محمد الحمامصي من القاهرة: شغلت هموم وقضايا الحرب والسياسة عددا كبيرا من أفلام مهرجان أبوظبي السينمائي في دورته السادسة 2012، والتي كشفت عن أن العلاقة التي تجمع بين الحرب والسياسة تشكل مؤرقا أساسيا لفكر صناع السينما في العالم، فمجمل هذه الأفلام تناقش الآثار التي ترتبت على حروب قامت قديما أو حديثا، والدور الذي لعبته السياسة والساسة في إشعال هذه الحروب والأحداث التي أججتها، وكذا النتائج التي ترتبت عليها مجتمعيا وإنسانيا وثقافيا.
وعلى الرغم من أن السينما والسينمائيين منذ انطلاق هذا الفن العظيم السينما لم يتوقفوا عن معالجة أسباب الحرب ونتائجها والدور السياسي وراءها، استشعارا بخطر الأمر الذي يهدد الاستقرار الإنساني ويشوهه ويودي بحيات الملايين من البشر، لكن تظل الحرب وتظل السياسة كهوف عميق يصعب إضاءتها مرة واحدة، بل إنه إذا أضأت جزءا تولد آخر وبقيت آلاف الأجزاء تنتظر النور، كون كليهما يرتبطان بإشكاليات عميقة منها ما هو إنساني ومنها ما هو أيديولوجي ومنها ما ذاتي ومنها ما هو قومي وعقائدي وهلم جرا.
وقد عرضت في إطار مهرجان أبوظبي السينما هذا العام 2012 مجموعة من الأفلام التي تطرح رؤى وأفكار متباينة، جاءت من عدة بلدان غربية وعربية وآسيوية أيضا، لتؤكد أن هناك مؤرقا حقيقيا يجتاح العالم خوفا من نشوب حرب ـ أي حرب ـ سواء محلية أو إقليمية أو عالمية.

من استراليا تقدم المخرجة كيت شورتلاند فيلم quot;تقاليدquot; الذي يضعنا في الحرب بكل قسوتها وواقعها الصادم، الحرب بكل سوادها ووحولها رغم انتهائها، رغم مرور ستة عقود من الزمن، إن شورتلاند تدين وتحتج على منطق الحرب، فتأخذنا عبر رحلة معاناة لعائلة نازية، عشية سقوط النازية وانتحار هتلر في ربيع 1945، من خلال الفتاة المراهقة quot;لورquot; التي تُرك إخوتها الأربعة وأصغرهم الرضيع quot;يترquot; في عهدتها بعد اعتقال الأب وقرار الأم النازية المتعصبة الاستسلام، ورحلة هروبها المريرة للوصول من منزل العائلة الريفي إلى منزل الجدة في مدينة هامبورغ.
ويتقاطع مصير الفتاة المراهقة وإخوتها مع مصير الشاب الناجي من إحدى محارق الهولوكست، والذي يحاول مساعدتهم في رحلة هروبهم، إنه جحيم الحرب والساسة المهووسين بالموت والذي لا ينجو منه أحد.
إن شورتلاند في هذا الفيلم الرائع تدفع بالجحيم جحيم الحرب إلى الواجهة مذكرة ومنبهة ومحذرة من أن الثمن باهظ على المدى القريب والبعيد.

