بغداد: تحرر المثقف العراقي من العديد من المنغصات التي كانت تلازمه، لكنه وقع في منغصات أخرى أسهمت في أن ينظر الى الامور بشيء من الاحباط والسوداوية، لاسيما عدم انتباه السياسيين الى الثقافة واعارتها اهمية ترفع من شأنها في المجتمع.
على الرغم من مرور عشر سنوات على التغيير الكبير الذي حدث في العراق الا أن المثقف العراقيلا يزال يرى أن احواله ليست على ما يرام، مع اعترافه بوجود ايجابيات عديدة، فهو ينظر الى اشياء كثيرة كان يتمنى أن تحدث خلال هذه السنوات لكن السلطة لم تلتفت اليها، فيما هي من اعمدة متطلبات الثقافة العراقية والمثقف الذي عانى الكثير خلال المرحلة السابقة، لذلك اشار عدد من المثقفين الذين استطلعنا آراءهم الى جملة من السلبيات التي رافقت السنوات، مؤكدين أنهم اصيبوا بخيبة امل بسبب أن التغيير الثقافي لم يتم.
فقد امتدح الكاتب احمد سعداوي الابداع الشخصي للمثقفين، لكنّه اشار الى البنية التحتية ووصفها بالخمول فقال: على مستوى نشاط الأفراد انفتح المبدع العراقي على العالم بشكل ملحوظ، مقارنة بفترة العقوبات الاقتصادية خلال التسعينيات، وصرنا نرى مشاركات عراقية واسعة في مجال السينما الشبابية والاحترافية والأدب بمختلف حقوله في المسابقات العربية والدولية، وكذلك حضور الفعاليات والملتقيات الثقافية، وشهدنا خلال السنوات العشر الماضية ازدهاراً لبعض الانماط الابداعية كما هو حال الرواية، والتي وجدت في فضاء الحرية النسبية متسعاً للتحرر من رقابة السلطة الرسمية، وانموذجها عن التاريخ، تبعاً للعلاقة الوثيقة بين فن الرواية والتاريخ، كما أن نشاط الصحف والقنوات الفضائية العراقية أخرجت لنا موجة من الطاقات الابداعية الشبابية في مختلف المجالات، ويمكن التعميم على كل حقول الابداع الثقافي بالمجمل.
واضاف: اما على مستوى النشاط المؤسسي، فلم نشهد تحولات كبيرة، فما زالت البنية الثقافية التحتية خاملة إن لم نقل متداعية، فليست لدينا دور نشر قوية تنافس مثيلاتها العربية على الأقل، وبات قطاع المسرح شبه معطل بسبب غياب البنى التحتية، والامر يشمل السينما، ويبدو أن الإنشغال بالصخب السياسي والتداعيات الأمنية حرف بوصلة الجهات الرسمية بعيداً عن رعاية قطاع الثقافة، أو على الأقل رعاية التراث الثقافي العراقي وتقديمه وتقريبه الى الناس.
وتابع: وفي العموم، أنا أشعر، من خلال تجربتي الخاصة، بأن النتاج الثقافي العراقي، رغم كل شيء يحظى بالاحترام والاعجاب خارج الدائرة الوطنية، ويحقق حضوراً ملفتاً ربما يتزايد في السنوات المقبلة.
من جانبه، اكد رئيس اتحاد ادباء النجف فارس حرام على أن الحكومات المتعاقبة بعد 2003 اهملت رأي المثقف، وقال: الثقافة العراقية بعد ٢٠٠٣ حدثت فيها اشياء متميزة لعل ابرزها التحرر من الرقيب الامني.. والتمتع بحرية نسبية في الكتابة.. كما كان ابرز ما فيها قدرة المبدعين والمثقفين والمهتمين على تأسيس جمعيات ومنظمات ومؤسسات تنظم عملهم.. وكانت القدرة على النشر في العالم الخارجي والسفر خارج البلد للمشاركات الابداعية، ايضًا، من ابرز ما تحقق بعد أن كان كل شيء تقريباً يمر من خلال دهاليز الحكومة والحزب الحاكم...
