... في الزمان العراقي؟

شارع المتنبي

عبد الجبار العتابي من بغداد: كثيرا.. ما اسمع في سنوات منصرمة من اخرين التساؤل الاتي: هل مازال العراقيون يقرأون؟ واحيانا اجدني لا اعرف الاجابة، لان الظروف غير الواقعية التي مر بها العراقيون عبر السنوات العشرين الاخيرة على الاقل لم تمنح المتابع الفرصة لاستقراء الحقيقة، ولكن الظاهر للعيان في مجمل القول ان القراءة ما زالت هواية عراقية، وان اصابها بعض الفقر في عدد القراء، ومع التطور التكنولوجي وظهور الانترنت وانتشار الفضائيات عاد التساؤل لاسيما ان شهر رمضان الماضي شهد غيابا واضحا للجمهور من شارع المتنبي على الاقل وتصاعد الجدل حول الاعمال الدرامية التلفزيونية التي اصبحت الشغل الشاغل للشارع العراقي وللوسط الثقافي العراقي، ومن هنا وجدت ان اكون قريبا من الواقع لأجد الحقيقة عبر تساؤلي (هل ما زال الكتاب خير جليس في الزمان العراقي؟).

المصادفة وحدها جعلتني انتظر امام مجموعة المكتبات في اول شارع السعدون من جانب الباب الشرقي، لكنني ذهبت بشكل عفوي للنظر الى عناوين الكتب المنتشرة على ابواب تلك المكتبات، مررت بنظراتي متأملا، وفي لحظة انتبهت الى انني كنت الواقف الوحيد امام عشرات الكتب على طول المسافة، اذ لم يتوقف احد بالقرب مني، وحين ابتعدت قليلا راقبت المكان بشيء من الفضول فلم اجد خلال تلك الساعة الصباحية،ما بين العاشرة والحادية عشرة، احدا توقف طويلا او مد يده الى كتاب، بل ان الاغلب لم ينظروا باتجاه المكتبات، اللهمّ الا خمسة اشخاص دخلوا متفرقين وبأوقات متفاوتة، وللضرورة والفضول استوقفت اثنين منهم فعرفت من احدهما انه طالب دراسات عليا يبحث عن مراجع يحتاجها، فيما قال الثاني انه من هواة القراءة ويعجبه كثيرا دخول المكتبات والنظر الى اغلفتها ومعرفة الجديد لانه من جيل يقرأ (قال انه من مواليد 1962)، وهوما جعلني اتجاذب معه اطراف الحديث،ولم يفاجأني حينما قال انه باع مكتبته لان بيته لم يعد يتسع لها ولاولاده الذين لم يقتربوا من الكتاب وتوجهوا الى القنوات الفضائية والالعاب في الموبايل، ومن خلاله عرفت انه حزين لان مصير الكتاب يبدو قاتما لان الاجيال الحالية لم تعد تقرأ كما الاجيال التي قبلها، مشيرا الى انه اصبح يخشى على قول المتنبي (وخير جليس في الزمان كتاب) من الضياع والسخرية، وأوضح: من خلال ابنائي واصدقائهم اتألم حين اراهم لايفتحون كتابا على الرغم من ان بعضهم اكمل دراسته الجامعية، واصبحوا يسخرون حينما اجلب معي كتابا، ومرة قال لي احدهم مازحا (كم انت عتيق يا أبي ان تحمل معك كتابا!!!).

مر وقت قصير قبل ان اودع الرجل واعود ادراجي الى اول مكتبة قريبة فأدخلها وعلى الفور اسأل الذي كان يعمل فيها (هل تعتقد فعلا ان قول المتنبي (خير جليس في الزمان كتاب) في خطر، ابتسم الرجل قبل ان يجيبني قائلا: (حتى لو لم ابع اي كتاب او لم يدخل المكتبة اي شخص فسوف اظل اردد ان الكتاب هو خير جليس في الزمان هذا وفي كل زمان،انا لا اخشى على الكتاب من عدم الاهتمام او من الاهمال، فالجميع سيرجع اليه لسبب ان العلاقة مع الورق هي الاوطد والاجمل وتمتلك خصوصية وسرية ومتعة لا يشعرها قاريء الكتب عبر الحاسوب).

