(ألطرف) في المعجم هو ناحية ألأرض. والجمع (أطراف). وهي التي غالبا ما تتطرف عن المكان وتبتعد عن المركز. و(الطرف) هو ايضا الطائفة من الناس. و(أطراف) الرجل أخواله وأعمامه وكل قريب له محرم. وأخيرا (أطراف) القوم هم عظماؤهم وأشرافهم.
ولا غرابة بعد ذلك أن يلهج معظم البغادة بإسم (الطرف) ويفضلونه على إسم (المحلة) الذي كان معروفا أيضا على المستويين الشعبي والرسمي.

وكانت أطراف مدينة بغداد ومحلاتها تنتشر حول (سراي الحاكم) اي بناية (الصراي) الحالية ؛ قربا او بعدا عنه ؛ سواء كان عثمانيا او عربيا. فتجمعات الدور التي تسكنها الفئات الإجتماعية الراقية والمتوسطة تكون عادة قريبة من مقر الحاكم في بناية (القشلة) المطلة على نهر دجلة. وكان ألأسم ألأكثر تفضيلا لدى هؤلاء هو (المحلة). ونذكر على سبيل المثال: محلات (جديد حسن باشا والحيدرخانة والعاقولية والصابونچية والطوب ورأس الكنيسة والعلوازية). اما الفئات ما دون المتوسطة وفئات العمال والكسبة فكانوا يسكنون في ألدائرة ألأوسع حتى حدود أسوار مدينة بغداد القديمة ؛ بل وخارجها أيضا. مثال ذلك أطراف (صبابيغ ألآل والعوينة والعمّار وكمپ ألأرمن وباب الشيخ وعگد النصارى وبني سْعيد وقنبر علي وابو شبل والكبيسات وأبو سيفين وقاضي الحاجات والطاطران وفرج الله والخالدية والبو مفرج والشيخ عمر وعزات طوالات وفضوة قره شعبان والجوبة والمهدية والفضل والبارودية والسور). هذا في جانب (الرصافة). أما في الجانب ألآخر من النهر ؛ اي جانب (الكرخ) ؛ فكانوا ينتشرون على الشاطئ ؛ وقريبا منه. من ذلك أطراف (الكريمات والشواكة والسوگ الجديد وسوگ حمادة والست نفيسة والشيخ بشار والشيخ معروف والجعيفر والفحامة والدوريين والشيخ صندل والرحمانية وألأرضرملي وعلاوي الحلة). وكان هؤلاء جميعا يفضلون إسم (الطرف) على (المحلة) ؛ وخصوصا حين يتسامرون او يتحدثون فيما بينهم ؛ لما في ذلك من وقع تراثي وتقاليدي جميل في

اقرأ أيضا:
العامية البغدادية والحنين الى الأوطان
تقاليد الحمامات العموميـة وطقوسها في بغـداد ألأمس
البغداديون؛ كيف كانوا يستقبلون (آب أللهَّاب)

النفوس. وكانت هنالك أيضا (أطراف) ومحلات كبيرة خارج اسوار مدينة بغداد مثل ألأعظمية والكاظمية والگريعات والفحامة والراشدية والبتاويين والكرادتين. ولها جميعا سماتها وعاداتها ألإجتماعية ألمتميزة وتسكنها فئات متنوعة من الناس.
و(الطرف) وحدة إجتماعية متماسكة ومتكافلة تشد افرادها روابط العشيرة او القبيلة اوالجيرة الطويلة اوالمصاهرة. هذا فضلا عن دور المصالح وألأهداف الإنسانية المشتركة ؛ وفي مقدمتها الحفاظ على الروح الوطنية المتأججة التي جعلت من (الطرف) بذرة حية في تكوين المجتمع والدولة. ونحن لو تفحصنا أصول وقوميات وديانات ومذاهب كل (طرف) لوجدناها متنوعة ومتلونة بألوان الطيف العراقي الجميل. فهناك المسلم والمسيحي واليهودي والصابئي. وهناك العربي والكردي والتركماني. وهناك أيضا السني والشيعي ؛ وهما صفتان مستترتان لم یجرأ أحد على التنابز بهما علنا إلا بين البعض من المتخلفين من الناس. ويتحدث جميع هؤلاء اللغة العامية البغدادية الجميلة ؛ كلا بلهجته او بلكنته الخاصة. مثلهم كمثل مصابيح الزينة حين تنشر أضواءها المتلألئة والملونة في كل مكان. فكان الجميع يشاركون في المناسبات الوطنية وفي الأفراح وألأحزان من غير حرج او قيود. ولعلي أذكر هنا كيف كانت نسوة (طرف البوشبل) يصبغن ملابسهن وملابس أولادهن بالصبغ ألأسود قبيل (عاشوراء). ثم يهرع الجميع للمشاركة بإحتفالات العاشر من محرم في محلة الدهانة اوالصدرية للتفرج على (السبايات والتشابيه) التي تصف ماحدث للأمام الحسين وآل بيته من نكبات.
