من برشلونة: اود الكتابة عن فيلم صنع قبل اكثر من 70 عاما، من مفارقات التاريخ الذي اعتاد كتابة نفسه كل بضعة عقود تجعل منه وثيقة نادرة في تاريخ السينما. الفيلم يتحدث عن نتائج الكارثة الاقتصادية التي عانتها quot;أميركاquot; في عام 1929، وتاثيرها على حياة الملايين من الاميركان الفقراء الذين قدموا إلى هذه الارض من كل اطراف العالم بحثا عن quot;الحلم الاميركيquot;.

وهم على وشك تحقيق احلامهم و بجهود شاقة في ظروف قاسية، تعلن quot;بورصة quot;نيويورك افلاسها و مع هذا السقوط يتساقط العديد من أصحاب الاسهم، و مدراء البنوك من نوافذ ناطحات السحاب كما حشرات في حالة انتحار جماعي..... اليوم، و نحن نعاني أزمة اقتصادية و مالية خطيرة تدخل في عامها الخامس على المستوى الاوربي بشكل خاص و العالم بشكل عام نشاهد بالم تسريح مئات الوف من العمال و الموظفين كل يوم، ثم مصادرة البيوت من قبل البنوك الفاشلة، الفارق الزمني بين الازمتين هو 80 عاما، في الازمة الاولى و كما ذكرت انتحر العديد من مسؤلين البنوك و اصحاب الاسهم بسسبب سوء ادارتهم، و جشعهم و مساهمتهم الضرورية في افلاس المؤسسات المالية، اليوم، يحصل العكس، فهؤلاء غادروا وظائفهم مع مكافات مالية لا يحسد عليها أمام فشلهم في الادارة. و فسادهم على حساب دافع الضرائب.
دون شك فيلم quot;عناقيد الغضبquot; 1940 يعتبر واحدا من التحف للعظيم quot;جون فوردquot; 1895-1973 الايرلندي الاصل، يتبنى فيه احدى الروايات الاميريكية الأكثر quot;ماركسيةquot; للكاتب العظيم ايضا quot;جون شتاينبكquot; 1902-1968 و التي كان قد كتبها قبل عام من صنع الفيلم حيث فاز بجائزة quot;بوليتزرquot; الادبية. الغرابة هنا هي عدم تطابق ايديولوجية الرجلين السياسية، فكما هو معروف عن الكاتب انه كان محرضا سياسيا، و يساريا كما نرى في معظم اعماله الاولى بسبب من اصله الطبقي الفقير، فهو كان أبناء مقاطعة quot;ساليناسquot; الفقيرة انذاك في quot;كاليفورنياquot; و مارس كل المهن الصعبة للعيش، من منضف الى مزارع ثم حارس اسطبلات الخيول. بينما كان quot;جون فوردquot; معروفا في افكاره اليمينية و المحافظة التي وثقها في العديد من افلامه اللاحقة.
الرواية quot;عناقيد الغضبquot; من كل جوانبها تعتبر من اكثر روايات quot;شتاينبكquot; ماركسيةquot; كما اشرت سابقا، فيها يفصل هموم المواطن الاميركي الفقير الذي اصبح رمزا لملايين الاميركان الذين تضرروا اثناء سنوات القحط بعد نكسة الاقتصاد في 1929، و هذه حرقت quot;اليابس و الاخضرquot; في بلد شاسع كان محطة المهاجرين من كل انحاء العالم.
في مقابلة مع السينمائي و الباحث المستقل quot;بيتر بوغدانوفتشquot; يجيب quot;جون فوردquot; في اواخر ايامه عن سؤال هذا، و سر صناعته هذا الفيلم الذي هو في الاساس ضد افكاره السياسية المحافظة، كما يبرهن عليه كل تاريخه في الاخراج و صناعة السينما، هذا كان جواب فورد quot;ببساطة اعجبت بالفكرة لا اكثر، قرأت الرواية و كانت رائعة، و ايضا أعجبت بالسيناريو الذي كتبه quot;نونالي جونسونquot; 1897-1977 الذي قدمه لي quot;داريل زانوكquot; مدير شركة quot;فوكسquot;
حينها، كان هذا بالنسبة الي مسألة شخصية، لانني أتذكر جيدا ما حدث في quot;ايرلندةquot; و لفقرائها حيث سلبت أراضيهم، و تركوا لمصيرهم هائمين لينتهوا امواتا من الجوع في نهايات الطرق، -ربما لهذا السبب-، لكن فكرة هجرة العائلة بكاملها اثارتني كثيرا، العائلة التي تتخذ قرارا مصيريا في سبيل الخلاص من هذا العالم الشرسquot;.
في صيف 1936 كلفت صحيفة quot;سان فرانسيسكو نيوزquot; الصحفي الشاب اليساريquot;جون شتاينبكquot;1902 -1968 كتابة مجموعة من التقارير الصحفية حول الهجرة الجماعية من شرق و وسط امير كا الى quot;كاليفورنياquot; التي ازدهرت فيها مزارع العنب و البرتقال، وهو شخصيا كان يسافر مع المهاجرين، و تمكن من انجاز 7 تحقيقات صحفية كانت تنشر بانتظام، فيها يصف هول الهجرة و قسوتها، و عناء الاف من العوائل التي فقدت كل شئ، من مزارع و بيوت بعد سقوط الاسواق المالية التي ليست لهم فيها لا ناقة و لا جمل، ولكنهم كانوا من اكثر المتضررين بعد مصادرة البنوك مزارعهم و حيواناتهم، في هذا السفر المرير كان الكاتب معهم، و عاش عن كثب طريق الهجرة الطويل و المتعثر ليصلوا quot;كاليفورنياquot;. من هذه التقارير الصحفية يتمكن الكاتب حياكة رواية مليئة بالقسوة من خلال واقعيتها المريرة و الموثقة.
