تتمثل الصورة، المتمثلة برباعيات عمر الخيام، التي يعاين القارئ من خلالها جهد الشاعر محمد مظلوم اليوم في هيئة رؤية نظرية نقدية، جمالية ومتفحصة للنص الشعري المترجم تنطلق من بحث وتأملات والتقاطات حول المعنى والدلالة والمعيار الجمالي، ومعايير اللغة وامكانية الترجمة المتجاوزة وطبيعة المنظومات التفسيرية المتصلة بالنقد، وعلاقة اللغة بالمعرفة الفنية، وقد يكون من اللافت حقاً أن البلورة البحثية التي أنجزها محمد لهذه النصوص بكتابه الصادر عن منشورات الجمل، عبر ثلاث ترجمات عراقية رائدة لـــ: أحمد حامد الصراف(1921) وجميل صدقي الزهاوي (1928) وأحمد الصافي النجفي (1931) قد جاءت في إثر تحول لغوي وبحثي، نقدي وجمالي .
يفيد محمد في مراجعاته وإشاراته النقدية المتصلة بترجمة رباعيات الخيام، من مصادر متنوعة، كترجمة عيسى أسكندر المعلوف، وديع البساتي وأحمد حافظ عوض، ويقيم مقدمته النقدية على أساس أن ثمة اختلافات جوهرية بين النص الأصلي والمترجم، وأن النص الأصلي يحوي بداخله من التركيب اللغوي ما يمكنِّه، أحياناً، من تجاوز محنة الترجمة أو خياناتها وأن هذه القدرة على التجاوز هي سبب ونتيجة، في ذات الوقت، لطبيعة الرباعيات ولغتها، ومن الطبيعي أن تمثل هذه الرباعيات عناصر لغوية فنية كافية لتأسيس مفترقات نوعية ومغايرة عن المنظور الفني الذي دشنته حقبة البدايات الأولى للترجمة وما قبلها وما تلاها من تحديث وتجديد قاما على نفي تجربة التنزيه اللغوي، المتصل بالنص المترجم، وأن يكون النص جزءاً مما يرى القارئ أنه اتجاه جمالي جديد في عالم الترجمة بالرغم من كل محاولات التنقيح ـ الضخّ التي اشار إليها محمد بقوله: (وإزاء محاولات التنقيح المستمرة لتمييز الأصيل من الدخيل في الرباعيات كان هناك بالمقابل ضخّ متوازٍ لم ينج منه الخيام) .
تحتكم قراءة محمد النقدية إلى استخدام أسلوب معرفي لدراسة الظواهر الفنية واللغوية من خلال النماذج المترجمة المختارة بجهد جمالي نادر، وبعض الملحقات المترجمة اللاحقة التي اشار اليها محمد في نهاية الكتاب كترجمة طالب الحيدري (1950) ومهدي جاسم الشماسي (1968) وعبدالحق فاضل (1951)، يستبعد بعضها لعدم فنيتها ويستبقي بعضها الآخر، ثم يرتبها ترتيباً جمالياً وينسقها تنسيقاً نقدياً بحيث تصبح، من وجهة نظره، مترابطة لغوياً ومماثلة للعلاقات الفنية واللفظية والرمزية المتصلة بالنص الشعري المترجم ودلالاته، وهكذا يحتفظ النص المترجم، من الناحية اللغوية أو الاوزان المتصلة ببحور الشعر على الأقل، لنماذجه التفسيرية المتصلة بفنية اللغة وبهامش من النسبية بين درجات المعيارية النقدية الموازية لهذه النماذج الشعرية المترجمة من الرباعيات .
إن حساسية محمد مظلوم الشعرية في الالتقاط والبحث في تفاصيل النص لغوياً وفنياً ثم التجريد والمقاربة والمقارنة، كل ذلك أظهر مهارة نقدية ـ بحثية مختلفة تتعلق في بناء التصورات الجمالية للنصوص، ولعل من خلال هذه الميزة أو الجهد النقدي يستطيع القارئ أن يبني تصوره الجمالي الخاص في الشكل الفني ـ اللغوي للرباعيات، لكن بمنتهى الحذر، وهذا الأخير يؤتى من مأمنه كما تدل المفارقة الشاخصة عادة .
بحث محمد في هذه النماذج المترجمة بوصفها شكلاً شعرياً لا يأخذ شكل متتالية تتحقق في الزمان بل تأخذ شكل نماذج شعرية تتبع الواحدة الأخرى وليُظهر جماليتها المتمركزة في المعنى المقابل للدلالة، جمالية تشغل مركز القراءة مقابل النقد أو رصانة البحث، وبهذا تصبح الرباعيات، كما يبدو لي كقارئ، وحدها هي المركز المتصل باللغة ليبدأ الشكل الجمالي، للنص، في الحضور ثانية .
إن هذا البحث الجمالي، في طبيعة هذه الترجمات، هو ما يدأب محمد على تتبعه في شكل النص الشعري المترجم منذ ظهور رباعيات الخيام وانتهاءً إلى اللحظة الراهنة، وقد أفرد هذا الجهد البحثي لرباعيات الخيام مكانة شعرية خاصة، ما يعني أن هذا الجهد يرتقي إلى قراءة نموذجية نادرة تُعين القارئ جمالياً وتعبر، في نفس الوقت، عن جوهر الرباعيات اللغوية والفنية، وتفرق بين الترجمة الشائعة التقليدية، المباشرة والمعجمية للنصوص وبين الترجمة الناقلة للمعنى أو مضمون الكلمة ـ الجملة الشعرية، إن محمد مظلوم يضيف بذلك اجتهاداً وتفسيراً جمالياً آخر إلى مجمل المحاولات العربية لترجمة رباعيّات عمر الخيام، إلا أن ما نريد الإشارة إليه في هذه القراءة النقدية الموجزة هو الموقع الذي يسديه محمد لخصوصية النص المترجم، عراقياً، والتبعات النقدية التي تنجر عن مثل هذه الترجمات المختلفة إذ يقول: (هناك خصوصية في الترجمات العراقية الثلاث للرباعيّات هنا، كونها تخلصت وبشكل كامل من عبء ترجمة فيتزيجيرالد) وهذه إشارة جمالية محضة .