ولعل مما يشير الى تلاحم أبناء (الطرف) الواحد تلك الصور الجميلة حين كنا نذهب جمیعا لحضور (موكب العزاء) الذي تقيمه (نقابة السرّاجين) في (سوق السراي) ؛ أعوام ألأربعينات ؛ لنستمع الى الشيخ الوقور (كاظم آل نوح) وهو يتلو قصة الإمام الحسين وأحداث مفيدة وذات عبر ودروس من التأريخ. ولم يكن غريبا يومها أن يصحبنا شبان (يهود) من (الطرف) لحضور تلك المناسبة الدينية الغالية. او لحضور إحتفال جماهيري لإحياء تلك الذكرى العزيزة علينا جميعا ؛ حيث نستمع الى شعر وخطب من الشخصيات الوطنية المعروفة التي تشيد بثورة ألإمام (الحسين) وأهدافها النبيلة في إقامة حكم العدل والمساواة بين الموطنين.
ويتذكرآباؤنا وكبار السن من البغادة كيف كانت المظاهرات والإنتفاضات والوثبات تنطلق من (ألأطراف) لتغطي شوارع بغداد وهي تهتف للتحرر وللإستقلال وطرد المحتل ؛ تركياً كان أو إنكليزياً. وكان يتقدم المتظاهرين رؤساء ألأطراف وقادة المحلات ووجهاؤها ورجال الدين والشباب الواعي المتوثب وهم يحملون الرايات الخاصة وينقرون بالدفوف ويضربون بالطبول والدمامات التي تختلط أصواتها بزغاريد النسوة البغداديات ألأصيلات وبأهازيجهن و(هوساتهن) الحماسية المعبرة.
وكان أبناء (الطرف) الواحد يعيشون كأسرة واحدة على إختلاف منابتهم ودياناتهم ومذاهبهم. کما لم تکن هناك فروق صارخة بين غني وفقير او تاجر وأجير. والمعروف أن الخصال الجميلة المذكورة كانت تنتشر في (ألأطراف) المتنحية عن (الجادات) العامة او الفضوات ؛ وخصوصا تلك التي تشق مساكنها البسيطة (درابين) مغلقة وأزقة ضيقة قلما مر بها الغرباء من دون أن يلفتوا نظر أبناء (الطرف) ؛ وأحيانا شكوكهم ومخاوفهم.
وكثيرا ما تحدث مشاكل ومقالب مع هؤلاء الناس بسبب بيئة (الطرف) الإجتماعية المحافظة ؛ ونظرا لطبيعة ومهام ومهن الناس الذين تقودهم أقدامهم بالصدفة الى تلك (ألأطراف). وقد يختلف ما يتعرضون له تبعا للظروف. فـ (الپليص) و(آبو الویرگو) غير مرحب بهما لكن (السقا) يدخل الدار بالإستعانة بالله و(النحنحة). ولما كان هذا الموضوع واسعا ومتشعبا فسوف اقصره على بعض النماذج الطريفة اوالمؤلمة أحيانا ؛ مبتدئا بأؤلئك الذين يحملون صفات رسمية كجباة الرسوم البلدية (الويرگو) والشرطة (الپٍـُليصية) وألإنضباط العسكري (ألإنضباطية) ورجال ألأمن الذين يسمونهم بالجواسيس والذين كانوا أكثر تعرضا للمهانة من قبل شبان (الطرف) السياسيين او شقاواته. ولما كانت أكثرية سكان تلك (ألإطراف) من الفقراء والكادحين المعدمين فكان الحصول منهم على الرسوم آو ألأجور يعد نصرا مؤزرا للجابي المسكين. واول ما يطرق الباب تخرج اليه المرأة البغدادية التي عركتها حياة الضنك وتخشّب عودها الطري وهي تصرخ في وجهه: (يافتاح يارزاق ...إشرايدْ من الصُباحيّاتْ...!؟). وقبل ان يكمل كلمة (ويرگو) تدخل الدار وهي تدمدم: (اصْطبرْ لما أجيبْ لكْ الطاوة...!؟). فيلوذ الجابي البائس بالفرار. ومثل هذا المشهد كثيرا ما يتكرر مع سكان الدور ألأخرى. وإذا ما تجرأ الجابي وجلب معه (الپـُليص) للإستقواء به فيكون حظه كحظ الجابي المسكين.