في هذا الفيلم يؤدي الممثل العظيم quot;هنري فونداquot; 1905-1982 اجمل ادوار شبابه في شخصية الشاب quot;جوودquot; الذي يكتشف واقعا مؤلما، بعد اطلاق سراحه من السجن. البنك صادر كل املاك العائلة المتواضعة، و المزرعة و كل شئ ليقرر الهجرة من quot;أوكلاهاماquot; الى كاليفورنيا كما كل العوائل التي عانت شرور البنوك حينها، و يقود عائلته في سفر طويل بحثا عن لقمة العيش و امل العمل بكرامة، وبعد السفر المتعب و الجهد الخارق تصل العائلة مزارع عنب كاليفورنيا الواسعة، اي الارض الموعودة، ولكنهم سرعان ما يكتشفوا خبث الوعود، و قسوة و جشع ملاكي هذه المزارع الذين يستغلون حاجة هؤلاء و ضعفهم في ساعات عمل طويلة و شاقة برواتب تكاد لا تسد رمق العوائل هذه، و هؤلاء وجدت في منظمات quot;المافياquot; الاجرامية قبضتها الحديدية في في منع تشكيل النقابات العمالية اولا، ثم سحقها بدون رحمة في اضراباتها اللاحقة، و quot;جوودquot; يكتشف لاول مرة انتمائه الطبقي رغم مروره بتجربة سابقة في اوكلاهاما، ليصير هذه المرة محرضا نقابيا واعيا خطورة المهمة التي ستضاعف العناء.
بدون شك، هذا من اجمل افلام quot;جون فوردquot;، ففي شعرية سينمائية رائعة ممزوجة بـquot;دراماتيةquot; الحدث الاجتماعي و الشرط الانساني في نهاية العشرينات حيث يعكس هموم الانسان المصيرية و اهمية التضامن و الاتحاد امام وجه الرأسمالية القبيح و جشعها، ليضع المشاهد متحيزا و بحق في موقفه امام هؤلاء البؤساء الذين سرقتهم وحشية و لا انسانية النظام المالي القائم انذاك، و ها هو يعود اليوم من جديد في حلة اكثر قسوة.
يحاكي فورد وضعا اجتماعيا و اقتصاديا مؤلما بالغا في الرداءة، فبعد السفر المتعب و الطويل يكتشف المهاجرون سراب الارض الموعودة، و ان جهدهم و عملهم اليومي الشاق أصبح أقل ثمنا من السابق، و رغم هذا لم يسقط في ديماغوغية الشعار السياسي، أكتفى بتصوير الرواية كما كتبها quot;شتاينبكquot;، و بمناسبة الحديث عن التصوير يمدح المخرج المصور الشاب quot;غريك تولاندquot; 1904-1948 الذي سيصور لاحقا مع quot;اورسون ويلزquot; اهم الافلام في تاريخ السينما quot;المواطن كينquot; 1941، يقول فورد كان quot;تولاندquot; من أهم عناصر صناعة الفيلم، و قام بكل ما يستطيع، كنا نصور حتى الظلام حيث لاشئ امام الكاميرا، و كنت الح عليه اثناء التصوير المخاطرة في في عمل شئ مختلف في التصوير السينمائي، و هذا ما صار، quot; اما السيناريو الرائع كان على عهدة المخضرم quot;نونالي جونسونquot; 1897-1977، و على قرب منه كان quot;شتاينبكquot; كمشرف على هذا.
عناصر الفيلم الاساسية ربما كانت ثلاثة، اذا أستثنينا مؤلف الرواية، quot;جون فوردquot; الذي يفوز الاوسكار، و هنري فوندا الذي في هذا يحدد مسيرته السينمائية اللاحقة و مواقفه السياسية و الاجتماعية امام العنصرية ليصير واحدا من اشهر نجوم هوليوود في مناصرة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، و المصور quot;غريك تولاندquot; في أروع تصوير سينمائي حتى ذالك الحين، و طبعا لا ننسى دور quot;جين دارويلquot; المميز، فهي كما الام الشجاعة. تمتزج في نضال صعب. و تحصل على الاوسكار ايضا في دورها الثانوي..
اخيرا، هذا المقال هو نتيجة ملاحظات عديدة اعتدت كتابتها منذ سنوات طويلة كل مرة فيها أشاهد فيلما كلاسيكيا، و رأيت مناسبا تجميع ما كتبته عن فيلم quot;عناقيد الغضبquot;، فهو رغم مرور العديد من العقود على صناعته يعتبر اليوم اكثر معاصرة من العديد من الافلام التي انتجت في الفترة الاخيرة حول الازمة التي تعاني منها اوربا والعالم كله، و في اسبانيا بشكل خاص لانني كنت من اوائل ضحاياها، فيلم ملتزم، فيلم محترم، فيلم يستحق المشاهدة، كما يستحق المقارنة لان مزامير الرأسمالية القبيحة عادت العزف من جديد.