واضاف: لكن ابرز سلبيات ما بعد ٢٠٠٣ إننا تلقينا صدمة كبيرة تمثلت بأن سياسيي ما بعد ٢٠٠٣ اكثر تخلفًا وتراجعًا ومحدودية في تعاملهم مع الشأن الثقافي، والمفاجأة أن صدام ونظامه كانوا يحسبون للمثقف ولرأيه حسابًا انعكس لا بالطريقة الدموية والقمعية العالية التي كان يتعامل بها النظام مع كل مثقف مناوئ، وانما ايضاً بالاهتمام الخاص بحقل الصفاقة وصرف الاموال وشراء الذمم.. لا لشيء الا لأن النظام كان يعرف اهمية رأي المثقف في الشارع.. في حين أن الحكومات التي تعاقبت على بلدنا بعد ٢٠٠٣ تميزت باهمال رأي المثقف وتركه يتحدث كما يشاء من دون بذل أي جهد في الاستماع له وتجريب افكاره.. إنه أمر غريب فعلاً.. تتوج بأن يكون وزير الدفاع هو نفسه وزير الثقافة وهذا الحدث وحده لو كان في زمن صدام لرأينا اقطاب المعارضة العراقية آنذاك التي هي بالمصادفة اقطاب الحكم الآن.. اقول لرأيناهم يدبجون الخطب ويملأون الإذاعات بالصراخ بأن وضع وزير دفاع وزيرًا للثقافة أمر quot;معيبquot; للثقافة العراقية.. الآن هم يقومون بهذا.. كما لم يفعل صدام نفسه!!! غريب فعلاً!!
الى ذلك اكد الفنان التشكيلي خالد المبارك أن التشويه والتغيّب والتهميش هي السمة الغالبة على ما يحدث بحق المبدع والمثقف الحقيقي وهما العمودان الرئيسيان للثقافة، وقال: الثقافة العراقية..طالما كان هذا العنوان يرن في مسامع الكثيرين ممن يهمهم العراق وبلاد ما بين النهرين وعمقه الحضاري..فهذا العنوان كبير وعمقه اكبر كونه يحمل في معانيه الشيء الكثير والكثير....إن الآمال التي كان يصبو اليها quot; المثقف والمبدع quot;وهما المعنيان الرئيسيان بهذا الموضوع..بعد التغيّر أو مسميات عديدة لما بعد 2003 كثيرة، فهي مرتبطة بالاماني والطموحات لمجتمع افضل ننشده وينشده الجميع..وبالاصح لعراق افضل وارقى...ولكن الصدمة الكبرى هي أن التغيّر حصل بأدوات quot;محتل quot; وبمعونة...وسرعان ما تبددت الاماني والطموحات وتحولت الى سراب...فما حصل ويحصل الى حد كتابة هذه المشاركة الشيء الكثير من الجرائم بحق الثقافة وquot;الثقافة العراقية quot; فالتشويه والتغيب والتهميش هي السمة الغالبة على ما يحدث بحق المبدع والمثقف الحقيقي وهما العمودان الرئيسيان للثقافة....وما يحدث من موقف للسياسي وللمسؤولين على الثقافة...من تلاعب وتعكز على المبدع والفنان للوصول الى مآرب وغايات ذاتية ومنفعية هو الشيء الغالب والسائد...ولمصلحة الكرسي والمنصب...وما يتبعه من مكاسب خاصة...وليس لمنفعة الثقافة ذاتها...!!والتفاصيل كثيرة وما يتداوله المثقفون من حكايات وقصص واقعية...تدين المسؤول والمعني...
واضاف: ومع ذلك فللمبدع والمثقف موقف ومشاركة...جادة رغم ما يشوبها من خلط وكما يقول المثل quot;الاخضر بسعر اليابس quot;وهو مثل شعبي لما له من معنى...ومع ما يحدث...فهناك موقف مهم وجميل للمبدع الفنان...صاحب المبادىء.
اما الروائي حميد الربيعي، فقد اوضح عدة ايجابيات ومؤشرات على احوال الثقافة خلال السنوات العشر فقال:: لنكن منصفين امام حقيقة تاريخية من أن الذي حدث في 2003 هو نقلة نوعية في تاريخ الشعب العراقي على مستوى السياسي والاجتماعي بالاضافة الى الواقع الثقافي، اعتقد أن الموضوع يكون اكثر وضوحًا في الموضوع الثقافي كون هذا الجانب متحركًا داخل بنية المجتمع العراقي على العكس من الامور الاخرى التي تكاد تكون تراوح في مكانها، انا اعتقد أن النقطة الرئيسية التي تعد لصالح هذا التغيير هو اتاحة الحرية، فالحرية النسبية الموجودة الآن لدى المثقف العراقي اتاحت له الفرصة بحيث يطلع فعلاً على الثقافة العالمية من خلال توفر وسائل الاتصالات وشبكة المعلوماتية بالاضافة الى القنوات التلفزيونية، في هذا المجال استطاع المثقف العراقي أن يأخذ ما يريد بعد أن كان يعاني من حصار كبير لمدة 40 سنة، النقطة الأخرى التي تعد لصالح هذا الموضوع هو اتساع النشر، بمعنى أن المثقف العراقي ايام زمان كانت كل المطبوعات من داخل العراق بسبب الغلق، الآن اصبح بامكان الكاتب العراقي أن تتاح له الفرصة في النشر سواء داخل العراق أو خارجه، بالاضافة الى أن الوفرة المالية اتاحت للكاتب أن يطبع كتبه على حسابه الخاص، بمعنى أنه اصبح حر القرار في هذا الاطار على عكس ما كان ايام زمان حيث كان النشر محصورًا بمؤسسات الدولة.