وكنا نشاهد (ألأنضباطية) وهم يطاردون الهاربين من العسكرية (ألإفرارية) وأصوات الرصاص تلعلع في الجو. وإذا ما دخل (الإفرار) (الطرف) ودلف الى أحد الدور فإنه يختفي وكأنه (فص ملحْ وذابْ) نظرا لتراص الدور وبساطة بنائها. ولا فرق هنا بين ابن (الطرف) والشخص الغريب. فحق (الدخالة) حق محترم ومكفول للجميع. وكنا نشاهد هذا السلوك التقليدي القديم بأجلى صوره حين يحتمي (المتظاهرون) او (السياسيون) المطاردون بدور البغادة تخلصا من رجال ألأمن. وهيهات أن يتعقب هؤلاء الشخص المطارد حتى داخل الدار والإ تعرضوا الى الصد بقوة وربما ألى ألإهانات.
وليس ببعيد ان تحدث أحيانا معركة حقيقية بينهم. فكثيرا ما شاهدنا (الإفرار) وهو يطلق الرصاص على (ألإنضِباطية) من (وروره) او يقذفهم بالحجارة من فوق السطح. وأحيانا يدفع بـالستارة أو (التيغة) المتهالكة عليهم.
ولم يكن من المألوف ان يقتحم (الإنضباطية) المساكن لمطاردة (الإفرارية) ما لم يكن لديهم أمر حكومي بذلك ؛ وبوجود المختار. مما يشير الى أحد أبرز معالم نظام الحكم في العهد ألأهلي او الوطني ؛ وهو المتعلق بسيادة القانون وأحترامه من قبل أجهزة الحكومة قبل المواطنين.
ولعلي أذكر هنا بعض المشاهد الطريفة عن الحقد الدفين الذي كان يضمره سكان (ألأطراف) نحو رجال ألأمن ؛ أي الجواسيس ؛ سواء في العهد التركي او الوطني. فلم يكن من اليسير يومذاك تجنيد أحد أبناء (الطرف) ليتجسس عليهم. فهو عار ما بعده عار. وكان الجاسوس المشتبه به إذا قصد (گهوة الطرف) مثلا فأن جميع روادها يديرون رؤوسهم نحوه وهم يرمقونه بسهام نظراتهم الحاقدة. وقد يتعمد (الچايچي) إهماله ليجد نفسه وحيدا ومنبوذا ؛ فيترك (الگهوة) وهو يردد مع نفسه: (خلي أمشي .....گبل مَتثخنْ). أما أذا تجرأ أحد المشتبه بهم من الجواسيس ودخل أحد أزقة (الطرف) ؛ فقد يخرج منه وقد شوهت معالم وجهه وفقد بعض أسنانه من (الكلات). و(الكلّة) لمن لم يسمع بها هو نطح وجه الخصم بالرأس !.
وقد أذكر مثالا أكثر طرافة وحذقا مما يدل على تضامن جميع أبناء (الطرف) مع الشبان السياسيين والوطنيين. فقد رأيت ؛ وفي عدد من الحالات ؛ فريقا من رجال ألأمن وهم يأتون الى دار (المختار) مساء ومعهم أمر حكومي بتفتيش أحد الدور آولإلقاء القبض على شاب معروف من المشتغلين بالسياسة أو بالشأن الوطني. وهنا يبدأ (المختار) ؛ وهو شخصية محترمة ومهابة ؛ بإلهائهم لبضع دقائق ؛ لكي يلتقط أحد أبنائه او أحفاده الصغار ألإشارة المدرب عليها ليتسلل من الدار خلسة وينطلق كالسهم الى دار ذلك الشاب لتحذيره. وليجد بعد ذلك رجال ألأمن: (إيديهُمْ والگاعْ !).
