نـص طـويـل / الـجـزء الـثـانـي


3
هـامش:

نـافـذة مـحـاطـةٌ بـشـبـكـةٍ مـن الأسـئـلـةِ الـغـامـضـةِ تـطـلُ عـلـى فـنـاءِ الـدارِ، زجـاجـهـا
الـمـهـشـمُ يـجـزُ تـحـت أقـدام الـعـصـافـيـر. يـمـكـنُ لـلـمـرءِ أن يـجـلـس هـنـاكَ ويـتـأمـل
مـا يـجـري:
بـقـايـا دخـانٍ يـؤطـر الـمـشـهـد بـرمـادهِ، شـخـيـرُ كـمـان تـسـحـلُ أوتـارهُ الـبـلاد
مـن تـلابـيـبـهـا. امـرأةٌ تـحـثُ حـمـامـة مـيـتـة عـلـى الـطـيـران.
تـسـقـطُ مـن الـحـائـط صـورة الـعـائـلـةِ كـمـشـهـدٍ أخـيـر لإنـفـجـار مـفـاجـيءٍ يـؤثـث الـمكـانْ.

هـل سـيـكـسـرُ الـدويَ عـيـن يـدي الـزجـاجـيـة؟
هـل سـيـتـعـطـلُ مـركـب نـوحٍ ويـنـبـتُ فـوق مـجـاذيـفـهِ الـغـرق؟
انـهـضْ أيـهـا الـريـش الـمـتـسـاقـط وتـشـكـل دورة هـواء فـي
أجـنـحـةِ الـحـمـام.

تـولـدُ مـن رحـمٍ مـيـتٍ تـلـك الـنـبـتـة الـتـي اسـمـهـا أنـا. يـتـكـررُ
فـي صـوتـي الـنـداء، ويـنـكـشـفُ عـن بـكـاءٍ عـمـيـقْ.
يـنـكـشـفُ عـن جـسـدٍ تـكَـونَ فـي الـثـلـج مـن نـارِ الـحـروبْ.

لا أريـدُ أن أكـون ثـقـبـاً فـي عـجـلـة الـسـمـاء، أو قـشـة فـي مـاء الـخـلـيـقـة.
لا أريـدُ أن أدسَ الـخـديـعـة فـي جـيـبـكَ وأتـركـهـا تـتـعـفـنُ،
لا أريـدُ أن يـسـقـطَ سـقـفُ الـكـلـمـات عـلـيـكَ، أو أحشـوكَ بـثـقـوب
الـصـوت لـتـخـن حـنـجـرتـي أثـنـاء الـغـنـاء.
لا أريـدُ أن يـمـوت دوران الأرض فـي سـاعـة يـدي، ويـسـكـت
صـوت نـبـاح الـكـلاب ورائـي، ذلـك يـعـنـي أنـنـي ضـلـلـت الـطـريـقْ.

أرتـابُ مـمـن يـحـاول تـفـسـيـري ويـقـرأنـي بـالـمـقـلـوب،
لـذلـكَ، سـأخـتـصـرُ الـقـصـائـدَ كـلـهـا بـطَـرْقـة يـدي عـلـى الـبـابْ.

أبـحـثُ عـن كـلـمـاتٍ مـلائـمـةٍ تـقـالُ:
عـن يـدي الـمـرتـجـفـة الـتـي مـسـكـت الـتـراب فـصـار طـائـراً.
عـن قـصـيـدةٍ تـصـابُ بـالإغـمـاء كـلـمـا فـتـحـت عـيـنـيـهـا ورأتـنـي أحـرث الـهـواء وأزرعُ الـنـخـيـلْ.

يـمـر الـقـطـار ومـازالـت الأغـنـيـة عـالـقـة بـشـفـتـي.
مـازلـتُ أدحـرجُ حـجـارة الـوهـم وأركـضُ وراءهـا.
مـازلـتُ مـلـتـصـقـاً بـعـجـيـزة الـصـمـت كـمـثـل لـطـخـة حـبـر.
وأعـبـرُ رصـاصـة طـائـشـة فـي جـنـاحِ طـائـر.

هـامـش:
يـالـبـلاهـتـي.
كـلـمـا أعـبـرُ شـارعـاً، تـوهـمـت أنـنـي انـتـهـيـت مـن عـبـوركَ...
تـوهـمـت أنـنـي أخـرجـتـكَ مـن مـرآتـهـا، وأسـقـطـتـكَ مـن مـشـط شـعـرهـا الـطـويـلْ.
كـان عـلـيّ أن أدركَ أنـكَ خـدعـتـنـي.
أنـا الـذئـب الـمـضـيـئـة أسـنـانـي بـدم الـقـصـيـدة...