واضاف: ما يحسب ايضًا لصالح التغيير أن ثمة حراكاً ثقافيًا من نوع آخر، بمعنى أن المثقف العراقي اصبح يراجع كل ما مر به من تاريخ ومحاولة اعادة قراءة هذا التاريخ بشكل مغاير، بمعنى اعادة تكوين تركيبة المجتمع بشكل آخر، نحن لاحظنا في العراق من عام 1920 أن تاريخنا المتراكم لم تحدث فيه نظرة موضوعية أو ثاقبة لاعادة قراءته بشكل آخر بما يلائم تكوين امة، نحن في العراق لم نخلق لدينا ما يسمى بالامة أو المجتمع المتماسك، على العكس ما يحدث لدينا طوال هذه المرحلة من بناء مؤسسات الدولة، اعتقد أن المراجعة التاريخية التي تحدث لدى الكتّاب العراقيين من الاشياء التي تتيح الى أن نجذر الثقافة في داخل تركيبة المجتمع.
وتابع: اضافة الى ذلك كل هذه الايجابيات التي لمسناها على الواقع الثقافي العراقي ثمة اكثر من مؤشر باتجاه الآخر، بمعنى أن عملية الانقطاع الحادة التي اصبحت بين المواطن والكاتب أو المثقف، هذه القطيعة طبعًا اسبابها سياسية واجتماعية، جعلت المثقف بعيدًا عن واقعه الاجتماعي لأن سيادة ما يسمى بالمفاهيم الحديثة المتداولة مثل المحاصصة والطائفة وغيرهما، بمعنى أن الثقافة العامة، ثقافة الوطن، ما عادت موجودة، ايضًا أن الحرية المتاحة حرية نسبية، اذ إن هذه الحرية من الممكن أن تسلب بأية لحظة نتيجة التركيبة الامنية أو السياسية الموجودة الآن، ايضًا طوال العشر سنوات التي مرت في تاريخنا لم تتجذر الثقافة كمفهوم، بمعنى ليست هناك قوانين تشرع لصالح العملية الثقافية من مجلس اعلى للثقافة أو حقوق المثقف أو عملية التفرغ، هذه غير موجودة، ومع ذلك نأمل على أن ثمة حراكًا في الساحة الثقافية بالاضافة الى الحراك الاجتماعي والسياسي، ومن الممكن للتجربة أن تتبلور على مر الايام.
وقال الشاعر ماجد طوفان: الثقافة العراقية بطبيعتها هي ثقافة اشكالية، ولعل التغيير البنيوي والجوهري الذي حصل في العراق بعد عام 2003 والذي تمثل بالاطاحة بنظام صدام حسين زاد من هذه الاشكالية، اذ إن التشظي الذي تشهده البلاد اليوم ألقى بظلاله المعتمة على المشهد الثقافي، ولعل وضع المؤسسات الثقافية المزري اليوم يحيلنا الى أن الثقافة العراقية وطيلة عقود طويلة هي بلا تقاليد، وبالتالي فإن الثقافة اليوم لايمكن أن تكون بمنأى عن المشهد العام الذي يعاني منه العراق اليوم.
اما الشاعر مروان عادل فقد اكد أنه مصاب بخيبة امل، وقال: الثقافة بعد التغيير غاصت وحلّقت, وصرخت وصفّقت , وتلوّنت وتعدّدت , وتأنّثت وتذكّرت وتأدلجت وتحرّرت !!! وفعلت كلّ شيء خطر ببالها وببالنا الّا شيئًا واحدًا فقط ! وهو انّها الى الآن لم تغيّر شيئاً.. فيما يجب أن يتغيّر... الدكتاتورية كانت دكتاتورية شخص وانتقلت لتصبح دكتاتورية شعب !!، شرعيات التخلف كانت شرعيات اجبارية وتحولت لتصبح شرعيات اختيارية نصنعها لأنفسنا لنقسم حولها بين ضاحكين لها وباكين منها.. اما عن الثقافة البحتة والتي هي ليست من المشكلة الا بعضها: فما زال الشاعر شاعرًا والقاص قاصاً والرسام رسامًا والفلان المثقف فلانًا مثقفًا.. والعلان المؤدب علانًا مؤدبًا.. وما زالت الثقافة بشكلها الخادع واضحة عليهم الأ انهم لم يزيدوا ولم ينقصوا الا من ناحية العدد المتناسب مع الزمن العراقي الكسيح.. انا شخصيًا مصاب بخيبة امل بحجم الحروب التي مرّت وبسعة المجاعات وطول وعرض العذابات التي تتناسل في رحم هذا الدوران الخائب حول نفس المسببات لكل هذا الظلام.