وبالمصادفة ايضا، وانا اهم بالخروج من المكتبة التقيت الكاتب والمخرج المسرحي قاسم السومري، فصار بيننا حديث عن المكتبة التي خرجت منها وعن موقف الرجل الذي التقيته قبل قليل، فقال السومري: الثقافة بشكل عام ومجال القراءة تحديدا او استهلاك الثقافة بشكل ادق حدثت فيه تحولات جوهرية ناتجة عن التطور التكنولوجي الحاصل وخاصة بعد ثورة الانترنت حيث اتيحت الفرصة واسعة امام القاريء ان يجد مائدة عامرة جدا مما يحتاجه ان كان على مستوى المقالات او حتى على مستوى الكتب، واحيانا في مجالات متخصصة يحتاجها ان كان باحثا او طالبا او حتى مثقفا، يجدها بيسر وسهولة من خلال الضغط على زر، انماط استهلاك الثقافة تغيرت ليس في الانترنت فقط بل حتى عن طريق القنوات التلفزيونية حيث الفضاء يضج بالبرامج الثقافة وسواها وهذا الامر جعل مستهلك الثقافة يتلقى الثقافة وهو مسترخي،وان كنا لا ننكر وجود الكثير من الناس الذين اعتادوا على رائحة الورق، وهؤلاء يعتقدون ان الكتاب الموجود على شاشة غير ما يتصفحونه ويشعرون بلذة مختلفة، ولكن في النهاية الامر، حسب رأيي، سيحسم تاريخيا وحضاريا باتجاه التكنولوجيا،لذلك سيأتي وقت بدل ان نقول (الكتاب خير جليس) يمكن ان نقول (الانترنت خير جليس) حتى بالنسبة للمثقف لان الانترنت يعطيه خيارات اوسع وسهولة في الحصولة على المعلومة ويعطيه قدرة على الحوار والتبادل الثقافي مع مثقفين في مكان اخر في بلد اخر وبلغة اخرى وهذه نافذة مهمة، وأظن بعد سنوات ان مقولة (الكتاب خير جليس) تصبح في ذمة التاريخ على اعتبار انماط الثقافة اختلفت.

واضاف، بعد ان نقلت اليه حكاية الرجل في المكتبة: الاجيال التي عملت الفة مع الكتاب ما زالت تحن وتستمتع بقراءة الكتاب وحتى الى رائحة الورق ولكن الذي ليس لديه تجربة مثلنا نحن جيل القراءة الذين بنينا الالفة هذه بسنوات، لايوجد لديه هذا الاحساس، فقد وصل الامر عند بعض الجامعات الى الاستغناء عن الورق تماما في الدراسة، بمعنى ان الانسان هذا لم تحدث عنده علاقة او الفة مع الكتاب، وهو ما يبني جيلا جديدا يغادر الورق، ونحن الذين نتمسك بالورق فبسبب ذاكرتنا وتعودنا على طقوس القراءة وبسبب الفتنا واعتيادنا وبسبب كسلنا ايضا حيث اننا نريد ان نأخذ الكتاب بالطريقة التي نريدها بينما الذي يجلس امام الجاسبة يضبط جلسته بطريقة خاصة، انا اقرأ الكتب واشتاق الى الورق ولكنني امضي وقتا ليس قصيرا اقرأ عبر الانترنت، وهذا ضرورة العصر التي لابد منها.

