوات سريعة نحوي، بينما فتح آخر (يبدو أنه أكبر منه رتبة) زجاج السيارة ليتابع ما يحدث.
اقترب مني الشرطي مشيرا بيده اليمنى إلى المكان:
ـ ماذا تفعل هنا؟
كنت أتأمل خيوط المطر المنسابة من أطراف المظلة:
ـ أتجول في مدينتي.
سمعني الضابط من داخل السيارة:
ـ مدينتك! هل ورثتها عن أبيك؟
نزل الضابط مقتربا مني.
ـ هل سكرت في النادي القريب من هنا؟
ـ لا أعلم عن أي ناد تتكلم.
اقترب مني أكثر وهو يصرخ بصوت آمر:
ـ افتح فمك!
قرب أنفه من فمي المفتوح، ثم قال بحيرة:
ـ أنت لست بسكران، ماالذي تفعله إذن هنا في مثل هذه الساعة؟
ـ لا شيء...
لم يقتنع بردي:
ـ وهل هذا وقت للتنزه في مثل هذه الساعة المتأخرة؟.. من يضمن لي بأنك لست إرهابيا أو لصا؟
أمر الشرطي أن يفتشني .تقدم الشرطي مني بحماس وكأنه كان ينتظر من سيده هذا النداء بلهفة.
أدار وجهي نحو عمود المظلة، وباعد بين ساقيّ، ثم أخذ يتحسس بيدين مدربتين ماتحت إبطيّ وساقيّ.
انطفأ حماسه بعد عدم عثوره على أي شيء.
أطفأ الضابط سيكارته قائلا للشرطي:
ـ هيا بنا إلى المركز، هناك سنعرف الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
كنت التفت داخل السيارة نحو مقبرة (تعليم تبة) الغارقة مع قبورها في الظلام.
نفخ الضابط دخان سيكارته وهو يلتفت نحوي في المعقد الخلفي:
ـ لماذا تنظر هكذا إلى هذه المقبرة المظلمة، وليس فيها إلا الموتى والمقابر والعقارب والثعابين والأشواك؟
لم أكن أرى إلا قطعة من الظلام الدامس.
بدأ الضابط يترنم بأغنية هابطة. وبقيت متطلعا صوب المقبرة التي فيها قبر أمي.
برز فجأة كلب شريد من الظلمة، وبدأ يطارد سيارة شرطة النجدة، وهو ينبح بصوت عال.