هـذا كـابـوسٌ عـصـيٌ عـلـى الـتـفـسـيـرِ، فـيـه الـطـيـران يـشـبـهُ الـسـقـوطْ.

لـو كـنـت مـنـتـبـهـاً مـا سـقـط الـمـفـتـاح مـن يـدي وأيـقـظ الـسـوادْ،
لـو كـنـت. لـكـان بـإمـكـانـي أن أدع الـعـصـا تـنـمـو بـرعـمـاً أخـضـر فـي قـمـيـصـي.
ولـكـنـت الآن أخـرجـت قـدم الـمـاء الـعـالـقـة مـن دغـل الـبـلادْ..

حـيـن اكـتـشـفـت يـدكَ ذهـبـاً مـزيـفـاً..
دفـعـت الـصـمـت أمـامـي وقـلـت لـهُ:
اسـبـقـنــي. ومـشـيـتُ خـلـفـه مـطـأطـأ الـرأسِ..

شـكـراً لـلـدهـشـة الـتـي أوقـفـتـنـي، لـولاهـا. مـا رأيـت أصابـع
الـتـمـاثـيـل تـتـسـلـل تـحـت ثـيـابـي، مـا رأيـت الـمـسـاء غـيـمـة مـن حـجـر.
شـكـراً لـدم الـوقـت الـمـتـجـمـد فـي سـاعـة الـبـيـت. لـلـيـد
الـعـالـقـة فـي تـلـويـحـة الـوداع. لـلألـم الـمـتـسـرب مـن شـقـوق الأبـواب. لـثـغـاء الـغـنـم الـذي أرشـدَ الـذئـاب.
سـأخـتـصـرُ الـمـشـهـدَ بـطـفـلٍ يـنـبـش الـنـفـايـا لـيـلـتـقـط شـظـايـا يـومـهُ..


4
صـمـتٌ أدردَ، شـارع أعـمـى، رجـلٌ يـتـغـوط، شـبـاكٌ تـتـطـايـر
مـنـهُ الـشـتـائـم، كـلـمـات مـتـقـاطـعـة فـي فـم امـرأة، أحـاولُ أن
أحـلـهـا فـيـنـكـسـرُ قـلـم الـرصـاص.
جـدتـي كـانـت تـخـافُ مـن الـشـبـاكِ، وحـيـن تـشـيـر الـيـه تـقـولُ:
هـذا ثـقـبٌ فـي جـدار الـبـيـت فـإردموه.
أهـذي والـحـمـى تـأكـلُ جـسـدي:
ضـيـقٌ ظـلـي، أريـدُ أن أوسـعـهُ لـيـسـتـوعـب الـصـدمـة...
أيـهـا الـقـلـق اخـتـصـرنـي قـهـوة مـرة فـي فـنـجـان شـفـتـيـكَ...

مـضـيـت، وتـركـت صـوتـكَ مـعـلـقـاً فـي مـشـجـب الـعـائـلـةِ،
يـحـفـرُ فـي حـائـط الـبـيـتِ عـشـاً ويـتـركُ بـصـمـات أصـابـعـه تـَقِـفُ
عـلـى بـيـضـةِ الـفـراغ.
لـمـاذا وضـعـت الـبـلـبـل فـي جـيـبـكَ وتـركـتـهُ يـغـنـي هـنـاك؟
كـنـا بـحـاجـةٍ لأن تـبـقـيـه.
أخـذتـهُ وظـلـت الـلـوحـة فـارغـة،
غـيـر أنـا نـسـمـعُ آخـر الـلـيـل صـوت مـنـقـاره يـحـفـرُ فـي الألـوان.
طـوال الـلـيـل. أحـرسُ صـوتـكَ الـمـعـلـق فـي مـشـجـبِ الـعـائـلـة،
أحـرسُ الـعـشَ، أخـافُ عـلـى بـصـمـاتِ أصـابـعُـكَ أن تـجـرحـهـا مـخـالـب الـبـومْ.

هـامـش:
مـاذا أصـنـعُ بـخـردةِ الأحـلامِ هـذه والـحـربُ تـطـبـطـبُ عـلـى ظـهـري؟
حـربـاً تـسـعُ هـذا الـهـواءُ الـقـتـيـلْ.
وعـلـى سـطـح الـدار يـحـطُ الـغـراب لـيـعـالـج بـيـضـة عـالـقـة فـي مـؤخـرتـهِ...

عـجـبـاً. كـيـف اسـتـطـعـت أن تـجـر وراءك هـذه الـغـيـمـة
الـمـلـيـئـة بـنـبـاح الـكـلابْ؟
سـيـبـلـغُ ظـلـي الـنـخـلـة ويـتـركـنـي تـحـتـهـا أرنـو الـيـهِ...
ردهُ إلـى الـمـرآةِ قـبـلَ أن يـجـفـفـهُ الـغـروب،
وقـبـل أن يـسـتـكـمـلَ غـبـار الـطـلـع دورتـهُ فـي دمـي...