ذهب السومري، ومرت ايام وكانت كلمات الرجلين هناك ما زالت معي، وقمت باستحضارها مع اول ذهاب لي الى شارع المتنبي في يوم الجمعة، لا اخفي انني قلت مع نفسي ان اغلب الوجوه التي اراها في الشارع طالما اراها في جمعاته الاخريات،ولكن الذي كان يشدني اكثر هو وقوف العابرين امام اكداس الكتب والنظر الى عناوينها او اغلفتها، حتى وان لم يشتروا شيئا، وهو ما جعلني اسأل الشاعر الدكتور فائز الشرع فقال: اظن بأن نبوءة المتنبي بأن الكتاب خير جليس في الزمان ما زالت مستمرة وستستمر، للكتاب حميمية لا يمكن للمواقع الالكترونية او للشاشات البصرية ان تسد فجوتها وهو انيس دائم وقريب محبب الى القاريء، وهو علامة لايمكن ان نتجاوز ان الكتاب علامة او ذو أثر سيميائي عالي في انها المرشد الى المعرفة دائما وانها المعادل الحقيقي لما هو معرفي ولكل ما هو جديد ومفيد.

واضاف: لازال الناس يحترمون الكتاب ويعتزون به، ربما قلت القراءة وربما قل القراء ولكن الكتاب ما زال محتفظا بمكانته الثقافية والاجتماعية ايضا.

على مقربة منا كان القاص حسن موسى فتحدثت معه عن الفكرة ثم قال: اعتقد على مر التاريخ والحياة.. بقى ويبقى الكتاب خير جليس،ولا يمكن تصور الحياة بدون كتاب، وبالمناسبة الشكوى من كونه غالي الثمن والكثيرون لا يستطيعون شرائه في ظل ظروف معاشية معينة، فأنا ارى ان السبب: لان الانسان بدأ يسيء الى هذا الجليس الجميل، اعتقد ان الكتاب في جميع الحالات جليس هائل جدا وجميل جدا على ان تكون العقلية التي انتجت هذا الكتاب جميلة، وما زال الكثير من الناس العاديين يقرأون ويحضرون معارض الكتاب ويأتون الى شارع المتنبي حتى وان كانت لا تشكل جزء من طموحاتهم في اقتناء كتب ذات قيمة كبيرة، انا اعتقد ان الكتاب يبقى المنتج البشري الاعظم.

في اتحاد الادباء قلت للشاعر ابراهيم الخياط:هل ما زلنا نقرأ الكتاب، ام اشحنا بوجهنا عنه؟ اجاب: سنظل نقرأ بالتأكيد ولا يمكن ان يشيح العراقيون بوجوهم عن الكتاب، لكن طريقة القراءة اليوم هي التي تغيرت، يعني في السابق يقتنى الكتاب ويتم التعامل معه بالقراءة اليومية الاعتيادية،الان تحولت قراءة الكتاب من قراءة الورق الى قراءة الشاشة،اذن قد تكون الطريقة اسرع والغرض يؤدي نفس الغرض، الكتاب اصبح تحت متناول اليد في اي ساعة ولكن مع ذلك هناك معوقات كثيرة مثلا المهارات اذ ليس بمستطاع اي فرد ان يجلس خلف الحاسوب ويفتح الشاشة، الامر الاخر لاسيما لدينا معوقات الكهرباء وهومعوق كبير جدا اذ ليس في اي وقت توجد الكهرباء كي يتمكن المواطن حين يقتني الكتاب ان يقرأه، فلذلك هنالك الثورة التكنولوجية لايمكن ان تؤدي الى سعادة الانسان وتغيير الانسان بدون توفر الاساس الاقتصادي والاجتماعي، اقصد بهما حين تكون البنية التحتية للكهرباء جيدة سيكون الغرض مؤديا نتائجه بشكل متقدم، والمستوى الاجتماعي اعني به حين تكون متطلبات الانسان متوفرة ويتكن من القراءة والكتابة.