أما المستطرقون الغرباء وممن تبدو عليهم علامات ألإرتباك والضياع ؛ فقد يتعرضون للمساءلة من قبل أبناء (الطرف) ؛ وخصوصا من (النسوان العجايز) ؛ ولكن بكل لطف: (أشو تعال هنا..... إنتَ إلمنْ رايدْ..!؟). وعلى الشخص ان يكون بشوشا ولبقا ؛ فيختار جوابا مقنعا ؛ وإلا تعرض الى ما لا يسره. وألإجابة ألأكثر شيوعا يومها كانت: (والله ؛ آني متيِّه...!؟). حينذ يرشدونه إلى مخرج الزقاق وهم يراقبونه حتى يختفي عن أنظارهم. اما إذا كان شابا مرتبكا وتبدو عليه مظاهر الزينة المفرطة: (عرقچين) جديد تتدلى على جانبيه (الگذلة) ؛ او (چراوية عدام او عصفورية) ؛ و(صاية بتّة) و(زخمة) او(دميري) وأحيانا معه سترة ؛ وينتعل (قندرة روغان او گلاصي)، وقد سكب على بدنه (شيشة ريحة ماركة بنت السودان). وهذه كلها توحي بأنه إما أن يكون من (الصُرمْپارية - محبي النساء) او من (القرُمْپارية - محبي الغلمان). فيكون موقفه حينئذ كموقف فأر مسكين في مواجهة هرّ جائع. وفي الحال يتجمع عليه أهل (الطرف) لتنهال عليه ألأسئلة عليه كالمطارق: (تعال وْلكْ سرسري....عليمن جايْ !؟). وأترك الى خيالكم الخصب ليكوّن الصورة التي سيخرج بها هذا الشاب التعس الحظ. وسوف يكون محظوظا لو خرج من (الطرف) وهو محتفظ بـ (دشداشته) او (تواليته) و(گذلته) (!).
ولم تكن تلك الصور السلبية هي الوحيدة التي كانت تطبع سلوك أبناء (ألأطراف) البغدادية القديمة. فعلى الرغم من قلتها فإن أثرها في النفوس يكون عادة مؤثرا وشائعا. لكن العادات الجميلة والتقاليد الحسنة هي التي كانت سائدة في تلك المجتمعات. وهي تقاليد الحمية والغيرة والتعاون والتكافل والتراحم ما بين أبناء (الطرف). وفي مقدمتها حب التراب العراقي الذي لا يعلو عليه شئ.
فالناس في (الطرف) البغدادي القديم يعيشون أسرة واحدة ويتقاسمون رغيف الخبز فيما بينهم. ومتى ما حدثت مشاكل إجتماعية بين الأفراد او العوائل فأن فضها وتسوية ألإمر يكون من واجب (الشخصیات الدينية) و(إمام الجامع) و(المختار) ووجهاء (الطرف) و(ختياريته). وقلما ترفع القضية الى الشرطة او المحاكم. فقد كان للكلمة او للوعد قوة القانون. وعلى الجميع قبول نتائج التحكيم التي تتسم بالمرونة والعدل. وكثيرا ما يتحمل ألأغنياء التسويات المالية. وهي في الغالب مبالغ بسيطة.
والحياة اليومية في (الطرف) حياة بسيطة وجميلة. ذلك ان متطلباتها كانت متواضعة. فما أن يبزغ الفجر حتى ترى ألأجَراء والصنائعية ؛ وخصوصا (العمّالة) الذين يعملون في البناء ؛ يتوجهون الى أعمالهم كمجموعات ؛ مشيا على ألأقدام ؛ إلا ما ندر؛ حيث يستأكريئون (عربانة الربل) ؛ وهم يتضاحكون ويعمهم البشر لإستقبال يوم جديد ورزق جديد. اما ألنسوة فينتظرن إرتفاع الشمس ليتوجهن الى السوق لشراء إحتياجات المنزل. وكثيرا ما تحدث منغصات حين يطرقن الباب على إحداهن فتعتذر عن مصاحبتهن لضيق ذات اليد: (والله عيوني - فخرية - تعرفين ابو الولِدْ صارْ له مُدة بَطال و...). وقبل أن تكمل العبارة يأتي الجواب في الحال: (أشو گومي أخذي علاّگتچ....عيب عليچ تحچيها. إحنا أهلْ). وما أن يعدن من (السوگ) حتى توقد النار في مواقد الحطب او (الجلة) وفی (الچُولات) ؛ وتبدأ (الپريمزات) في إطلاق أصواتها الهادرة لإعداد الطعام للرجال قبيل عودتهم من العمل الشاق وبعد غروب الشمس. وليس جميع الرجال يتوجهون مباشرة الى المنزل. فبعضهم يمر على (المَيْخانة) لإحتساء (ربعية العرگ) المعتادة وليشتري (ربعية) ثانية (ليكسرْ خْماريّة) في صباح اليوم التالي. وبعد أن ينتهي من الشرب يحاول ان يقف على قدميه ليتجه نحو الدار. وهنا يجد زوجته الصابرة وأطفاله بإنتظاره عند (باب الحوش) وهم يرددون: (جا بابا...جا بابا).
