هذا الاقتصاد اللغوي من ثلاثين بيتا إلى جملة من 14 كلمة، يعتبر أول شرارة لما سيسمّى حركة الصوريين، التي لعب باوند دورا كبيرا في تكوينها، إلى أن تحوّل إلى حركة quot;الدوّاميةquot; مع ويندهام لويس. أصعب ما في هذه القصيدة هي كلمة Apparition التي تعني، هنا، ظهور مفاجئ، وكأن هذه الوجوه هي أشباح وجوه معارف تراءت له واختفت. ولذلك استغرقت كتابتها ما يقارب سنة ونصف، لكي يعيد الحدّة الكبرى والوقع الأول لهزّة النفس التي انتابته في المترو. في الحقيقة، إن عظمة هذه القصيدة لا تكمن في الصورة بقدر مافي هذا الانتقال الذهني من السطر الأول إلى الثاني.من المشهور أن quot;الصورةquot;، وفقا لباوند، quot;ليست وصفا بصرياً، وإنما هي مركّب ذهني وعاطفي في لحظة من الزمن، وإنّها ملموسة وليست مجرّدةquot;. فمثلا في قصيدة المترو، ثمّة استعارة واحدة ألا وهي الوجوه مرئية كبتلات. في البيت الأول يرى وجوها تظهر من بين الزحام، وفي البيت الثاني يرى بتلات ملتصقة بغصن شجرة اسود. وعندها فقط يحصل التأثير: يضع القارئ، في نهاية القصيدة، الوجوه فوق البتلات، والبتلات فوق الوجوه. وها هو التأثير، في هذه القصيدة، ليس تراكميّاً وإنما مفاجئ، يتم خارج الكلمات. ولو وضع quot;كـquot;، أو quot;تشبهquot;، لكان قلل من تأثير القصيدة المفاجئ، من صورة قادرة على احداث تأثير عاطفي على القارئ. وليس مصادفة أن يعرّف باوند الشعر على أنه quot;ضرب من ضروب الرياضيات المُلهَمة، يمنحنا مُعادَلات، ليست لأشكال مجردة، مثلثات، أجسام كروية ولما شابه ذلك... وإنما مُعادلات لعاطفة البشرquot;.
نضيف أن المترو الباريسي كان مشهورا بظلمته آنذاك، ويقارنه باوند هنا بالغصن (فرع الشجرة الكبير) الكالح والمظلم بسواده...البتلات، هنا، هي رمز النور والجمال الأنثوي. كما أن البيت الثاني يوحي لنا بالرسوم اليابانية، وهذه إشارة إلى الهايكو. والترجمة الحرفية للعنوان هي quot;في إحدى محطات المتروquot;.وللاستفادة، وضعتُتلخيصاً (بعد القصيدة) لنص صغير كتبه باوند يشرح فيه ظروف كتابة هذه القصيدة.

هنا ترجمةوفق النسخةالتي ظهرت عام 1913 في مجلة quot;شعرquot; الأميركية. وللعلم أن هنرييت مونرو، مؤسسة المجلة، سألتهعن سبب وضع فراغات طويلة بين بعض الكلمات... أجابها باوند أنه كان حريصا...على ضرورةتبيان الفراغات بين الوحدات الإيقاعية، وأرادها أن تكون ملحوظة.

في محطة مترو


تَرَائِي هذي الوجوهِ في الزِّحام :
بتَلَاتٌعلى غصنٍنَدِي،أسود .

عزرا باوند


باوند: quot;وأنا أخرج من مترو باريسي، رأيت فجأة وجها جميلا، ثم وجها آخر، وآخر، ثم وجه طفل جميل، وامرأة جميلة، حاولت النهار كله أن أعثر على كلمات لما كان يعني هذا بالنسبة إلي، فلم يَسَعني العثور على اية كلمة تبدو لي في محلها، أو جميلة جمال ذاك الانفعال المفاجئ... وفجأةً، وجدت التعبير.. لا أقصد أني وجدت الكلمات، وإنما جاءت معادلة... ليس كلاما، وإنما بقعَ لونية صغيرة... كانت كلمةٌ، بدايةُ لغةٍ لونية،بالنسبة إلي.لا أعني أن لا عهد لي بقصص روضة الأطفال حول تشابه الألوان بالنغمات في الموسيقى. اعتقد أن هذا هراء. فإن حاولت ان تكتب نوطات تنسجم لأمد طويل مع ألوان خاصة، فكأنك تربط الرموز بمعان ضيقة. في تلك الأمسية، في شارع رينوار، أدركت بشكل حيوي أني لو كنت رساما، أو لو كان عندي ذلك النوع من الانفعال، أو حتّى طاقة العمل بالزيت والفرشاة والمواظبة.. لكنت قد أسست مدرسة رسم جديدة، رسم غير تمثّلي، رسم يفصح فقط عبر ترتيب لوني. باختصار تجربتي الباريسية كان عليها أن تنتهي في الرسم.
القصيدة ذات الصورة الواحدة هي شكل من أشكال التراكب، أي وضع فكرة فوق أخرى. وقد وجدت هذا يساعدني على الخروج من الطريق المسدودة التي تركني فيها انفعالي في المترو. كتبت قصيدة من ثلاثين بيتا، ثم مزقتها لأنها كانت ما نسميه بعمل quot;الحدّة الثانيةquot;. وبعد مرور ستة أشهر، اختصرت القصيدة إلى النصف؛ وبعد مرور عام، كتبت الجملة التالية المشابهة للهايكو (انظر القصيدة).
يَسَعُني القول إنها بلا معنى، إلا إذا مِلنا إلى وجهة فكرية معينة. ففي قصيدة من هذا النوع، يحاول المرء أن يدوّن اللحظة المضبوطة حين شيءٌ خارجي وموضوعي يحوّل نفسه، أو ينفذ إلى شيءٍ داخلي وذاتيquot;.