المخرجة البريطانية سالي بوتر تفتح فيلمها quot;جينجر وروزاquot; بمشهد انفجار القنبلة النووية في هيروشيما، وعلى الرغم من كونه مشهدا مكررا ومألوفا جداً، لكنّ حضوره في quot;جنجر وروزاquot; يبدو غاية في اللأهمية، ذلك أن الفيلم الذي تدور أحداثه في لندن عام 1962 ، في زمن الحرب الباردة وأزمة الصواريخ الكوبية، ووقوف العالم على حافة حرب نووية تهدّد بقاء البشرية نفسها، نابع من تلك اللحظة التي عاشت الإنسانية أهوالها، أي اللحظة التي استُعملت فيها بالفعل القنبلة النووية، لتعيش بعدئذ في رعب أو رهاب استعمالها مرة أخرى.
في فترة إلقاء قنبلة هيروشيما ولدت كل من جنجر وروزا في لندن على سريرين متجاورين، لتصبحا بعدئذ صديقتين مقربتين تبلغان سرّ المراهقة في عام1962 ، في ذروة الخوف من حرب نووية بين أمريكا والاتحاد السوفييتي سابقاً، معاً تبدأ الفتاتان باكتشاف الوجه المشرق في الحياة والصداقة والحب والموسيقى والمرح، وأيضاً الوجه القاتم منها: الخلافات العائلية، الكذب والخداع، خيبات الأمل، لكن وفي الوقت الذي تبحث فيه روزا عن الحب حصراً، فإن جنجر تصبح مهووسة بالقنبلة النووية وباحتمال فناء هذا العالم الذي تحبه، تصبح شاعرة وناشطة سياسية، قبل أن تكتشف أن العالم الذي تحمل همّ بقائه على كتفيها، يمكن أن يكون شديد القسوة، بل عديم المعنى أحياناً، خاصة حين تصطدم بنموذج أمّ مهزومة وأب مثالها الأعلى، مستعدّ لتبرير كلّ شيء، بما في ذلك تخليه عن دور الأب، تحت شعارات وجودية وأيديولوجية بائسة، لتجد في النهاية أنها وفي حين تدافع عن بقاء العالم الواسع، ربما تكون قد فقدت عالمها الخاص دون رجعة.
ويفضح المخرج الإيراني مسعود بخشي في فيلمه quot;عائلة محترمةquot; تأثيرات الحرب الإيرانية العراقية على المجتمع الإيراني وحالة الزيف التي اجتاحت السلطة والمجتمع في إيران أثناء الحرب وبعدها، حيث البيروقراطية الإدارية في إيران الراهنة، وشتى أشكال الفساد السياسي والمالي، والذاكرة المثقلة بويلات الحرب مع العراق، وطموحات جيل شاب وجد جميع أبواب التغيير موصدة في وجهه، ينسجها بخشي سردياً، من خلال شخصيات عائلة فسد أفرادها أو أفسدتها السلطة والحرب.
ففي عام 2009 يعود البروفسور أراش صافي المقيم في أوروبا منذ عشرين عاماً يعود إلى إيران كأستاذ زائر في إحدى الجامعات ليجد نفسه في مواجهة، ليس مع المؤسسة الدينية السلطوية فحسب، بل ماضيه الخاص الذي يتقاطع مع ماضي إيران القريب، بدءاً من الثورة الإسلامية، مروراً بحرب إيران مع العراق خلال الثمانينيات، وصولاً إلى إعادة انتخاب أحمدي نجاد.
تعود المخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر في فيلمها quot;لما شفتكquot; إلى عام حيث 1967 احتلت القوات الإسرائيلية قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء من مصر، والضفة الغربية والقدس الشرقية من الأردن، ومرتفعات الجولان من سوريا. وتدفق آلاف الفلسطينيين إلى الأردن، ومنهم من انفصل عن عائلته في فوضى الحرب. وبين أولئك طارق البالغ من العمر 11 ووالدته غيداء، اللذين ينتهي بهما الأمر في مخيم الحرير في الأردن، في حين يبقى الأب مختفياً.
إنها المأساة الفلسطينية التي لا تزال تحمل الكثير من الآلام للفلسطينيين والعرب، مأساة تمزق وتشتت 75 % من الشعب الفلسطيني يعيشون محرومين من العودة لديارهم.