ومن أجمل تقاليد (الطرف) حين نشاهد النسوة وقد تجمعن عند أبواب الدور او في (المجاز) عصر كل يوم ليتناولن (إستكان الچاي) ويأكلن (الكليچة) او (يكرزن الحَّب) ؛ ويتبادلن ألأحاديث الخاصة والعامة ؛ حيث تتكرر العبارة المألوفة: (أحچي المعزوزة عيني أم ستار.... ولتهوُن أم برهوم وآم یعگوب). وبين الحين وألآخر تعيد المتحدثة العبارة المألوفة (أويْ... نسّيتوني إشْ چنتْ دا أحچي !). لكثرة المواضيع المطروقة وتشعبها ؛ وأحيانا (القشب). وما أن تغيب الشمس حتى تدخل كل منهن الدار لإعداد وجبة العشاء لأزواجهن ولأفراد ألأسرة بكافة. وهنا نلاحظ روح التكافل الإجتماعي بأبهى صوره. فهذه (أم ستار) تدعو طفلها لأيصال (ماعون كبة الحامض) قائلة: (هاكْ وليدي ودّي الطُعمة لُمْ عبود...خطية هذي مرة مگطوعة). وتلك (ام برهوم) تحمل بنفسها صينية ألأكل الصغيرة الى دار (سالم أفندي) ألأرمل. ونرى (أم رزاق) تبعث بأبنتها الى دار (أم فلاح) لطلب (ترْكة ملح). وهنا تنتهز(الإبنة) الفرصة لتمر على بيت (إسحاق) لتأخذ حصتها من (السمبوسك) اللذيذ. فتبادل الطعام أو (الطُعْمة) إذاً تقليد بغدادي عريق ؛ الهدف منه الحفاظ على روح ألأسرة والجماعة وإطعام المحروم ؛ وكذلك تنويع السُّفرة. فالدار التي يطبخ أصحابها (التمن والمَرگ) فقط يجدون على سُفرتهم عدة أنواع من ألطبيخ والحلوى. وتزداد تلك الفعاليات الجميلة في شهر رمضان المبارك وأيام ألأعياد.


ولعل من أكثر أوجه التعاون والتكافل قيام أصحاب المهن والصنائع بإصلاح ألأعطال في الدور. فقبل حلول الشتاء وموسم الأمطار مثلا (ترشگ) السطوح بالطين المخمر الذي يتعاون على (جبنه وتخميره) (عمّالة الطرف) وأمام الدور. وكثيرا ما يسقط في (الطينة) السكارى حين عودتهم من (الميخانات) عند حلول الظلام. فتطير (نشعة) السكران حين تستقبله زوجته بالشتائم وبالنعال (!). أما أدوات وعدد المنزل ؛ وهي غالبا ما تكون متواضعة مثل (الپريمز) و(لمپة النفط - الچُولة) و(اللآلة) او (ألأويزة) و(الفانوص) و(مكينة الخياط) و(عُكّة الدهن) ولوازم المطبخ ألأخرى. والجميع يتعاونون على إصلاح أعطالها. او أن يستعينوا بالمصلحين الدوارين مثل (چراخ السچاچين) و(خياط الفرفوري) و(الندّاف). اويتخلصون منها ببيعها إلى (ابو البيع او العتيگ).
أما إحياء المناسبات الإجتماعية مثل (مولود النبي) و(زكريا) و(المحيا) و(الحج) و(الطهور) والزواج) وختم القرآن عند الملا والنجاح في المدرسة والتسريح من الجيش او من (الحبس) فقد أولتها (ألأطراف) أهمية خاصة لكي يستمتعوا بها في بيئة محافظة ومنغلقة ؛ حيث نجد وسائل اللهو البريئة والأفراح فيها محدودة.
أما أكبر تلك المناسبات فهي الزواج ؛ حيث تنصب (ألإسكمليات) في (الفضوة) قرب الدار. وعادة ما يشترك الجميع في إنجاح الحفل الذي إما أن يكون (گعدة عائلية خاصة) او (دومة) او (مولود) او (حفلة مقامات عراقية) يحييها الجالغي البغدادي الذي يتكون من اشهر العازفين اليهود الذين كانوا (برنجي) في العزف على السنطور والجوزة والدف والطبلة. وتبدأ فعاليات (الدومة) بالمربعات والبستات وبعزف الفرقة الموسيقية الشعبية. وأحيانا نرى (الشعّار) وهو يرقص على ألأنغام وتصفيق الحضور. حيث تعلو أصوات الفتيان اليافعين بين زغاريد النسوة من (الحديثات) اللواتي يتطلعن الى مستقبل زاهر وإلى بيت الزوجية السعيد. ولم يكن ألإختلاط المتواصل للفتيان بالفتيات ممكنا يومئذ. لكننا كنا نشاهد الفتيان وعيونهم مسمّرة نحو السطوح المحيطة بالحفل ؛ كلٌ يبحث عن محبوبته (ألإفتراضية) وسط الظلام ؛ عله يحظى بحركة من يد او من خفقة سريعة من (چفية) بلون معين !.
