أنقى وأطهر حب في الدنيا
هو الحب المتبادل بين الفراشة والزهرة
وما عدا ذلك باطل الأباطيل... وقبض نزوات.
****
جالس على كرسي هزّاز
في أقصى جزيرة في العالم
في أجمل بقاع الأرض قاطبة
بين يديّ سفر الرؤيا
أحاول سبر أغوار ظلال كلمات الوحي والهذيان
غالبني النعاس
ومابين ألم الذاكرة ونشوة الحلم
رأيت في انعكاس مرآة الأمس طفلا يلهو مع أترابه الحفاة
في وحول إحدى القرى النابضة على ضفاف نهر الخابور
يصطاد فراشات الأحلام
يعدو مع الريح... يسابق ظل الشمس
يصل إلى بوابة دلمون... عند فم الأنهار
حيث تنام الخراف آمنة في حراسة الذئاب
ينسلّ إلى حجرة نوم أوتونابشتيم الملكية
يستلّ من تحت وسادته الرقيّة المقدسة
يقرأ بإمعان ألواح القدر
يشرب من النبع الذي تتدفق منه أسرار الآلهة
يتوشح برداء الأبدية
ويسير مزهوا في شارع الموكب
في مفرق شعره ريشة من جناح الأفعى
وعلى صدره نبتة الخلود
يحضر بدون استئذان زفاف تموز إلى عشتار
ويودع أريشگيگال في رحلتها الأبدية إلى العالم السفلي
يتبادل أنخاب الخمرة الإلهية مع كلكامش وأنكيدو
في حانة سيدوري
يقضي ليلته في مخدع البغي الطاهرة شمخة
ويعود في عربة العاصفة
مكسوا بريش الأنوناكي
طافحا بأريج الحضارات.
لما فتحت عينيّ
رأيت عجوزا يلهث فوق كرسي هزاز
في أقصى جزيرة في العالم
يلهو بمسبحة السنين
يخضل الدمع في مقلتيه
وهو يتذكر طفلا يلهو مع أترابه الحفاة
في وحول قرية منسية على ضفة نهر الخابور.
وبينما أمسح عينيّ براحة كفي
تراءت لي حمامة تتوهج بين الأغصان
مثلما تتوهج رسالة غرام في صندوق البريد
وسمعت صوتا كأنه ينزلق من شلال الغيب يهتف بي:
بما أن طريق المجد مفروشة بالأشواك
فينبغي أن تنتعل صندلا من نار.
بما أن السماء ضيقة وواطئة
فما عليك إلا أن تحلق في سماء ذاتك.
بما أن قبرك ليس على الأرض
لذا ينبغي عليك أن تصعد إليه.
بما أن نهر الخابور قد شحّت مياهه
فيتحتم على الأطفال أن يتعلموا السباحة في الهواء.
بما أن في أشجار حدائق بابل بقية حياة
فينبغي عليك أن تشدّ الفرات من قرنيه
وترغمه على تقبيل أقدامها.
بما أن الله يعيش وحيدا في السماء
فلا بد أنه بحاجة إلى رفيق يؤنسه
ويبدد وحشته.
وأردف الصوت الهادر من غيمة نار في الآفاق:
كانت وستظل نينوى سرّة الأرض
وبابل أيقونة السماء
وسيظل سيف البرق في يد آشور
يدوي صليله في الجهات الأربع.
وعلى حين غرّة
حملتني يد معشوشبة بالآيات
وعرجت بي إلى مجاهل السموات
وفي الطريق إلى مساكن الرسل والأنبياء
رأيت مالم يُر... ومالايُقال
ولدى وصولنا إلى السماء السابعة
كان الضباب من الكثافة
بحيث لم أستطع أن أرى أو ألمح أي شيء.