إن هذا الكتاب هو من ذلك الشكل المغاير الذي يرسل زخماً من العلامات والإشارت والالتقاطات النقدية الرصينة في اتجاهات متعددة دفعة واحدة، وفي مستويات هذه الكتابة البحثية وتدليلها يعثر القارئ على الجملة الشعرية الخالصة التي كتبها عمر الخيام في رباعياته، كما تدعونا هذه الكتابة أيضاً إلى التأمل النافذ والاستنتاج النقدي المجرد، ومن هنا أيضاً نكون أمام كتابة لا تغني الشروح أو المصادر والهوامش والملاحظات المعاينة لظلال النصوص المترجمة وطرائقها التعبيرية وحسب بل تقدم نفسها بوصفها إشارة كينونة لها استبصارها الشعري كما لها جمالها اللغوي الموازي للبحث والتقصي والمثابرة إضافة إلى فطنة الشاعر محمد مظلوم ومواظبته على تقديم مادة نقدية جمالية بأسلوب مغاير، أقل ما يقال عنه أنه يستحق التأمل والقراءة .
إن ما يقدمه محمد، في كتابه، هو صياغة مثلى يمكن أن نلمس في إشاراتها وقع اللحظة الشعرية المنطلقة من المعنى المتصل برباعيات الخيام أو بعددها أو عددُ ترجماتها فيشير هنا: (وخلال مائة عام منذ أول ترجمة لها بلغ عدد الترجمات العربية للرباعيّات العشرات (65) ترجمة حسب إحصائية يوسف بكار و (52) ترجمة حسب إحصائية عبدالمنعم الحفني) وبقدر ما يكون الإحساس الجمالي بالمعنى الشعري، حسب هذا العدد من الترجمات، متفاوتاً يصعب، أحياناً، اكتشاف المعنى نفسه من خلال القراءة، ومع هذا علينا أن نمضي في الاستنتاجات النقدية لما هو أبعد من المعنى ومن الزاوية التي تنبثق من الدلالة المنبثقة أصلاً من التحولات اللغوية والفنية المتصلة بالترجمة . ثمة إشارة أخرى، تتصل أيضاً بعدد الرباعيات نوردها هنا: (لم يكن متاحاً معرفة عددها الحقيقي وهذا ما يحدث عادة بدرجات متفاوتة في كثير من النصوص الفذة/قصيدة مالك بن الريب ومرثية الأندلس لأبي البقاء الرندي وغيرها من الأشعار الخالدة) .
ثمة مفارقات كثيرة متعلقة بشخصية عمر الخيام أو صفاته مثلما هي متعلقة بعدد الرباعيات وعلينا أن نأخذ في الحسبان شكل أو خصائص هذه المفارقات المتنوعة التي يتصف بها الخيام، وعلى الأرجح سيكون من المفيد أن نتذكر أن صفات الخيام التي تتزيا بزي المتصوف والشهواني مرة وبزي الفيلسوف والعالم مرة أخرى هي صفات أعجز من أن تحتكر كل الحقيقة المتصلة بماهية الشاعر، فهذه الأخيرة ينبغي البحث عنها في لعبة أختلاف الصفات المتنوعة وتوارداتها الموازية للقراءة النقدية وتفرعاتها أيضاً ويمكننا الإشارة في هذا المقام إلى ما أورده محمد هنا: (كلما ازداد عددُ الرباعيّات المترجمة طغت معضلة الرباعيّات الجوالة على سطح الترجمة فبدت شخصية الخيام من خلالها شخصية هلامية) ويضيف أيضا: (ويشكل العدد الحقيقي للرباعيّات في تصور كل مترجم معضلة/من هنا تصبح ملاحقة النص الأصلي هي المعضلة الأولى قبل أن نبحث عن دقة الترجمة بين مترجم وآخر) .
خاتمة: لفرط ما اهتم محمد مظلوم، في كتابه هذا، بلغة عمر الخيّام الشعرية وتفسير عمليات شرح الرباعيات المترجمة وقراءتها وطرائق تحقيق المعنى الشعري والمقاربة بين الأوزان الشعرية، فقد عرفت التقاطاته النقدية ميلاً متزايداً إلى الاهتمام باللغة وتحليل الدور الذي تؤديه، والحق أن كتاب محمد خرج في خطوطه أو إشاراته البحثية عن المنظورات التقليدية التي تهيؤها جملة المؤثرات النقدية الشائعة، كتاب يمثل خلاصة تأملية لأفكار عمر الخيام ورباعيّاته المترجمة، كتاب يطرح الفكرة الموازية للمعنى الشعري المترجم الذي يقوم على تصور جمالي يجعل اللغة الشعرية نظاماً مؤلفاً من أبنية فنية متنوعة فتكون الدلالة المعيارية فيه هي الأصل، كتاب يقوم بتدريب مخيلة القارئ على استقبال رباعّيات الخيام المترجمة بطريقة مغايرة وعلى فحص الالتباسات اللغوية بين المعاني المتعددة وتحولاتها اللفظية أو تراكيبها الجوهرية المختلفة .
&