منذ quot;مدارات الروحquot; أول إصدار لها سنة 1991 و quot; عصافير القضبانquot; (1995) و الكاتبة غادة كلش تمضي في تجربتها الكتابية نحو أعماق جديدة تكشف أغوار النفس البشرية، و لا تتوقف عن التأمُّل في الذات الإنسانية الغريبة بأبعادها العميقة و البعيدة. تدرُّجٌ نجده في كل إصداراتها نحو بلوغ الأعمق حتى في كتابها الفلسفي حول كينونة الإنسان quot; مركزية الأناquot; لا نخرج من فضاء غادة التأملي ، أما كتابها quot; عكس الريحquot; فهو من أهم التجارب الكتابية التي قدمت جزءا من السيرة عن quot; الأناquot; المتجردة من فحواها الأناني و ذوابنها في قيم العطاء للآخر. تجربة قاسية و مؤلمة و فائقة الجمال في الوقت نفسه، تكشف شفافية غادة التي نجدها في الطيف و الأثر بصيغ أخرى.
فقارئ غادة كلش هذه المرة في quot; الطيف و الأثرquot; يجب أن يبدأ تصفُّحَ كتابها من الغلاف الأخير: quot; أوقن بأنني لن أبقى إلا وحدي
و لن يراني أحد، و إن رآني، أبقى وحدي.
و لن يقرأني أحد. و إن قرأني يبقى وجدي منعزلا في كنه رشدي.
و لن يفهمني أحد. و إن فهمني، لن يدرك مدار زهدي.
أنا أصغي إلى نفسي.
و أسمع لحن عمري، كنغم لا يُسري و لا يُجدي.quot;
هذا هو مفتاح نصوص غادة، و هنا نكتشف غادة quot; الطيفquot; التي تترك quot; أثراquot; كهذا ، عميقا في ذواتنا، محفزا لإنتشالنا من السكينة الوهمية التي نعيشها دون إنتباه ...
هذه هي غادة، شفافة، و ناعمة، تهب مثل نسائم ربيعية نشعر بها و نحب وجودها و نكاد لا نراها إلا حين تلامسنا بنعومتها المعهودة.
هذا النص ، قرأته عدة مرات، و شعرت أنه مثخن بحزن خفي، فغادة لا تتقن الصراخ، و لا تتقن بهرج الكلام، و كرنفالات النحيب، لهذا تترك أثرها الجميل رسالة تختصر عمرا من الوجود الذي يشبه اللاوجود، ذلك الحضور الآني، الذي يفتقد إلى ثبات الأبدية، حضور يصمد عبر الأزمنة بطيف و أثر.
الرؤية عند غادة كلش لا تتوقف عند الملموس، فلكل كائن حقول من الأطياف، دوائر إيجابية و أخرى سلبية تحدد علاقاتنا، هالات تحتوينا أو تنبعث منّا تتقاطع أحيانا و تتنافر أحيانا أخرى ، و تتضح الصورة أكثر حين نقرأ لها عبارة كهذه مثلا : quot; لا يتخاطر كائنان إلاّ عندما تتلاقى في روحيهما إرساليات واحدةquot; فثمة سرٌّ في التّخاطُر، و التخاطب الروحي الذي يسبق اللغة يكمن أولا في هذا الطيف الذي لا نراه و لكنه واجهة سرّية لأجسادنا و أفكارنا و نواينا، quot; أنا كائن روحي، أمضي بكلماتي نحو المعنى، من دون أن أرتطم بالمادةquot; نعرف أنّ المنبع هو الذات، و ما تتحدث عنه غادة هنا، ليس ضربا من الخيال، فلكل جسم طيف تنبعث منه إشعاعات من الطّاقة، لكنها فسّرت جيدا عمل هذه الإشعاعات اللامرئية برؤاها الخاصّة جدا.
لكأنّ هذا الكتاب تتمة للنّظرية الفيزيائية المعروفة عن الأطياف، بلغة أدبية جميلة لا تخلو من الحكمة و خلاصة التجربة التأملية العميقة لغادة.
في الذات أمور كثيرة قد يجهلها الفرد عن نفسه، فإدراكنا الحسي للذات يشبه إدراكنا للأشياء التي حولنا و quot; قد تكشف أمارة واحدة فقط، ذلك الفارق بين الفَهم و الوهمquot; ..فجأة يصبح الأمر غير ما كنّا نراه، quot; نفسك هي بيتك الأغلى قيمة في الحياة، لا تبع هذا البيتquot; ...أليس مدهشا أن نكتشف حقيقة كهذه؟
نصوص غادة القصيرة، أو خواطرها، هي نصوص اللحظة التي تجمع الماضي و الحاضر و المستقبل، نصوص تجذب القارئ المستعجل الذي لا يملك موهبة البقاء مع نص طويل ، لكنها أيضا متتالية توهم القارئ نفسه أنه لم يقرأ الكثير، فيما هو قد وقع في فخ كتاب بحجم 100 صفحة تقريبا.
إنها حيلة هذه النصوص التي تجرُّ القارئ بجمل قصيرة، كل جملة منها لها خاصية مختلفة عن الأخرى، فبعضها يشبه قصة قصيرة جدا، و بعضها يشبه الشعر و البعض الآخر يتأرجح بين الحكمة و النظرة الفلسفية للحياة.
و هذا النوع من الكتابة موجود بكثرة في الغرب و يسمى بمُحرّكات التفكير، لأن العبارة لا تنتهي عند قراءتها، فسرعان ما توَلِّد تساؤلات و توارد أفكار لدى القارئ. لكنها في عالمنا العربي جاءت متأخرة على شكل لغة الرسائل الهاتفية القصيرة، و لغة تويتر، و فايسبوك، و مواقع التواصل الإجتماعي المختلفة التي تعتمد برقيات قصيرة للتبيلغ عن حالة الذات و الوضع العام حولها.
سبقت غادة زمن الفايسبوك و تويتر بسنوات، و أظن أن كتاباتها كان من الممكن أن تكون مادّة دسمة لمحرّك مهم على الشبكة العنكبوتية و كانت أرباحها ستكون خرافية لو أننا قسنا وزن المضمون بشكل مادي.
الطيف و الأثر بأجزائه الثلاث هامش جمالي يخاطب الوجدان من خلال مدارات النفس و الحياة و الطبيعة كما قال الناشر في مقدمة إختصرت الكتاب بعين ثاقبة. لكنه أيضا سفر غريب بين رحلة الطيف و رحلة الأثر، لأنه يقيس المسافة بين الكائن الإنساني و مداراته الخفية بدءا من أعماقه التي لا ترى بالعين المجرّدة إلى الأثر الذي لا يتلاشى أبدا و يمتد إلى حياتنا الثانية.
الطيف و الأثر للكاتبة غادة علي كلش ، صدر عن دار درغام ، بيروت آذار 2013 .
كاتبة جزائرية مقيمة في بيروت