أما (المولود) او(حفلة المقام) فقد كانت ألإختيار المفضل لدى ألأسر الوجيهة. وغالبا ما تقام في دار الوجيه الواسعة. ويبدأ (المولود) عادة بألإفتتاحية التي يؤديها المقرئ او (الملا) ؛ وليوصلها ببعض المقامات الشجية. ثم يأخذ الدور (الرُّواديد) الذين يقودهم (الخلفة). بعد ذلك يأتي دور مقرئ المقامات ليكمل الفصل المقامي الذي بدأه (الملا). وقد ينتقل الى مقام آخر. ويعد الفريق الذي يتألف من الفنان (الكبير (محمد الگبنچي) والملا مهدي البصير) او الملا (عبد الفتاح معروف) من أشهرها لكون الشخصيات الثلاث يعدون من أساطين المقام العراقي. اما (حفلة المقام العراقي) فكان يحييها عادة قارئ واحد بمصاحبة (الچالغي البغدادي) العتيد.
ومما كان يميز حياة (الطرف) أيضا تنوع مهن وصنايع وخبرات سكانه. لا فرق بين رجل وإمرأة. فالجميع يعملون او يؤدون خدماتهم إلى أبناء (الطرف). فدار يختص بصنع (الجگاير المزبنة) ودار يصنع (الدبس) وهم (البزّارة)، وآخر يصنع (الطرشي) او (الكبة) او (الباجلا). وفلانة تعمل (خيّاطة) او تحيك (ليف الحمّام) ؛ وفلان مصلح ألأسلحة وهو (الجخمخچي). وقد إختص اليهود بـ (البزازة) و(العِطارة ومعالجة المرضى) و(منح القروض) و(الغزِل) وهم (الفتالون) و(مبادلة السلع) وصنع (الدنابك) و(الدوندرمة او البوز). أما النصارى ؛ وخصوصا ألأرمن ؛ فقد تخصصوا بإصلاح ألآلات الدقيقة. وأكثر ما كان ابن (الطرف) بحاجة إليه هو (العلاج) حين يصاب بعارض مفاجئ او يبتلى بمرض شديد. فهو قلما يلتجئ الى (قصطخانة المجيدية) او الطبيب إلا بعد ان يجرب كل إمكانيات الطب الشعبي أويشارف على الموت. وهو ما سنفصل فيه قليلا.
وكان من أجمل مظاهر التعاون والتكافل بين نساء (الطرف) تبادل إيداع ألأطفال عند غياب ألأمهات وإرضاعهم عند الحاجة. وتشترك جميع النسوة بذلك بغض النظر عن إختلاف دياناتهن. وكان للنساء أيضا دور رئيس في ممارسة الوسائل الشعبية في العلاج . فمن تدخل في عينه ذرة من نشارة خشب او من التراب او (پليزة) من معدن فعليه ان يتوجه إلى (حجية سْعودْ) التي أول ما تقوم به أن تمسك برأس المصاب فتدخل لسانها في عينه المصابة حتى تلتقط الذرة بلمح البصر. فتريها اليه ليطمئن قلبه. و(حجية سعود) مختصة ايضا بعلاج اللوزتين (البلاعيم). حيث تأتي المريض من الخلف فتبدأ بتدليك اللوزتين مع الضغط إلى أعلى. ثم تكرر العملية لعدة أيام ؛ وتربط فكه بعصابة حتى يشفى تماما. وكل ما تقوم به (الحجية) او غيرها هو صدقة جارية في سبيل الله. أما الحالات التي يتعرض فيها الأطفال الى حالات من القلق وألآلام المجهولة التي تؤدي الى البكاء المستمر فنرى ألأهل يأخذونه الى (إبن ملا جواد). وهو رجل تقی ومن ألأخيار الذين يأخذون بالطب النبوي والطب الشعبي. وبفراسته المعهودة يمكنه أن يميز بين المريض التقليدي وبين المصاب بعرض نفساني عابر (الفزة). وهنا يكتب له (رقية) ويصف له بعض ألأعشاب كـ (الورد ماوي) و(الينسون) و(البابونگ) ودهن الخروع. ثم يطلب من ألأهل ان يصبوا (الرصاص) فوق رأس الطفل لمعرفة خطورة ألأرواح الشريرة التي تلبسته. وتتم العملية