واضاف معللا اسباب النكوص في القراءة قائلا: في سنوات التسعينيات في العراق والى حد الان الانتكاسة التي حدثت مع الثقافة والكتاب مردها الى الحصار الاقتصادي ومن ثم الى الاحتلال والارهاب وهذه معوقات حرمت المواطن من قوت يومه او من امكانية الاكتفاء بالمعيشة عن طريق راتب واحد كما كان شائعا وسائدا في العراق في سنوات ما قبل الحرب العراقية الايرانية حيث كان الراتب للمعلم مثلا يكفيه وفي الصيف يذهب في سفرات الى دول اوربا لاسيما الشرقية منها لانها كانت ارخص نسبيا، هذه المعوقات الاقتصادية والاجتماعية فضلا عن الاخريات العلميات هي من ضمن المعوقات التي حسرت دور الكتاب وتلقي الكتاب، لهذا.. الكتاب انحسر دوره بالتأكيد، ولكن لايمكن ان يضمحل او يتضاءل او لايكون له دور في حياة العراقيين، وخذ مثلا الطلبة الذين قدموا للدراسات العليا، كثيرون جدا وحدث بينهم تنافس كبير على المقاعد وهناك واسطات ونوع من الاحتدام، بينما في دول اخرى مثل ليبيا تأتيهم البعثات الدراسية اليهم ولا يذهبون اليها، اذن هنالك حب العلم وحب القراءة وحب الاطلاع موجود عند العراقيين، لذلك مهما يكون فالكتاب سيتمنونه جليسا وانيسا.

فيما اجابني القاص والكاتب كاظم حسوني قائلا: الكتاب يمثل للناس في كل مكان وليس في العراق فقط الانيس والجليس والمرافق دائما للمثقف منهم الذي ينظر الى الناس الذين لايقرؤون ولا يهتمون بالكتاب بشيء كبير من العجب،لان الكتاب برأيه يمثل ايقونة الحضارة ويمثل المتعة واللذة الفكرية والروحية ويفتح لك الافق وتمتص منه رحيق العقول والنفوس والافكار والحكمة، المثقف يستغرب ان يهجره الناس ويبتعدون عنه ولا يدركون مكانته واهميته، لذلك من المؤسف الان ان نجد ان مجموعة من الناس تهتم به فيما تتجه الاغلبية الى وسائل الاعلام الاخرى كالفضائيات، وهو ما جعل الكتاب يضعف حتى المثقف بات يمضي وقتا طويلا او قليلا امام شاشة التلفزيون او الحاسوب او الموبايل، وهذا يأكل من وقت الكتاب ولكن رغم كل هذا تبقى المكانة الاولى والاساسية للكتاب ويبقى حيا وفاعلا ومؤثرا في حياة الناس سواء ابتعدوا عنه طويلا او قليلا لسبب او اخر، لكن في المحصلة يبقى العراقيون تواقين الى المعرفة عن طريق الكتاب الورقي ولن يذهبوا عنه بعيدا مهما تطورت الاحوال، فهناك طقوس للقاريء العراقي مختلفة عن سواه،واعتقد ان الاجيال الجديدة التي ستولد مع الحاسوب ستتجه بعيونها الى الكتاب لانه يمتلك مواصفات جذابة وساحرة.

اما محطتي الاخيرة فهي الاستئناس برأي عبد اللطيف سعد / مدير معرض بغداد الدولي للكتاب الذي عقب قائلا:ما زال الكتاب هو المقصد ولم تستطع كل وسائل التكنولوجيا ان تفصل بين الورق وبين القاريء وستبقى للورق نكهة وستبقى هذه النكهة واعتقد ان المتعطش للقارءة لن يبخل بشراء كتاب، وانا من خلال حبرتي ومتابعاتي اعتقد ان الكتاب ما زال خير جليس من خلال ما نشاهده وما نقوم به من معارض ومن خلال النتائج ما يزال الكتاب كذلك ولم يقوم احد بمكانه، للكتاب نكهة خاصة، اعطي مثالا لك الصحيفة الكل يستطيع الكل ان يقرأها على الانترنت ولكن لها نكهة خاصة ان تحملها بين يديك والكتاب له تكل النكهة ولا يمكن ان تحمل (اللابتوب) وانت في الفراش ولكنك تستطيع ان تحمل الكتاب.