يتشكل الوعي الجمالي في القصيدة من خلال هذه الارتباكات الدلالية التي تبثها الشاعرة بشكل عفوي ما بين الأسطر والعبارات. إنها تأتي نتاج هذا العمل المدهش الخلاق الذي يقوده الانفعال، ويتخلص به التداعي الحر من منطقيته. كأن الوعي المكتمل بطرفيه:" الوعي + اللا وعي " يغمر القصيدة دائما بدهشاته، ربما بعلاقات سياقية غير متوقعة، ربما بتركيبات دلالية غير معهودة، أو بأفق عباري غير مطروق، قد لا تعرف الشاعرة من أين يأتي، وكيف يتسلل إلى أسطر قصيدتها.
&وإذا كانت القراءة النصية تربط وعينا القارىء بالسياق الذي يدرج فيه النص، فإن قراءتنا النصية هنا تلوذ بجملة من الرؤى قوامها التركيز على آليات الأسلوب الشعري، وما ينطوي عليه من خواص وملامح، ومن ثم رصد هذه الآليات والخواص ونظمها في شكل دلالي يمكن تأويله، والإفصاح عن مكامنه وغاياته. لا للوصول إلى قصد النص بالضرورة، ولكن لفتح أفق رحب من الأسئلة، ومن ثم ملاحظة التكوين الاستاطيقي والدلالي لحركة النصوص وما تختزله من رؤى وما تقدمه من تصورات لرصد هذه العلاقة المتشابكة بين الذات الشاعرة والعالم.
&
&المكون الذاتي:
بكل حواسها تعشق الذات الشاعرة الآخر، لا تبحث عنه فهو يتمتع بحضور دائم، ولا تتساءل عن وجوده، إنما تصفه ، تعانقه، تتماهى به. الآخر العاشق في هذا الديوان موصوف، يُتغزل به في نسق دلالي يصل إلى الامتزاج الإيروسي . الذات الشاعرة في الديوان لا تتوارى إنما تتقدم الوصف، وتطيع الرغبات لتصل إلى لذتها الحسية، بالكلمات ودلالاتها ومعانيها.
&يضم ديوان :" حواس عاشقة" ( دار الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى كانون الثاني 2014) للشاعرة إيلدا موسى مزرعاني ( 31) قصيدة، منها قصيدتان تعبران عن الوطن – من وجهة مضمونية- هما :" اغتيال وطن" و" حوار من عالم آخر" وبقية قصائد الديوان تتوجه إلى " العاشق" الذي يسكن الحواس في تكرار دلالي جلي تسعى فيه الشاعرة إلى الوصول بقصيدة الحب إلى أبعد دلالاتها.
&فلم تعد المرأة/ الشاعرة اليوم هي الطرف الأكثر سكونا وخجلا، ولم تعد هي الطرف الساكن في علاقة الحب، بل إنها تستشعر بوحها وتستشرف أحاسيسها بشكل جلي. إن الشعر هنا يكتسي قدرا من المساواة التأملية التخييلية بين الأنا ( العاشقة) و الآخر ( العاشق) لقد خطت المرأة الشاعرة خطوات في مدارج هذا السبيل.
&وإذا كانت الشاعرة إيلدا مزرعاني تقدم بوحها بكل شفافية في هذا الديوان فهي تعبر ، فيما تعبر، عن هذا الاستشراف الحقيقي لإبراز قدر من الحرية الكتابية لدى المرأة ليصبح صوتها أكثر صخبا وأكثر وصولا في الآن نفسه.
&إن المكون الذاتي الذي تتقصده القراءة هنا يتجلى في البحث عما يومىء إلى هذه الذات التي تتشكل وجدانيا بقصائد الديوان، وتشكل البداية الأولية لهذا المكون في التصدير الشعري الواقع في ثلاث صفحات وفيه توجه كلامها للآخر/ العاشق،& مجلية هذه الدلالات التي تشكل رؤيتها له، ولم تقدم له قصائدها، حيث تقول:
" أخاف ألا أرث من يديك حكمة الأنبياء، ألا أمشي في عينيك ندرة الماء، ألا ينصفني عطرك حين أغفو بلا سماء، ألا تنبضَ في يدي كضحكة ترسم دربا لخط الأمل، ألا أشهد أنك نجم علتي وصلاة المساء" / ص 8
&إن الذات الشاعرة تعول كثيرا على حضور الآخر، وهي تنشد أن يرى هذه الكلمات، يبصرها، أن تصله رسالتها وفحواها، وأن يبادلها حبا بحب . وهو ما ترتجيه كإطار كلي لقصائد الديوان.