بأن يقوم ألأهل بصهر كمية من الرصاص وسكبها بسرعة في إناء ملئ بالماء يوضع فوق رأس الطفل ليتصلب فجأة. ثم يأتي هنا دور تشخيص شدة ألإصابة من عدد البروزات (الشناديخ) في كتلة الرصاص. اما آلصداع وآلآم الرأس فعلاجها عند الشيخ (السيد محمد) ذي الطلعة البهية ليقرأ على رأس المريض آيات من القرآن الكريم ويسقيه شربة ماء قرأ عليها آية الكرسي. او قد يقترح ان يذهب المريض الى (حجية مريم) خبيرة (الحجامة) لتحجم له. أما أوجاع ألأسنان فمكانها دكان الحلاق (عبود) الذي هو (الزعرتي) اي (الختّان) في ذات الوقت. وكان له أسلوبه الساحر في إقناع الصبية الكبار بتسليم أنفسهم الى مشرطه وقِرّاصته. وكثيرا ما تحصل مفارقات طريفة هنا حين يكتشف الصبي بأنه معرض لعملية ختان ؛ وهي عملية مزعجة وموجعة ؛ فتراه يطلق ساقيه للريح كالسهم نحو الشارع والكل يطارده للإمساك به. حتى يجلب مكتفاً من منطقة (الشيخ عمر) الى داره في (آبو شبل) (!) وهو يتوسل ان يتركوه وشأنه. ولفقر الدم علاجه عند (الصْلِبة) المعروفين حيث يقوم هذا بكي أحد الأوردة (العروق او (الدمارات) في ظهر كف الشاكي بواسطة (العِطّابة). وتسمى هذه العملية (التخويف). وما زالت آثار الكي ظاهرة في كف (الكاتب) حتى اليوم. اما من تحصل له كسور فيهرع الى المجبر الحاذق (الحاج أحمد) في باب الشيخ - محلة (الكُرِد) لتجبير كسوره. ولمعالجة القيلة المائية او الفتق أساليب تبعث على التقزز وألألم. وهنا يتم كيها بـ (السيخ) المعدني الساخن والمريض يصرخ ويتوسل ان يرحموه. ومثل تلك البشاعات تحصل أيضا لإخراج (الجن) من رأس المريض المسكين المصاب بمرض عقلي وهو يتعرض الى الضرب المبرح بالعصا من قبل الشيخ او السيد ؛ وفي جو يسوده الرعب والترقب ؛ ووسط ألإبتهالات الزائفة. وترى المريض هنا وقد فقد القدرة حتى على الشكوى والبكاء. وكثير من الإصابات العابرة يتم علاجها من قبل ألسكان أنفسهم. فمن يتعرض للرضوض يعالج بأن يوضع على المكان المصاب (فطيراية) ساخنة ؛ وهي عجينة تقلى بالزيت. وتعالج الدمامل المتقيحة بتغطيتها بعجينة (الحب دِبجْ) او (البلنگو) التی تعد بالمضغ. وتأثير هاتين العجينتين سريع وفعال. أما طرد الغازات التي يعاني منها ألأطفال الرضع فيتم بإعطاء الطفل (السفوف) وهي خلطة من ألأعشاب العطرية الطاردة للريح. وتستخرج الحشرات من ألأذن بتقطير الزيت الدافئ فيها. ويعالج المصدور او المسلول بأكل سمك (الجرّي) والتفسح في الهواء الطلق. أما الأقرع فيطلى رأسه بالزفت او النفط ألأسود. اما لسعة الزنبور او العقرب فينفع لها النفط الأبيض ؛ أو بوضع حجر خاص (ربما حجر السليماني) وقراءة التعاويذ. وللزكام و(النشلة) يوصف شم البصل والثوم وأكله. او شم بخار (اليوكالبتوس) والنعناع. أما في حالة الضعف الجنسي عند الشباب فعلاجه عند (الشيخ) او (السيد) ؛ او يؤخذ عادة الى أحد ألأضرحة لربطه الى القفص ليفك الولي (رباطه) ويبطل السحر او (العمل) المعمول له. وللعلم القول بأن الحديث عن الطب الشعبي الذي كان منتشرا بين سكنة (أطراف) بغداد حديث طويل وشائق....لكنه أيضا ملئ بألآلام وألأحزان.