ثم عادت بي اليد السحرية إلى الأرض
وأنا أترنح بين الحقيقة والخيال
ووضعتني برفق فوق أعلى قمة في قوس قزح
وسمعت صوتا بدون كلمات يهمس لي:
هلم انظر نحو الغرب
نظرت
فرأيت أرغفة الخبز تنبت فوق سطوح المنازل
وينابيع خمور وأعسال تتدفق في جنائن
تمرح فيها شقراوات كأنهن عرائس المروج
وغلمان كأنهم رعاة النجوم
يعزفون ألحانا سحرية على أوتار الغيم
وأسراب من النحل والنمل
تجمع الغلال في صوامع الجبال
وتبني ناطحات سحاب
وتمد أسلاك الكهرباء إلى أقصى منزل في وهاد الليل
وتشيد سكك الحديد فوق البحار والمحيطات
وتحفر أقنية المياه في قعر وادي الموت
تحوّل الحجر إلى ذهب رنّان
ومن النفايات تصنع أكسير الحياة
تطهّر الأنجاس
و(تبرئ الأكمه والأبرص وتحيي الموتى)
وجميع الناس... رجالا ونساء
يرتدون قمصان الملائكة و سراويل الشياطين
يتسامرون
ويتنادمون في الحانات والمطاعم والمقاهي
وعلى شواطئ البحار
وهم يرقصون على أنغام النواقيس ترنّ في السحاب
يحقنون أوصال الصخور بماء الحياة
يمخرون عباب الكون في زوارق الرياح
وفي مركبات الآلهة
يمدون الجحيم بالأنوار من شلالات النار
ويزودونه بأجهزة التبريد ومكيفات الهواء
وبكل مالذّ وطاب من أصناف وألوان المرطبات
ويطعمون شجرة الزقوم بأشهى أنواع الفواكه والثمار
ويترددون على ملاهيه الليلية على صهوات جياد البرق.
ثم وشوش الصوت المجهول في أذني:
الفلاحة في الحجر
أهون بكثير من تحرير العقل المتحجر
والإنسان بحاجة إلى أن يتعلم كيف يفكر
أكثر من أن يتعلم كيف يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة.
ثم أردف قائلا:
هلم انظر نحو الشرق
نظرت
فما رأيت سوى صحراء مترامية الأطراف
ينعق فيها البوم
وتسرح فيها الذئاب والضباع وبنات آوى
وخياما منصوبة فوق كثبان الرمل
وغجرا يضربون بالرمل والدفوف
وسلالات مماليك يطحنون الهواء
وأعرابا يتلذذون بشواء لحم العصافير وهي تطير في الهواء
في أيديهم مسابيح مصنوعة من حلمات نهود العذارى
يدبكون في أول الليل حول ركوة القهوة المرّة
على إيقاع المهباج
وفي آخر الليل
يمتشقون السيوف ويتصايحون: يالثارات بني قحطان.
يختلفون على كل شيء
ولايتفقون إلا على وحدانية الله
يقضون النهار بتلاوة سورة النساء
وفي الليل يحلمون بنكاح بنات الملائكة
يستفتون أوليائهم فيما إذا كان لحم العنقاء حلالا أم حراما
في حين يعتاشون من الغنائم والأسلاب.
يتضورون جوعا
ومن حولهم تسرح قطعان الماشية والأنعام
ويسكنون بيوتا من قصب الزمهرير
وتحت أقدامهم آبار النفط ومناجم الذهب والحديد
حفاة عراة
وهم يعملون في مزارع القطن والصوف والحرير
يحملون أفكارا حلزونية
يطاردون أسراب القطا التي تلوح على شاشة الذاكرة
يفطرون على حليب الخرافات
ويتغدون على مرقة الأساطير
ويتعشون على الشاطر والمشطور ومابينهما
بطولات عنترة والزير وأبي زيد الهلالي.
يجترون الماضي
ينسجون حاضرهم ومستقبلهم على أنوال السلف الصالح
ويجمّدون العقول في ثلاجة ابن تيمية
تحرسها شرطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وينتظرون الولائم من السماء بعد كل صلاة.