&إن الذات الشاعرة في حالة عشق طاغ، والعاشق يصبح رسولا ونبيا وإماما كأنه " مخلّصٌ عاطفيٌّ" وهو يأتي في مجاورات تشبيهية كثيرة ، تستهلها الشاعرة بداءة ب:" الطائر" و" النبي" و" القمر" و" المطر" و" العطر" و" الكحل" وهي كلها مجاورات تشبيهية لكلمة: العاشق.
&في القصيدة الأولى بالديوان المعنونة ب:" يا طائري" نحن حيال هذا العاشق / الحلم الذي يتخايل كطائر، يضرب بجناحيه القلب، فيستعيد جموحه العاطفي. الشاعر تتخذ الطائر صورة للعاشق، أو العاشق صورة للطائر وهو طائر لا يحلق فحسبن ولكنه يتحدثن ويصبح في القصيدة عطرا، وقمرا، ومحررا وقادرا على التغيير:
يا طائري سمّ الأرض
نحل الفقراء
والعطور فخامة الأنقياء
ورتل بيني وبين سكوني
مالي فيك من جنون الجسد
في مساحة حواسك
وبركان شغفي.& ( ص: 13)

&إن البحث الدائب للذات الشاعرة عن لذة الحب، صنع لدى الشاعرة حالة من التوهج الحسي لاختيار المفردات الأكثر تعبيرا عن هذا التوهج، وهو ما نراه متجليا بوضوح في قصائد الديوان.
التشكيل الإيروسي:
&
لعل في تأكيد الشاعرة على ما هو جسدي في نهاية المشهد ما يشير إلى الاحتفاء بما هو حسي أولا، وما هو إيروسي وروحي، وما هو اجتماعي أيضا، لأن الجسد ليس مجرد حالة حسية إيروسية فحسب، ولكنه حالة اجتماعية بالمفهوم الذي يطرحه كرس شلنج في كتابه:" الجسد والنظرية الاجتماعية" حيث يرىأن ثمة " نزوع عند الناس في حقبة الحداثة العالية نحو منح قدر أكبر من الأهمية للجسد أداة لتشكيل الذات، ولم تعد بنى المعنى المتجاوزة للشخص توفر له رؤية واضحة للعالم أو الهوية الذاتية، أن الجسد يؤمّن أساسا صلبا لإعادة بناء معنى للعالم الحديث جدير بالثقة. الراهن أنه يمكن اعتبار السبل المسرفة في تأمل الذات الت يرتبط عبرها البشر بأجسادهم، إحدى علامات الحداثة العالية الفارقة، فضلا على ذلك فإن مناطق الجسد البرانية، أو سطوحه هي التي ترمز إلى الذات في وقت يحظى لجسد الفتي، النحيل، والمثير جنسيا بقيمة غير مسبوقة" . ( كرس شلنج: الجسد والنظرية الاجتماعية، ترجمة : منى البحر، نجيب الحصادي، مطبوعات كلمة أبو ظبي - الإسكندرية: دار العين للنشر الطبعة الأولى 2009 ص.ص 21-22)
ويبدو أن مفهوم " الحداثة العالية" الذي استخدمه أنتوني جيدنز جاء " لوصف التغييرات المتطرفة التي طرأت على التيارات الحديثة في القرن الفائت ". ( السابق ص 21)
إن إيلدا مزرعاني تشكل مكونها الذاتي هنا، حسيا وجسديا، وهو كذلك تركز على الإضاءات التي تسمح بها الحواس في مراقبة ورصد الأجواء الوجدانية التي تمنحها حالة العشق المتكررة المبثوثة على امتداد الديوان بتحولاتها الدلالية المتعددة.
&ومن هنا فإن الصوت العالي للأنا على الرغم من تمثله قيم العلاقة مع الىخرن يبدو صوتا معبرا عن الذات حينا، ومعبرا عن الآخر ايضا لأن هذه الذات في حاجة دائمة لآخر، في سفر دائم صوبه، سواء على مستوى الاقتراب المباشر أم على المستوى المجازي لخطاب الشعري .