نتائج الحرب التي لا تهدأ ضد فلسطين والفلسطينيين وصرخة تحذير يطلقها المخرج الدانماركي الفلسطيني مهدي فلفل في فيلمه quot;عالم ليس لناquot;، حيث دأب فلفل طوال سنوات العودة من مهجره الدانمركي إلى مسقط رأسه في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في لبنان، بحثاً عن تلك اللحظة الدافئة من طفولته ومراهقته، المفعمة بأجواء الحماسة والإثارة اللتين عاشهما خلال بطولة كأس العالم لكرة القدم عام 1982، من خلال زياراته المتكررة للمخيم وما احتفظ به من صور بكاميرا والده المنزلية التي اشتراها باكراً خلال عمله وإقامته في الخليج، رصد فليفل التغيرات التي طرأت على الأجيال الثلاثة التي ينتمي إلى أصغرها، خصوصاً عبر صديقه أبو أياد القيادي في إحدى المنظمات الفلسطينية، والذي كان مسكوناً في صغره بالأحلام المثالية عن الفدائي وتحرير فلسطين، والتي تحوّلت جميعها لموضوعات تندّر أصبح معها المخيم سجناً يملأه الضجر والإهمال والنفايات والشباب العاطلين عن العمل، وأكبر تلك الأجيال هو جيل الجدّ، ويتوسطهما جيل الشباب الذين قاتلوا في المخيم، ومنهم من استشهد مثل خاله الذي كان يعتبر رامبو المخيم .
في هذا الفيلم يقارب فلفل قضية اللاجئين الفلسطينيين مقاربة مختلفة، وشخصية جداً، حيث يلاحق فليفل شخصياته بشغف بالغ، راصداً ملامح وجوههم وتعبيرات ضجرهم وانفجارات شتائمهم وضحكهم، ولعل إحدى اللحظات المعبّرة عما يريد الفيلم قوله، بالإضافة إلى بؤس أوضاع ساكني المخيمات، هي اللحظة التي يتخلص فيها أبو إياد من البيانات الحزبية والكتب، كتخلصه من المُثل المتعلقة بالواقع الفلسطيني، محتفظاً بكتاب غسان كنفاني quot;عالم ليس لنا quot;.

وفي quot;العشاء الأخيرquot; يسقط المخرج الصيني لو شوان نعيش الأحداث التاريخية على الوضع السياسي المعاصر، حيث ندخل في صراع الاستيلاء على السلطة لنرى قضايا كونية من قبيل شهوة السلطة والتلاعب والولاء والمثالية والقدر إلى الحدّ الذي تزول فيها الحدود بين الأفكار السياسية المجردة والوقائع الحية، هذا الصراع الذي لا يعرف إلا الموت، وذلك من خلال قصة حرب ملحمية بين اثنين من سادة الحرب في الصين، هما الصديقان quot;ليوبنغ quot; و quot;شيانغ يوquot; اللذين يصبحان عدوين خلال سعيهما إلى الاستيلاء على السلطة في الصين في القرن الثالث قبل الميلاد، ومن خلال صراعهما لتسقط سلالة quot;شينquot; وتصعد quot;سلالة هانquot; في تلك الحقبة.
يقوم الفيلم على الواقعة التاريخية التي تعرف باسم quot;مأدبة الهونغمنquot; حيث حاول أحد الجنرالات
القضاء على منافسه الحاكم والاستيلاء على السلطة، لكن محاولته تبوء بالفشل ويتم إعلان الحرب عليه ويقتل.

ويحمل فيلم quot;الإمبراطورية الأمريكيةquot; للمخرجة باتريا باتريك إدانة واضحة للطريقة التي تتصرف بها القوة العظمى في العالم، فعلى امتداد خمس سنوات جالتquot; باتريا باتريكquot; وفريقها البلاد لكي تقوم بالأبحاث وتجمع آراء العلماء والمفكرين والكتاب، لتنتج تحليلاً مقلقاً عن الصلة غير المرئية إنما الحاسمة بين وول ستريت والشركات الكبرى والسياسة الأمريكية، ولا يحمل الفيلم هذا التحالف الخفي المسئولية عن ترنح الاقتصاد الأمريكي الذي تهيمن عليه منظومة من الديون والتضخم ويحكمه الأثرياء وفاحشي الثراء، بل هو يشير أيضاً إلى القوة التدميرية لمزيج المال والسياسة على البيئة والصحة وقيم الديمقراطية الأساسية. أو كما يقول أحد الخبراء: ليس تعريف مصطلح الإمبراطورية هو ما تغير، بل تعريف المواطن الأمريكي هو الذي تغير.
ويذهب بعض الخبراء إلى حدّ القول إن أمريكا، من خلال سيطرة نوازع الربح السريع عليها وامتلاكها القوة الكافية لقطع الإنترنت دفعة واحدة مثلاً، أصبحت بمثابة ديكتاتورية خفية. ويمضي فيلم باتريك أبعد من توجيه الاتهامات، بل إنه بمثابة رسالة شغوفة للمجتمعات الصغيرة داخل أمريكا، تتضمن حلولاً محلية وصديقة للبيئة ووسائل لخلق كوكب قابل للاستمرار لأولادنا وأحفادنا.