ما أن تطأ أقدامهم عالما جميلا ومنظما
حتى يشيعون فيه الفوضى والدم والقاذورات
يحطمون الابتسامات على أفواه أطفالهم
يعلمونهم استعمال السلاح بعد الفطام
يدججونهم بكل أسلحة الحقد والدمار
يشوهون معالم براءتهم
يختنون أفكارهم ويخصون تطلعاتهم
ويحشون أدمغتهم بطحالب االصحراء
وصور علي بابا والأربعين حرامي.
يرددون كالببغاوات: (الجنة تحت أقدام الأمهات)
بينما الأمهات أشبه بصناديق قمامة تمشي على قدمين.
يحبذون السكن في قيعان الوديان
ويتقاعسون عن صعود الجبال
حيث تلوح طيور كولومبوس في الآفاق
حاملة في مناقيرها مصابيح العلم
التي تضيء مابين الأرض والسماء.
نشيدهم القومي: (اضرب لاترحم أعداءك)
وشعارهم: (لاتفكر... الله يدبّر).
مرضى
ويتداوون بالتمائم والأحجية
لايستطيعون قراءة الملاحم المنقوشة في الصخور
ولايفقهون من التاريخ سوى حرب داحس والغبراء
وغزوات الرسول الكريم
ومعركة الجمل
ورفع المصاحف على أسنة الرماح
وحكايات ألف ليلة وليلة
وفتح الأندلس... والليالي الملاح
وفسق يزيد بن معاوية
ومجون أبي نواس
وحريم سلاطين بني عثمان.
لملوكهم حصة الأسد في الذات الإلهية
ولورثة ملوكهم الأرض والعباد والأبجدية
أما الرئيس العتيد
فيسكن قصر الشعب
والشعب يسكن في الهواء الطلق
يقتات بروائح الشواء المنبعثة من مطابخ قصر الشعب
كل شيء مفقود لدى الشعب
إلا الخوف
يسكن تحت الجلود... وفي شغاف القلوب
ينتصب في كل مكان كتماثيل الرئيس الخالد
حتى الطيور قلقة على الدوام
وشاخصة بأبصارها في كل اتجاه
تحسبا لكل طارئ.
فمنذ دخولهم الحرب إلى جانب الله ضد الشيطان
وهم يدورون في حلقة مفرغة
في كهف الصقيع والظلام.
ثم همس الصوت البتول:
الدين كرة ملتهبة
يدحرجها الشيطان في فيافي الجهل
فتصلي العالم برمته نارا حامية
في حين يجلس الله القرفصاء
على قارعة السماء
يستجدي الفقراء.
وأردف الصوت الممزوج برحيق الألم والأمل:
انظر صوب العراق المضمّخ بالدم والنار
نظرت
فلم أر سوى شجرة باسقة يابسة
ولكن على الرغم من أنها ميتة
لكنها واقفة بشموخ تتحدى غوائل الأزمان والعصور
ينبعث منها شعاعا رائعا ومهيبا
وأطفال يستظلون بأغصانها الباهتة
يقرأون ملحمة التكوين على ضوء قنديل الشعر
وبين الحين والحين
يسقون جذورها اليانعة
الضاربة في عمق أعماق تراب مابين النهرين.
ولما نظرت إلى قمم جبال آشور
رأيت أسراب الغربان
تبني أعشاشها في عمامة الملا كريكار
وأرواح بدرخان بك وسيمكو الشيكاكي وبكر صدقي
تتسلق سلالم النار
وتتقمص أجسام كلاب مسعورة شاردة في الطرقات
تعوي في الليل في أرجاء السليمانية
فيتردد صدى عوائها في مهاباد وديار بكر والقامشلي
وفي النهار
تنبح على المارة في شوارع وأسواق أربيل.
ثم شاهدت الفينيق الآشوري
ينهض من بين ركام أطلال بابل
ويحط على سور نينوى
ويبسط جناحية على امتداد وادي الرافدين.
وفي ذات الوقت
رأيت الجواد العراقي الأصيل
ينهض من كبوته
ليسابق الريح إلى واحات المستقبل.
سدني ndash; استراليا
[email protected]
التعليقات