&فالأنثى دائما في مقابل الطائر (ص 10) أو النبي (ص 15) أو القمر (ص 16) وتوجيه الخطاب إلى ضمير المخاطب " أنت" يتكرر في فضاء الحاجة لآخر " حاسة أنت" (ص 18) ، و" أنت حاسة سريري" ( ص20) كما نجد في هذا المشهد تمثيلا:
أنت مطرُ ترابي
عطر أمي
كحل لغتي
وأمشاط سنونواتي
ال " أنت" هو كل شيء حتى في الذكرى أو الذاكرة، أو في استدعاء العلاقة مع لأم، في بداية الكلام وتعلم اللغة، إنها حالة اللجواء الدائم لا إلة ما هو حس فحسب لكن إلى ما هو اجتماعي وجدانيز ثمة إلحاح دائم من قبل الذات الشاعرة، حتى وهي في أوج الاستدعاء الإيروسي تحول ذلك كله إلى رقصة أنثوية طفولية، كما في قصيدة:" حاسة أنت" ( ص.ص 18-20) التي تصدرها بقولها – كعادتها في تصدير كل قصائد الديوان- :" كيف يطفئك غيابي وقد تركتُ فيك نارًا تكفيك نهرا وأكثر" ولنلحظ هنا التضاد الدال بين (النار – النهر) كان النار الإيروسية هي التي تطفىء الظما وتتحول إلى رِيّ ونهر.
&في قصيدة :" حاسة أنت" تنشطر الذات الشاعرة إلى شطرين: الذات العاشقة بما أنها هي الراصدة وهي المكتكلمة في النص التي تنتج العلاقة الوجدانية مع الآخر وتصفها وترصدها، والذات الأخرى هي ذات طفولية، متذكرة مستدعاة لترتكب فعلا جماليا في القصيدة، بحيث تحيل دلالاتها إلى حالة من البراءة الحسية، وإلى إعادة بث الزمن الأنقى الطفولي في دوال القصيدة ومحتواها المعنوي:

في ليلكِ نعاسك
أبقى
طفلة نومك
أمارسُ شيطنة
أنوثتي
ببراءة أنفاسي
ونار قداستك.
أعلق بين أصابعك
حلواي
أترك ألعابي
على أغصان يديك
أهز فيك سريري
وتعد لي فساتيني
أدخل مدينة حضنك
وأتمايل فردوسا ومرمرا
تعد لي عسلا بلون عينيكَ
وانسكاب ضوئكَ
في غناء دمي
" هس . هسز بهدوء"
طفلتي تنام على صدرك
وتحلم بأكثر من عينيك
شيطانة تلك المرأة
تنام طفلة
وتحلم بنجمتين عاريتين
ترقصان
على ضحكة حافية
إيقاعها نبض يسارك
في سمع يمناي
أنت حاسة سرير
تعلم حلمي
رقصة أنثاي.
يتجلى هذا الانشطار الشعري في القصيدة ما بين الذات في حالتي: الأنوثة، والطفولة. ما هو جسدي حسي هنا تحول إلى لعبة طفولية، لكي تتخذ مغزاها الجمالي الفطري . كأن ممارسة الحب هو فعل أولي لكنه ممتلىء ببراءته ونقائه. وإذا قرأنا النص في حالته الطفولية- الأنثوية، ستتحول جل مفرداته إلى قيمة تشبيهية ومجازية واستعارية تدل على العب الجسدي الإيروسي، من بداية النص حتى نهايته التي يتحول العاشق فيها إلى حاسة سرير، تعلم الحلم، وتفضي إلى انشطار الأنثى لترقص في ألق طفولي عارم.
&وتخلق الذات الشاعرة وضعها الأنثوي محددة بشكل حركي مواضع اللقاء، فيما يشكل السرير مكانا حسيا أسمى تتجلى فيه هذه العلاقة الوجدانية، سواء كان على نطاق الحلم أم اللا حلم. لكنه يحتضن – مكانيا – هذه العلاقة التي تجليها الشاعرة بشكل نزق:" أهز فيك سريري" كأنها تجعل النص يتجسد ويرى ويتكلم، في أفق شعري خصيب برؤاه الدالة.