تـعـودتُ قـبـل أن أنـامَ،
أدسُ تـحـت مـخـدتـي بـلـدي.
تـعـودتُ قـبـل أن أنـامَ،
أحـثُ الأسـدَ الـمـنـحـوت عـلـى بـوابـةِ بـابـل عـلـى الـوثـوبْ.

بـئـرٌ فـي جـرةٍ، كـلـمـا تـرفـع الـجـمـيـلـة الـغـطـاء عـنـهـا، يـرمـي
أخـوة آخـرون يـوسـفـهـم فـيـهـا.. ويـتـكـررُ يـعـقـوبَ فـي قـمـيـص
جـيـوبـه مـلـيـئـة بـالـذئـابْ.
لـسـتُ سـائـحـاً لأتـتـبـع آثـار الـبـلاد فـي الـخـرائـط، لـكـنـنـي أشـمُ
رائـحـتـهـا فـي فـنـجـان قـهـوتـي، وأنـشُ طـيـور الأقـاويـل عـن
نـافـذتـهـا.

مـن دونـمـا قـصـدٍ، أيـقـظَ صـريـر الـبـاب الـنـعـاسَ فـي رأسـي،
فـرأيـت أخـوتـي يـزرعـون الألـغـام فـي صـحـون الـعـائـلـة،
ويـؤثـثـون حـائـط الـبـيـتِ بـالـنـكـات.
كـنـتُ فـيـمـا يـشـبـه الـحـلـم، أتـقـلـبُ فـي رأس مـجـنـون يـذرعُ
الـشـوارع ويـسـحـبُ الـنـهـارَ وراءهُ...
يـعـبـرنـي الـمـارة وتـحـت قـمـصـانـهـم تـنـمـو الـطـواوويس.
يـنـبـحُ الـكـلـب وأنـا أتـقـلـبُ فـي رأس الـمـجـنـون،
يـنـبـحُ والـطـواوويـس تـضـحـكُ تـحـت قـمـصـانـهـم، تـضـحـكُ
الـمـرايـا بـسـوء نـيـة وتـكـشـفُ عـن فـم أدرد هـشـمـت أسـنـانـهُ الـذكـريـات.
أقـفُ عـلـى الـبـابِ وأُكـثـرُ مـن ظـنـونـي.
ألـوم أبـي الـذي صـنـعـهـا مـن خـشـب الـبـلاد وأطـعـم درفـتـيـهـا لـلـشـقـوق.

أيـا هـذه الـدمـعـة الـمـجـتـثـة مـن ضـحـكـةٍ تـسـعُ الـبـكـاء،
كـونـي أبـي حـتـى نـهـايـة الـطـريـقْ.
لا أريـدُ أن أدخـلَ يـدي فـي سـواد ثـوب أمـي، أخـافُ أن يـسـتـقـظ
الـخـوف فـي رأسـهـا.
أخـاف أن تـسـتـفـيـقَ الـفـتـنـة فـي سـريـرهـا ويـخـرج الـنـص عـن
الـتـأويـل.

أركـضُ والـحـجـر يـتـبـعـنـي مـن مـكـان لـمـكـان، وحـيـن أريـه
الـمـفـاتـيـحَ تـفـرُ مـن يـدي الأبـواب.
حـجـرٌ كـان أنـيـسـي، حـتـى كـدت أضـلُ الـطـريـق.

الـكـلاب تـنـبـحُ لـتـجرحَ الـنـعـاس، لـتـسـتـفـز أثـر يـدي الـمـاثـل
فـوق درفـة الـبـاب.
هـذه عـتـمـة تـزيـدُ الـحـجـر وحـشـة وتـخـبـط الـمـيـاه فـي دمـي،
أضـعُ يـداً عـلـى ذبـولـكَ، ويـدي الأخـرى أرسـلـهـا تـهـبـط الـسـلـم
لـتـتـخـلـص مـن جـثـتـكَ الـتـي شـاخـت فـي أصـابـعـي.
أتـركُ الـوقـت عـلـى شـسـاعـتـهِ عـصـفـوراً يـنـقـرُ الـشـبـاكَ ولا تـفـتـحـه...
هـكـذا يـتـسـخُ الـنـهـار بـأشـيـاءٍ لا أهـمـيـة لـهـا، بـحـبـر مـصـدور
يـدس الـسـعـال بـيـن الأوراق، بـصـوتٍ يـنـوء بـحـدبـتـهِ...
هـل أداخـتـكَ الـرؤيـا واخـتـلـطـت عـلـيـكَ رائـحـة الأيـادي فـي صـحـون الـعـائـلـة؟