اما في حالة المرض الشديد فعادة ما ينقل المريض الى (قصطخانة المجيدية) او الى الطبيب ألأهلي. وكان من اشهر ألأطباء يومئذ في منطقة الشورجة وما حولها من (أطراف) هو الطبيب اليهودي (نور الله) ؛ يعاونه ابنه الطبيب الشاب (موسى نور الله). وكان يعالج بالأسلوبين الحديث والشعبي. وكانت أجوره رمزية تتناسب وإمكانيات الناس البسطاء. وفي حالات الإصابات الشديدة في العين فعادة ما يهرع سكان بغداد الى (المجيدية) او الى المستشفى ألأهلي المختص يومذاك وهو مستشفى (ريمة خضوري) في محلة (تحت التكية) قرب (قنبر علي) ؛ حيث يجدون الرعاية الطبية الفائقة والعناية ألإنسانية بأحسن وأجمل صورها ؛ قبل ان يُبتلىَ الناس بوباء (السياسة) الفتاك الذي جلب آفة الغلو والتمييز القومي والديني والمذهبي ؛ وأشاع الظلم والقهر والتشرد للمواطنين ألأبرياء ؛ أيا كانت مواطنهم ؛ بعد ان عاشوا فيها آلآف السنين اخوة وأحبة وأصهارا ؛ وفي عالم جميل ورحب يسع الجميع.


وقبل ان نختتم مقالتنا ينبغي إعطاء صورة خاطفة عن جانب مهم كان يمييز حياة (ألأطراف) في بغداد ؛ العاصمة ألأزلية للعراق العتيد وهو دور المقاهي وأثرها في حياة البغادة. فقد كانت (الگهوة) وبخاصة (گهوة الطرف) المنتدى الذي يحتضن أبناء الطرف جميعا. فكان يرتادها نهارا كبار السن والعاطلون عن العمل والشبان البالغون أيام العطل الرسمية. اما مساء فهي تعج بالرواد. فترى كل فئة تنتحي ركنا لها. فالوجهاء والتجار وأصحاب ألأملاك لهم (خانتهم) المميزة. والشباب لهم (خانتهم) أيضا. وكانت جميع الإجتماعات الحزبية تتم في (الگهوة). فتجد هنا مثلا إجتماعات الشيوعيين واليساريين عموما وبالقرب منهم (القوميون ألإستقلاليون) وإلى جانبهم (الوطنيون الديموقراطيون). ولا بد من القول بأن كل فريق سياسي كان يضم بينهم شبانا من جميع القوميات والديانات والطبقات ألإجتماعية. وبالرغم من ألإختلاف الفكري والسياسي بينهم لم يصادف ان حصل شجار شديد بينهم أثناء المناقشات الحامية. وإذا ما إرتفع صوت أحدهم فسرعان ما يلوذ بالسكوت حين يخزره أحد وجهاء (الطرف). ولم يكن غريبا أبدا ان تشارك كل فرقة في الإجتماعات والإحتفالات الحزبية
الكبرى للفرقة الأخرى. فقد كانت الحياة سلسة وجميلة بحق رغم ضيق مسالك الحياة. وتتم في (الگهوة) عادة مناقشة المسائل والمشاكل العامة وعقد الصفقات التجارية والمالية وإجراء التسويات المختلفة. وبين هذه وتلك يتم تبادل النكات والطُرف والمقالب ألأخوانية. او ألإنصات الى دندنات زميل لإيضاح مقام او بستة او مربع او عتابة او أبوذية. وبين الحين وألآخر نسمع صوت صاحب المقهى وهو ينادي: (تعال أخُذْ تِتن من عمكْ أبو محمد). ويأتيه الجواب فورا ((جاكْ). ويشنف المكان صوت (الحاكي) ابو (القوان) أي (الغراموفون) وهو يصدح بصوت (رشيد القندرچي) او (محمد الگبنچي) او (سليمة باشا) ؛ قبل ظهور (الراديو) ؛ حيث كان الناس ينتظرون وبلهفة شديدة الفنان (عزيز علي) او قارئ القرأن الشهير (الحافظ خليل إسماعيل) او نشرة ألأخبار يتلوها (ناظم پطرس) او (محمد علي كريم) او (سليم المعروف) او (محمود المعروف) او (مشتاق طالب).
وفي الختام ؛ لابد من التذكير بأن (أطراف) بغداد بخاصة و(اطراف) العراق بعامة قد أنجبت الكثير من الرموز الوطنية ومن العلماء والمهندسين وألأدباء والفنانين والصحفيين وألأسطوات المقتدرين. فقد تمت صناعتهم في تلك البيوت المتواضعة والدكاكين الصغيرة ؛ وتسللوا من (درابينها) الضيقة ؛ وأستضاؤا بالشموع و(اللالات) وأعتاشوا على الخبز القفار أياما طويلة. لكنهم كانوا سعداء بإنتظار ألأمل ألباسم والمستقبل الزاهر.
لقد كان عراقا حلوا وجميلا وباهرا وعروسته بغداد أحلى وأجمل ؛ وأكثر بهاء وإشراقا.

أكاديمي عراقي مغترب

[email protected]